28-يناير-2024
الشيخ الشهيد أحمد ياسين

الشيخ الشهيد أحمد ياسين مؤسس حركة حماس

سنوات عديدة مرت على انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية حماس، نتذكر بفخر مؤسسها الأول وأباها الروحي، الذي كان يؤمن بالتحرير إيمانًا راسخًا لا يساوره شك، ذاك الشيخ القعيد، هزيل البدن، عليل الصحة فيما يظهر، صاحب الروح المتقدة والإرادة الحديدية، الذي وإن أقعَد المرض جسده، فإن روحه كانت وظلت طليقة لا يكبلها قيد ولا احتلال.

"إننا طلاب شهادة، لسنا نحرص على هذه الحياة، هذه الحياة تافهة رخيصة، نحن نسعى إلى الحياة الأبدية".

 

ميلاد الجسد.. في عسقلان

شهدت قرية الجورة/ عسقلان، إلى الجنوب من قطاع غزة، ميلاد من سيكون لاحقًا أكبر المناضلين وأشرسهم عداوة لإسرائيل، في عام 1936 ولد أحمد إسماعيل ياسين جنوبي قطاع غزة، ولعل حياة هذا القائد التي تزامنت مع أول ثورة فلسطينية مسلحة ضد الانتداب البريطاني آنذاك، ضد سياسة التهجير والتوطين اليهودية، لعلها كانت خير استفتاح لحياة ملأى بالجهاد، لرجل صدق ما عاهد الله عليه.

 

حصار البلد.. وحصار الجسد

ولد الشيخ أحمد ياسين في عائلة تتكون من 7 أخوة، وتيتم في باكورة سنواته حين كان في الخامسة من عمره، ليظل في كنف أمه التي أحسنت أمانتها بتربيته هو وإخوته. وبعد مضي سنوات قليلة حلّت النكبة التي لم يسلم منها أحد من الفلسطينيين، إذ هاجمت قوات الاحتلال الإسرائيلي قريته في 1948 وهدمتها وهجرت أهلها، فنزح مع من نزحوا إلى قطاع غزة، وذاق ضنك العيش ككل أهلها وعانى مما عانوا. كما اضطر إلى عدم إتمام دراسته والتوجه إلى العمل بهدف إعالة أسرته. قبل أن يُقعَد.

كان المتنفس الوحيد لأهل القطاع شاطئ غزة وبحرها شاهدًا على الحدث الذي أدى إلى إصابته بالشلل التام، حيث كان يلعب مع أترابه وهو ابن 16 عامًا، فتعرض لإصابة خطيرة في فقرات العنق أثرت على حركة أطرافه، وسببت له الشلل. 

 

هاجس طلب العلم

رغم أن الشيخ أحمد ياسين اضطر إلى الانقطاع عن دراسته 3 سنوات للعمل، إلا أنه عاد لاستكمالها لاحقًا، ونال شهادة الثانوية العامة بحلول عام 1958، بعد الإصابة بالشلل، وكان لما أبداه من شدة العزيمة والمثابرة رغم ظرفه الصحي دور في قبول تعيينه مدرسًا للغة العربية والتربية الإسلامية بناء على اجتيازه اختبار التوظيف.

لم يقف طموح الشيخ عند ذلك الحد، بل التحق بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة عين شمس في مصر، بعدما تقدم مرة أخرى لاختبار الثانوية العامة، ونجح فيه. لكن لم يتمم فيه إلا عامًا دراسيًا واحدًا إذ اعتُقل ومنع من دخول مصر بسبب ما وصف "بنشاط إسلامي"

أحمد ياسين
أحمد ياسين وبشائر الطوفان

 

سجن الجسد.. لا سجن الروح

رغم حالة الشيخ أحمد ياسين الصحية إلا أنه لم يتوانَ في أي لحظة عن بذل استطاعته في سبيل تحرير الأرض الفلسطينية، فكانت همته تجاوز السحاب، وإنجازاته تطال أهل القطاع بشبابهم وأطفالهم ونسائهم.

من المعتقل إلى العمل

انخرط الشيخ في النضال السياسي مبكرًا، ففي عام 1956 شارك وكان في ال20 من عمره في مظاهرات انطلقت في غزة احتجاجاً على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر، وأبدى نبوغًا لافتًا، ومهارات خطابية جعلته من أبرز المؤثرين على الشباب الفلسطيني شاحذًا الهمم ومحرضًا ضد الظلم والعدوان، مما جعله محطًا للأنظار، إذ استرعى اهتمام المخابرات المصرية، فجاءت تجربة الاعتقال في السجون المصرية مبكرة، ولم تكن إلا البداية، فمن سجن الأخ إلى سجن العدو، مرّ الشيخ أحمد ياسين بسلسلة من الاعتقالات. 

كانت البداية في اعتقاله ضمن حملات اعتقال طالت الإخوان المسلمين، وكان قد تعرف على فِكر الإخوان واستفاد منه خلال السنة التي قضاها طالبًا في جامعة عين شمس، لذا اعتُقل وقضى شهرًا تقريبًا في سجن انفرادي، ولما ثبت ألّا علاقة تجمعه بالإخوان تنظيميًا، أُطلق سراحه. 

جعلته هذه التجربة يختبر الظلم عيانًا، ذلك الظلم الذي يحيط بالإنسان عين الإحاطة، ناهيك عن الظلم الواقع عليه كفلسطيني لاجئ مهجر في بلده. ووصف الأثر الذي خلفته تجربة الاعتقال عليه كيف زادت نفسه كراهية الظلم وعمّقتها، ودعّمت قناعته بأن شرعية أي سلطة لا بد أن تكون قائمة على العدل، وعلى الإيمان بحق الإنسان في الحرية.

الشيخ الشهيد أحمد ياسين
الشيخ الشهيد أحمد ياسين

العدة والعتاد

ثم جاءت نكسة حزيران 67 كصفعة مدوية على خدّ جريح. استمر الشيخ يدعو إلى مقاومة الاحتلال بكل الوسائل، ليس بالخطب المزلزلة في مسجد العباسي فحسب، بل كفل أُسر الشهداء والمعتقلين وجمع التبرعات لمساعدتهم. وانتقل بالعمل الدعوي إلى مستوى أبعد، إذ ترأس الجمعية الإسلامية وكانت غير نشاطِها في كفالة المحتاجين، تهتم بالتربية والتنشئة الإسلامية للأطفال والشباب ذكورًا وإناثًا، وتهتم كذلك بالجانب الرياضي، كما كان قد ساهم في تأسيس المجمع الإسلامي في القطاع، الذي يهدف إلى استقطاب الشباب وتحفيظهم القرآن وإقامة الندوات والأنشطة المختلفة. لاحقًا، صارت هذه الجمعيات وهؤلاء الشباب باكورة للنضال الفلسطيني المسلح بعدته وعتاده.

بعد تربية الشباب الفلسطيني على معاني المقاومة ورفض العدوان، والسعي لتسليحهم بغية الجهاد، تعرض الشيخ إلى حملة اعتقالات، ففي مطلع الثمانينات اعتُقل بتهمة إنشاء تنظيم عسكري يحرض على مقاومة الاحتلال ويرفع شعارات زوال إسرائيل، ولم يدم الاعتقال طويلا، إذ أُفرج عنه ضمن صفقة تبادل أسرى كانت الجبهة الشعبية القيادة العامة من تولاها، وكان ذلك بعد قرابة العام على اعتقاله.
 

من جهاد الدعوة.. إلى جهاد البندقية 

شهد شهر كانون الأول من عام 1987 ولادة حركة المقاومة الإسلامية المعروفة اختصارًا بـ (حماس)، بعد تفاقم أحداث الانتفاضة، دعت الضرورة إلى إنشاء تنظيم إسلامي عسكري بهدف التحرير، فصدر أول بيان للحركة يدعو فيه الشعب الفلسطيني إلى التصدي للعدوان الإسرائيلي.
وكان من أبرز القادة المؤسسين إضافة إلى الشيخ أحمد ياسين، القائد صلاح شحادة، وعبد العزيز الرنتيسي وانعقد الاجتماع في منزل الشيخ أحمد ياسين.

 إذن لم يزد الاعتقال الشيخ إلا عزيمة وإصرارًا على اتباع كل الوسائل لدحر الاحتلال، من الدعوة إلى الجهاد والتربية الدينية إلى التسليح وإنشاء فصيل منظم له جناح عسكري، وحتى جهاز أمني استخباراتي يلاحق الخونة والعملاء المدسوسين.

فما كان من قوات الاحتلال إلا أن اعتقلته بعد عامين أي في الـ 1989، وحكم عليه بالسجن المؤبد 15 عامًا، وكانت التهمة الموجهة إليه التحريض على قتل جنود إسرائيليين وخطفهم. 

ظل الشيخ معتقلًا رغم محاولات الإفراج عنه، في مطلع التسعينيات، إذ احتجزت كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، جنديًا إسرائيليًا، وعرضت صفقة تبادل لإطلاق سراح الشيخ، لكن الاحتلال رد بهجوم اقتحمت فيه قواته المنزل الذي أُسر فيه الجندي وقتل هو وقائد المجاهدين في العملية.
 

وفي العام التالي وُقّع اتفاق أوسلو المشؤوم، والذي من أهم ما نص عليه: اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل (على 78% من أراضي فلسطين، وهو ما يعني فلسطين كلها، ما عدا الضفة الغربية وقطاع غزة). وأنه خلال 5 سنوات ستنسحب إسرائيل من أراض في الضفة الغربية وقطاع غزة، بمراحل أولها الانسحاب من أريحا وغزة اللتين تشكلان 1.5% من أرض فلسطين.

وقد وصف الشيخ هذا الاتفاق بقوله: " اتفاق أوسلو، ولد ميتًا"

بشرى التحرير.. شعلة الانتفاضة

لا يخفى على أحد مكانة الشيخ أحمد ياسين في نفوس الفلسطينيين، والعرب، فهو الأب الروحي لحركة حماس ورمز من رموز النضال الفلسطيني كله، لذلك وجدت إسرائيل نفسها مُلزمة بإبقاء الشيخ معتقلاً، ورفضت كل محاولات الإفراج عنه.

 

إطلاق سراح

وفي محاولة من الموساد الإسرائيلي لاغتيال خالد مشعل بتسميمه، بوصفه من القادة الشباب الذين يشكلون خطرًا على دولة الاحتلال، وكان وقتها رئيس المكتب السياسي لحماس، وقد جرت الحادثة على أرض المملكة الأردنية الهاشمية، ولما انقلب السحر على الساحر، وباءت العملية بالفشل وانكشف عناصرها، تولى الحسين بن طلال ملك الأردن بنفسه أمر المطالبة بالترياق، والإفراج عن الشيخ الياسين عام 1997. الذي تلقى الرعاية الصحية في مستشفى المدينة الطبية، وزاره للاطمئنان عليه برفقة الرئيس الراحل ياسر عرفات.

 

فرحة لم تكتمل

ما لبثت شهور أن انقضت منذ أن عاد الشيخ إلى القطاع حتى فرضت السلطة الفلسطينية الإقامة الجبرية عليه، بسبب موقفه الذي انتقد اتفاقية "واي ريفر" في 1998. 

ثم في ختام 2001 فُرضت عليه الإقامة الجبرية مرة أخرى، وهذه المرة ضمن حملة شاملة بهدف الحد من نشاط‏ قياديي حركة حماس، حتى أن مواجهات نشبت بين عدد من المواطنين ورجال السلطة، الذين (المواطنين) حاولوا كسر الإقامة الجبرية حول منزل الشيخ فاستشهد مواطن وأصيب العشرات من المحتشدين، لكن ذلك لم يردع السلطة عن اتخاذ القرار نفسه مجددًا في 2002.

 

ثم اندلعت الانتفاضة

وبعدها بعام عندما فرضت السلطة الفلسطينية حكم الإقامة الجبرية على الشيخ أحمد ياسين، عندها خرجت الجماهير متحدية واستطاعت كسر الإقامة الجبرية.

اغتيال أحمد ياسين
اغتيال الشيخ أحمد ياسين

ميلاد الروح.. في السماء

لا أحد (كبيرًا أو صغيرًا) عاصر حادثة اغتيال الشيخ يمكن أن ينسى لحظة كهذه، وهل لحظة كهذه تُنسى؟ 

الاغتيال هو الحل الوحيد

استهدفت مروحيات الاحتلال في أيلول 2003 شقة الشيخ في محاولة لاغتياله، وكان إسماعيل هنية معه، وقد نجا الشيخ من المحاولة لكنه أُصيب بجروح في ذراعه اليمنى. 

ثم حمل الربع الأول من عام 2004 خبر تنفيذ عملية أسدود، التي قتل جراءها 10 إسرائيليين وجرح 20 آخرون، فجنّ جنون الاحتلال وحمّلوا المسؤولية للشيخ، وبناء على ذلك وُصفت العملية بأنها ضربة استراتيجية، وتقرر عدم استبعاد القيادة الروحية لحماس من الاستهداف بقرار من شاؤول موفاز، وزير الأمن آنذاك.

وبغية تنفيذ الاغتيال، شنّ جيش الاحتلال حملات عسكرية في عدة مدن من القطاع، راح ضحيتها عشرات الفلسطينيين، في آذار 2003

 

ثلاثة صواريخ لاغتيال شيخ قعيد!

خرج الشيخ إلى صلاة الفجر يوم 22 آذار 2004، في مسجد المجمّع الإسلامي، وكان فجرًا ساكنًا، ولم يعلم أحد أنما هذا السكون الذي تتبعه الكارثة، ولم يكن أحد يعلم أن أريئيل شارون (رئيس الوزراء آنذاك) قد أعطى الضوء الأخضر لقادة هيئة أركان جيشه موشيه يعلون، ووزير أمنه شاؤول موفاز، لإعطاء الأمر باغتيال الشيخ الياسين.

دوّى انفجار إثر سقوط 3 صواريخ على رجل واحد، شيخ يجلس على كرسيه المتحرك أمام مدخل المسجد، فغادرت روحه إلى بارئها واستشهد معه 7 من مرافقيه و2 من أبنائه أصيبا.

68 عامًا عاشها الشيخ طامعًا في التحرير، فإن لم ينله فروحه تواقة إلى الشهادة، استشهد الشيخ.. جسدًا.. وبقيت روحه وتربيته حاضرة في نفوس الفلسطينيين وأحرار العالم، استشهد تاركًا إرثا عظيمًا، لم يحمله لنا أبناؤه الـ11 وبناته الـ8 فقط، بل حمله كل أهل القطاع وفلسطين والعرب.. إرث المقاومة ورفض الظلم حتى الرمق الأخير.
خلفت ذكراه ومآثره بالغ الأثر في النفوس وبالغ الأثر في الأفعال كذلك، وما طوفان الأقصى إلا جهاد أسس له وربى عليه خيرة أبناء الشعب الفلسطيني، كبر الصغار يا شيخ.. وصاروا كابوسًا على الاحتلال وحلمًا بفجر التحرير… فهل تَراهم يا شيخ؟