28-أغسطس-2016

متظاهر تركي (الأناضول)

المثير في مصالحة تركيا وإيران وروسيا، ليس فقط التحول الكبير لاستراتيجية تركيا الإقليمية، ومحاولتها لمغالبة الضغط الغربي عليها بالاتجاه شرقًا، ولكن كذلك المساحة الواسعة من السياسة المتاحة لأردوغان للعب فيها.

المساحة الواسعة المتاحة له من قبل جمهوره الأصلي بالأساس، ليغير مواقفه السياسية ويراوغ فيها، المساحة التي لا تعبر فقط عن انسياق وراء سياسات الرجل أيًا كانت، ولكن أيضًا بوجود معرفة عامة وسط أنصاره لقواعد اللعبة السياسية ولحجم تركيا في المسرح الدولي، والقبول بتخفيض سقف الطموحات، إذا لم يبق حل آخر غير الهزيمة.

لم يتردد الرجل رغم ذلك، في مصالحة إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، كوسيلة لتخفيف الضغط عليه والإفلات من مصير تصبح فيه تركيا دولة متمردة في نظر العالم

حتى في مسألة إسرائيل، التي صعد نجم أردوغان، عربيًا على الأقل، بعد انسحابه من لقائه مع بيريز في منتدى دافوس، قبل أن تقتل إسرائيل عددًا من الأتراك في سفينة مرمرة أثناء محاولتهم فك الحصار، ليصبح نقد إسرائيل والتعاطف مع الفلسطينيين أحد وسائل الرجل لتسويق نفسه وسياسته وسط الجماهير المحافظة، لم يتردد الرجل رغم ذلك، في مصالحة إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، كوسيلة لتخفيف الضغط عليه والإفلات من مصير تصبح فيه تركيا دولة متمردة في نظر العالم، وبالتالي احتمالية خسارة العدالة والتنمية لكل إنجازاته فيها.

اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة أسباب للتقارب الإيراني التركي

على الأقل منذ منتصف العام الحالي، أدرك أردوغان أنه تورط في استراتيجية فاشلة بخصوص سوريا، وبدأ يعد للتراجع عنها ومحاولة انتهاج استراتيجية أخرى، لم يكن هذا التراجع والبحث عن مخارج أخرى إلا صلب منهج حكم الرجل، الذي من البداية، بدا واضحًا أنه وحزبه، يريدون السلطة والتمسك بها مهما كلفهم ذلك، لم تكن براغماتية خالصة، بقدر ما كانت قرارًا واعيًا أن استمرارهم في الحد الأدنى من طموحاتهم خير من انكسارهم بشكل كامل.

أردوغان وتجربته، فقدت بريقها عربيًا دوليًا، بعدما أظهر أردوغان ميولًا واضحة نحو الحكم الفردي، وأصبح لا يستطيع استيعاب حتى انتقادات رفاقه التاريخيين، الذين تخلص منهم واحدًا تلو الآخر، وعوضهم بشخصيات بيروقراطية لا يمكنها أن تنازعه الشعبية أو مسؤولية الإنجاز، إلا أن التجربة، رغم ذلك، لا تزال مثيرة للتأمل، عن كيف تمكن شخص من قيادة دولة، يمتلك تحفظات لا حصر لها على قوانينها وأحكامها العامة، ويتورط في مأساة إقليمية في سوريا، لا يخرج منها منتصرًا، ويتفادى انقلاب عسكري شبه متكامل، ثم يستطيع إكمال حكمه وإكمال مسيرته في المناورات السياسية.

أعتقد أن أهم ما يمكن الإعجاب به في مسيرة أردوغان، الذي لم يعد بعد الآن رمزًا للديموقراطية، هو بالتحديد الإصرار على عدم الهزيمة، ليس بمعنى النضال حتى النهاية، ولكن العكس تماما، التحرك بعد المسموح به بقليل، والتراجع دومًا قبل النهاية.

عندما يتم مقارنة موقف أردوغان، بموقف نظرائه الإسلاميين في مصر، أثناء تجربتهم في الحكم، نجد العكس، واجه مرسي انتقادات لا تنتهي بسبب رسالة دبلوماسية تقليدية جدًا مع بيريز، كما كانت هوامش مراوغته شبه منعدمة أمام السلفيين وأمام أجنحة من جماعته نفسها، واضطر الرجل وجماعته لتصعيد خطاباتهم دون أن تكون لديهم أي خطة للتعامل مع مآلات هذا التصعيد.

يمكن القول إن المعارضة بشكل عام، تتغذى على الإمكانيات الأخرى للأنظمة، مهما كانت مدى عقلانيتها، ويخفف من غلواء هذه المعارضة أن تقترب بين كل حين وآخر للسلطة، لتدرك تعقيدات الأمور، وإذن لا ترفع سقف طموحات جماهيرها، بشكل يورطها في تجربة الحكم التالية.

المعارضة المصرية والعربية بشكل عام، والتي تكونت خلال سنوات طويلة من الحكم الدكتاتوري، ظلت تصعد خطاباتها بلا حد، لأنها لم تكن تظن أنها ستقترب من الحكم أبدًا

المعارضة المصرية، والعربية بشكل عام، والتي تكونت خلال سنوات طويلة من الحكم الدكتاتوري، ظلت تصعد خطاباتها بلا حد، لأنها لم تكن تظن أنها ستقترب من الحكم أبدًا، وإذًا عارضت كل شيء وأي شيء، فأصبح من معضلات الوضع السياسي العربي، أن ممارسة السلطة بشكل دكتاتوري، أيسر بكثير من ممارستها تحت ضغط ديموقراطي ما، لعدم القدرة على الوفاء بوعود قطعت برعونة ودون خطة لتحقيقها، ولذلك تكون تجربة الدولة وأحزابها في الحكم تكون أكثر قبولًا عند الناس من تجارب المعارضة. فالدكتاتوريات لا تعد بأشياء ضخمة، فقط حد أدنى من الخدمات والاستقرار مصحوبًا بشكوى سلطوية دائمة من تزايد الناس وكسلهم وتراخيهم في العمل. وفي مقابل ذلك، تنشأ هذه الدكتاتوريات قوى سياسية تميل في مجملها للممارسات الخطابية القوية، بجرأة المتيقن من عدم احتمالية تورطه في تنفيذ ما يقول.

اقرأ/ي أيضًا: تركيا تقتل طموح الأكراد

ففي مصر مثلًا، هناك خطاب معارض تاريخي يرى أن البلد غنية جدًا، وقوية جدًا، مركز العالم، أم الدنيا، ومنبع الحضارة، وينقصها فقط القرار لتواجه العالم وتجبر الجميع على تنفيذ ما تريد وتقطع العلاقات مع إسرائيل وتحرر فلسطين، لتكون حاكمة للدنيا، في الوقت الذي ستقبض فيه على فاسد هنا وآخر هناك، لتحل كل المشاكل الاقتصادية بسرعة، ولعل أكبر المفاجآت التي واجهت الإخوان في حكمهم القصير، هو اندهاشهم من أولوية الإنجاز الاقتصادي على قضايا أخرى كانت تبدو لهم محورية أكثر، أولوية الاقتصاد التي كان يظنها إسلاميو مصر لعقود طويلة، مجرد أوهام يسارية.

إدمان التصعيد الخطابي، الذي أصاب المعارضين في زمن الدكتاتورية الذهبي، والذي تصاعد أكثر بحلول الثورة، وتحوله لتصعيد خطابي منبهر بنفسه، رافقه إدمان آخر للخسارة، والوقوع في فخ تمجيد "الهزائم المتتالية"، التي يتم تسميتها بـ"دفع ثمن القضية"، دون أن يغير دفع هذا الثمن أي شيء. حتى أن أكبر حركة معارضة مصرية وقت مبارك، وهي "الإخوان المسلمون"، ظلت تفتخر بأن الملك، ثم عبد الناصر، ثم السادات ثم مبارك، جميعهم قاموا بسجن أعضائها ومحاربتها وهزيمتها، دون أن تدفع هذه الحقيقة بعضًا منهم لرؤية أن هذه الهزيمة ليست وسامًا على الصدور، بقدر ما هي برهان على عدم أهلية الحركة للقيام بأي حراك سياسي، وأن انعدام الأهلية هذا لم يغير من حقيقته تغير الأزمنة والرؤساء وتعاقب الليل والنهار.

برأيي، هناك حاجة لإعادة النظر في قيمة النضال الهوياتي، النضال المشهدي، شبه العدمي، الذي يفتخر باتساقه الخطابي المتكامل، وبفشله الملحمي المتتالي، ليس للوقوع في فخ آخر لتمجيد العمل من داخل المنظومة، ولكن لإعادة البديهية لفكرة أن أي نضال سياسي، يجب أن يكون معياره الأساسي هو نجاحه في الاقتراب بالوقت من هدفه، كما في حفاظه على الكتل الاجتماعية التي تقف خلفه بأقل الخسائر، وأن التصعيد الخطابي الذي لا يرافقه سوى "دفع ثمن القضية"، دون أي نجاح آخر، هو هزيمة كاملة، ممكنة دائمًا، لكن يجب العمل على تجاوزها، وليس الاستثمار فيها.

الخسارة بالتأكيد، أحد احتمالين لأي مغامرة، لكنها الاحتمال الذي لا ينبغي تقديسه، ولا حراسته بجنود الاتساق الخطابي، لكي لا يهرب منه أحد.

اقرأ/ي أيضًا:
بوتين ساعد أردوغان وفتح له طريق جرابلس
لماذا دخلت تركيا إلى الحرب السورية