23-أغسطس-2021

حيفا عام 1927 (موقع فلسطين في الذاكرة)

لا أنفك أفكر بكل الأسباب التي تجعل من ثأري مع الاحتلال ثأرًا شخصيًا، عدا عن البوصلة الإنسانية والأخلاقية التي تجعل من "إسرائيل" -وكل من والاها وطبّع وجودها- عدوًا لدودًا، يتولد لدي يوميًا سبب جديد يجعل من هذا الصراع صراعًا شخصيًا بحتًا.

لم تكن لدى والدي أدنى فكرة بأن العودة لفلسطين مجددًا صارت حلمًا بعيد المنال حين غادر مخيم طولكرم للدراسة والعمل

تيتّم جدي وهو طفل، حيث رباه شيخ الجامع في بيسان قبل أن يشد الرِّحال مع الجمّالة حين صار "قطروز" – أي ولد اشتد عوده- كما كان يقول باللهجة الفلسطينية، ويتجه نحو الناصرة، ومن بعدها إلى حيفا التي تزوج جدتي فيها، وعمل في مينائها وسكنها حتى توالى وصول السفن المحملة باليهود نحو فلسطين من كل أصقاع الأرض؛ أخذوا بيتنا وبيوت غيرنا بكل ما فيها تحت تهديد السلاح والميليشيات الصهيونية.

اقرأ/ي أيضًا: أركيولوجيا النكبة

حمل جدي وجدتي عام 1948 رضيعيهما بعدما استولى مستوطن يهودي على بيت العائلة في وادي النسناس، حيث غُصبوا على الخروج من بيتهم ومدينتهم خاوين الوفاض، ليبدأوا رحلة عذاب وتنقل من مدينة إلى أخرى حتى استقروا في طولكرم التي ولد أبي في مخيمها وقضى شبابه فيها حتى سافر لاستكمال تعليمه الجامعي.

رحلة مؤقتة أحالها الاحتلال لجوءًا أبديًا

لم تكن لدى والدي أدنى فكرة بأن العودة لفلسطين مجددًا صارت حلمًا بعيد المنال حين غادر مخيم طولكرم للدراسة والعمل، لكنه التقى أمي التي هُجرت عائلتها أيضًا من حيفا إلى مصر ثم الكويت، تزوجا وقدم لها طلب لم الشمل –أي استصدار هوية فلسطينية- ليعودوا لطولكرم دون جدوى، حيث رفض الاحتلال الموافقة على الطلب. لم ينوِ أبي أبدًا البقاء خارج فلسطين، لكن الاحتلال كان يخطط لعائلتي ذلك كما للكثير من العائلات التي يتقصد منع إصدار هويات فلسطينية لأفرادها لخلق عقبةٌ كأداءُ أمام عودتهم.

أما الهجرة الأولى التي أجُبر عليها جدي كانت المقدمة لهجرات متتالية فُرضت علينا جيلًا بعد جيل: من حيفا، لطولكرم، فالأردن، ثم انتشارًا واسعًا في كل قارات العالم، دون أن يُنقص ذلك مقدار حبة خردل من حُبّنا لحيفا التي لم نلتقيها يومًا خارج قصص جدي وجدتي.

"كل شيء تحطم في لحظة عابرة"

كلما شاهدت أبي ينظر من الشباك وقد تملكه الملل، ألعن هذا الاحتلال الذي حرمه من أخ يتكىء عليه، وصديق طفولة يشاركه فنجان قهوة ذات صباح، وأخت يحمل لها فطورًا دون مناسبة، كل هذا العادي، حوله الاحتلال مستحيلًا لأبي، حارمًا إياه كل المتع البسيطة اليومية التي ربما لم نكن لنقدّر قيمتها لولا أننا حُرمنا منها.

سرق الاحتلال تلك البسمة من على وجه أبي سريعًا حين قرر مجددًا وضع الحواجز العسكرية ومنعنا من زيارتها

كلما وجدت أبي يتململ، أو يمسك بالهاتف النقال ليتحدث بالصوت والصورة مع إخوته، يبقى صوت أمل دنقل يرن في أذني: " كل شيء تحطم في لحظة عابرة: الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة والذي اغتالني: ليس ربًا".

اقرأ/ي أيضًا: صنّاع النكبة الفلسطينيون

بعد أكثر من خمسين عامًا على مغادرة أبي لطولكرم، لازالت فكرة العودة تؤرق مضاجعه، ولازال يتفقد بين الحين والآخر طلب لم الشمل المقدم منذ الثمانينيات. إذًا كيف تنطفئ شعلة الثأر هذه في روحي وأنا أرى الثمن اليومي الذي يدفعه أبي بسبب النكبة؟

هل تعود فلسطين لفلسطين؟

يحمل أخي أملًا لا شفاء منه بالعودة، فقد قدّم طلبًا للمّ شمل زوجته اللبنانية، وابنته ذات الجنسية البريطانية والتي سمّاها "فلسطين". يسكنني كما أخي أملٌ بعودة الجيل القادم، إلا أنني لا أنفك أفكر في أي أرضٍ ستكون هذه الحفيدة بعد ثلاثين عامًا مثلًا إن لم تعد البلاد؟ وهل من الممكن أن تلتقي يومًا أولاد عمها أو أقاربها الذين هُجروا بفعل الاحتلال لقارات أخرى ولا تعرفهم؟ ربما تعبر في شارع في الأرجنتين قرب ابن عمتها دون أن تعلم ذلك، أو تقع في حب شاب في سوريا ينتمي لنفس شجرة عائلتها التي هُجرت ولا تعرف. كل تلك احتمالات حقيقية، وربما تجري الآن مع أجيال فلسطينية ثالثة ورابعة تعيش هذه الهجرة المتعاقبة.

تطاردني أسئلة لا حصر لها عن مستقبل الجيل القادم وفي أي أرض سيكون، ولكنني أعرف على الأقل بأنني سأحرص على أن أفعل كل ما باستطاعتي لأورث الجيل القادم شعلة الثأر.

الجيل الثالث للنكبة

كل حدث في حياتي يشعل جذوة جرح الهجرة المتعاقبة: أنا الجيل الثالث للنكبة، الأول خارج فلسطين. حين جاء موعد خطوبتي، كان لدي "إصرار عجيب" كما وصفه البعض، على تفادي عمل جاهة كبيرة والاكتفاء بعدد صغير من الأقرباء. ليس السبب طبعي العملي، بل تلك الحسرة التي شردت عائلتي الصغيرة من حيفا إلى الأردن، وألمانيا، والنرويج، وبريطانيا، والبحرين، وسوريا، وغيرها، حارمة إياني تلك الطقوس التي يجتمع فيها أخوالي وأعمامي وهلُمَّ جَرّا.

الثأر لن تبهت شعلته، والأجيال القادمة لن تنسى فلسطين كما كانت تحلم غولدا مائير

لولا الاحتلال لكان علينا أن نضع خيمة في الخارج لتكفي كل أفراد العائلة يوم الجاهة، لكن أبدلنا الاحتلال خيمة في مخيم طولكرم عوضًا عن ذلك، ثم حرمنا من العودة إليها، فكيف لا يكون هذا الثأر ثأرًا شخصيًا جدًا؟

"أرض أعيدت ولو لثانية"

ربما أصدق وصف لأبي ما قاله محمود درويش: "أبي.. من أسرةِ المحراث/ لا من سادةٍ نجبِ/ وجدّي كانَ فلاحًا/ بلا حسبٍ.. ولا نسبِ!/ يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ".

اقرأ/ي أيضًا: أبو جهاد الفرنسي

لم يتملك أبي يومًا سوى قطعة أرض يتيمة اشتراها بثمن غربته، ولسوء حظه ولقبح الاحتلال تقرر ضمها خلف جدار الفصل العنصري. فمُنعنا من دخولها ومن زراعتها أو البناء فيها. جاءنا خبر قبل عدة أعوام بأن الاحتلال قرر تغيير مسار جدار الفصل العنصري، مما يعني خروج أرضنا من مخطط الجدار. لازلت أذكر ابتسامة والدي ذاك الصباح وهو يخبر الأقارب والأصدقاء عبر الهاتف بأن الأرض رجعت، وبأن المباركات تُقبل على شكل شتلات زيتون.

لكن كما الأرض، سرق الاحتلال تلك البسمة من على وجه أبي سريعًا حين قرر مجددًا وضع الحواجز العسكرية ومنعنا من زيارتها دون تصريح مسبق ضمن سياسات الضم والتوسع الصهيوني، حيث تم اقتطاع أجزاء كبيرة من قطعة الأرض بجدار من السلك الشائك ولا زال مصيرها غير مؤكد حتى اليوم. أما شتلة الزيتون فقد زرعتها في بيتي في المنفى بدلًا من أرض والدي.

تلك ليست سوى أمثلة يومية ضئيلة مقارنة بحجم الألم، والموت، والسرقة التي يلحقها الاحتلال بهذا الشعب، إلا أنها أيضًا تذكيرًا صارخًا لنا بأن الثأر لن تبهت شعلته، وبأن الأجيال القادمة لن تنسى فلسطين كما كانت تحلم غولدا مائير. هذا التذكير اليومي الصارخ بأن كل الألم لم يكن ليكون لولا الاحتلال، هو أفضل وقود لتلك الشعلة التي لن تنطفئ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نحو مقاربة ديمقراطية لفلسطين

فلسطين كاملة: من المستحيل إلى الممكن