27-يناير-2024
ريتشارد نيكسون الرئيس ال37

الرئيس الأمريكي الـ37 ريتشارد نيكسون

تولى  الرئيس الأمريكي الـ 37 ريتشارد ميل هاوس نيكسون فترتين رئاسيتين، وتنقل بين المحاماة والمناصب السياسية، عرف عنه عداؤه الشديد للشيوعية، وامتاز بشخصية جاذبة ونشاط واجتهاد شديدين في العمل، امتازت فترة رئاسته بالكثير من الأحداث على المستويين الداخلي والخارجي، وقد كان من أكثر الرؤساء إثارة للجدل بمواقفه وقراراته. في المقال نقدم نبذة مختصرة عن حياة هذا الرئيس.

 

بداية رحلة شاب طموح

ولد ريتشارد نيكسون في 9 كانون الثاني من عام 1913، في مدينة يوربا ليندا في ولاية كاليفورنيا، لأسرة متدينة تعود أصولها إلى ألمانيا، بعد أن أكمل تعليمه الأساسي والثانوي درس الحقوق في واحدة من أقوى الجامعات، وهي جامعة ديوك في ولاية كارولاينا الشمالية، ثم بعد تخرجه عاد إلى كاليفورنيا ليمارس مهنة المحاماة، ومنها انتقل إلى نيويورك للعمل هناك في السلك الحكومي، في إدارة التحكم في الأسعار

لم يكن ريتشارد نيكسون معجبًا بالطريقة التي تدار بها الأجهزة الحكومية حين عمل فيها، فقرر الالتحاق بسلاح البحرية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك في عام 1942، وتلقى تدريبه في ولاية رود آيلاند، وبعد عامين توظف في سلاح الجو التابع للبحرية في
كاليفورنيا، ثم انتقل منها إلى قوات البحرية في واشنطن، وعمل في وحدة النقل الجوي في المحيط الهادي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى أصبح رائدًا بحريًا قبل ترك الخدمة العسكرية ودخول سلك السياسة.

خلال خدمته تميز نيكسون بصفات قيادية واضحة، فدفع ذلك بعض الشباب المنتسبين إلى الحزب الجمهوري لإقناعه بالترشح ضد الحزب الديمقراطي كعضو في مجلس النواب عن ولاية كاليفورنيا. وفاز بأغلبية ساحقة لما يتمتع به من قدرة على الإقناع، وفرض الأفكار والترويج لها، إذ كان يعد من أشرس المعادين للشيوعية، وقد كان لدى الحزب الديمقراطي آنذاك قاعدة واسعة في النقابات العمالية التي يديرها معتنقون للأفكار الاشتراكية، فاستغل ذلك لصالحه بأن ركز على هذه النقطة في فترة محتدمة بين القطبين الروسي والأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية 1947.
 

أصغر نائب رئيس

ظل في منصبه عضوًا في الكونغرس الأمريكي حتى 1950 وذلك بتوليه فترتين نيابيتين، إذ كان أداؤه لافتًا ومحط إعجاب رغم أنه كان ما يزال في بداية مشواره السياسي. انضم نيكسون إلى اللجان المسؤولة عن التعليم وشؤون العمل، وصاغ مشروع قانون سمي بمشروع (تافت-هارتلي) وهو مشروع يحدد العلاقة بين العمال وأرباب العمل، ثم وقع عليه الاختيار ليكون عضوًا (في مشروع مارشال)  وقد أبدى حماسة شديدة للمشروع لأنه سيلعب دورًا في وضع حد للتوسع الشيوعي في غرب أوروبا، وهذا المشروع تطلب تشكيل لجنة خاصة هدفها تقديم قروض من قبل الولايات المتحدة إلى دول أوروبا بعد انهيار اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد كان نيكسون بعدائه للشيوعية أثناء تنفيذ المهام الموكلة إليه محطّ إعجاب لأعضاء الحزب الجمهوري، ولكفاءته ولّوْه رئاسة اللجنة الخاصة التي شُكلت بغرض الحد من انتشار الأفكار الشيوعية في الهيئات الحكومية الأمريكية.

 

العداء للشيوعية.. بطاقة رابحة

الفترة الممتدة لـ3 سنوات التي قضاها عضوًا في مجلس الشيوخ امتازت بالكثير من الإنجازات، وكان قد فاز فوزًا كاسحًا ضد مرشحة الحزب الديمقراطي هيلين جاهاجان، إذ لعب ببطاقة الترويج للأفكار الشيوعية، فخسرت منافسته وفاز هو ليستمر نجمه بالصعود.

ورغم صغر سنه وقتها، فإن نشاطه في الحزب الجمهوري وكلامه المؤثر وخطبه الرنانة الكثيرة التي كان يلقيها في اجتماعات الحزب الجمهوري، التي يحرّض فيها على مواجهة الشيوعية ويصرّح بعدائه الشديد لها كانت سببًا لالتفاف أعضاء الحزب حوله.

ولم يقف الأمر عند عدائه للشيوعية، بل إنه خلال فترة عضويته في الكونغرس انتقد موقف الحكومة حيال الحرب على كوريا فأُقيل الجنرال دوجلاس ماك آرثر من قبل رئيس الولايات المتحدة آنذاك ترومان على إثر انتقادات نيكسون، وحمّل الرئيس الجنرال مسؤولية قصور تخطيط الحكومة للحرب.

 

من خطابات التأييد.. إلى مواجهة المطبخ

توليه لمنصب نائب رئيس الجمهورية كان بناءً على اختيار المرشح للرئاسة نفسه لنيكسون ليكون نائبه. ففي عام 1953 اختار دوايت أيزنهاور المرشح للرئاسة، نائبه بناء على سمعته بوصفه معاديًا للشيوعية، كما كان السبب الإضافي لاختياره، كونه يمثل واحدة من أكبر الولايات الامريكية؛ كاليفورنيا.

كان نيكسون أصغر مرشح لمنصب نائب رئيس الجمهورية (وقد فاز بالمنصب) وذلك سلط عليه الإعلام، إذ تصدر مقال نُشر عنه في مجلة نيويورك بوست بعنوان (أموال نيكسون السرية) اتُهم فيه باستغلال مبلغ 18 ألف دولار كان قد جمعها أثناء عمله كسيناتور، لمصاريف شخصية. وكان من المتوقع أن يرضخ أيزنهاور لمطلب التخلي عن ترشيح نيكسون نائبًا، لكنه أعطاه مهلة ليبرئ نفسه، وقد نال البراءة بعدما خرج بخطاب مؤثر على شاشات التلفاز، يعترف فيه بتلقي المبلغ وينفي إنفاقه على غير أمور السياسة. وناشد المشاهدين والمستمعين بإرسال خطابات تأييد إن كانوا يصدقونه. وحصل على مبتغاه، فأبقاه أيزنهاور نائبًا له. وولاه المهام الدبلوماسية التي أظهر تفوقًا في أدائها.

من أبرز الحوادث التي ذاعت أثناء فترة نيابته، حادثة أطلق عليها الإعلام (مواجهة المطبخ) التي أحرج فيها نيكسون نظيره الزعيم السوفييتي نيكيتا خرشوف. إذ انتقد خرشوف نظام الحياة الأمريكي أثناء زيارة إلى قاعة تعرض فيها الأجهزة المنزلية المستخدمة في المطبخ الأمريكي. فما كان من نيكسون إلا أن تصدى له بمهاراته الكلامية وقدرته على الإقناع وقلَب الموقف لصالحه، فانتقد الحكومة السوفييتية التي تمنع المواطن السوفيتي من عيش حياة عصرية، فظل خرشوف صامتًا عاجزًا عن الرد، ليكسب نيكسون بذلك زيادة شعبيته لدى المواطنين، مهدت لمكاسبه السياسية فيما بعد.

 

محطات متعثرة.. وحرد سياسي 

أثناء فترتي حكم أيزنهاور تولى نيكسون منصب نائب الرئيس، وكان عمره 33 عامًا تقريبًا في بداية نيابته. وبسبب ظروف أيزنهاور الصحية تولى نيكسون مهام الرئاسة، فكان ذلك بمثابة تدريب سابق لأوانه.

وحين ترشح لمنصب الرئيس 1960 خسر أمام مرشح الحزب الديمقراطي جون كينيدي بفارق ضئيل، وبعدها عاد إلى كاليفورنيا واشتغل بالمحاماة.

ترشح بعدها لمنصب عمدة كاليفورنيا بناء على ضغط من الحزب، وخسر أيضًا في مواجهة خصمه الديمقراطي بفارق ضئيل، هذه المرة لم يسكت، بل عقد مؤتمرًا صحفيًا اتهم فيه الإعلاميين بتشويه صورته أمام الناخبين، للتشويش على حملته والتسبب بخسارته، وفي المؤتمر نفسه أعلن اعتزاله العمل السياسي.

بعد كل ما حدث انتقل إلى نيويورك مرة أخرى وعمل في المحاماة لمدة 5 سنوات، وذلك حتى 1968. لكنه ما لبث أن عاد إلى سلك السياسة بعد فوزه بتزكية الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية. ففاز على منافسه الديمقراطي. وصار بذلك الرئيس الـ37 للولايات المتحدة الأمريكية.

 

أغلِق بابًا للحرب، لتفتح بابًا آخر

دائمًا ما يشار إلى حظوة نيكسون في فترتي رئاسته بوزيرين من "أبرع وزراء الخارجية الأمريكية" وهما وليم روجرز، وهنري كيسنجر، وهذا الأخير، ومن باب السخرية، قد نال جائزة نوبل للسلام مناصفة مع لو دوك، ممثل شمال فييتنام بعد إنهاء الحرب الفييتنامية.

كانت فترة رئاسة نيكسون مثيرة للجدل، خاصة سياسته الخارجية (وكل الرؤساء من قبله ومن بعده) التي لا تمتد أذرعها إلى مكان حتى تعيث فيه الفساد، ومن أبرز الأحداث التي صارت فيها:

 

في السياسة الخارجية

  • أنهى الحرب على فييتنام، وقد كان على وشك قصفها بقنبلة نووية. ولكن بمساعي كيسنجر توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق سلام مع فيتنام الشمالية 1973، بعد أن تكبدت فيها الولايات المتحدة خسارة 58 جندي و 304 مصاب، عدا عن التكلفة المالية التي بلغت 110 مليار دولار، وكانت أول هزيمة للقوات الأمريكية بعد صعودها كقطب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية.
  •  أصدر نيكسون أمرًا ببدء عملية عسكرية استغرقت شهرين لمهاجمة الشيوعية في شرق كمبوديا، ولكن السحر انقلب على الساحر هذه المرة، فعداؤه للشيوعية لم ينجم عنه كما اعتاد زيادة شعبيته لدى المواطنين، بل على العكس، شهدت البلاد إضرابات طلابية ضد القصف رغم أن العملية حققت أهدافها بالقضاء على معاقل الشيوعية. ولكن للكونغرس رأي آخر، فقد هوجم نيكسون وأُصدر قرار يمنعه من استخدام القوة في لاوس كمبوديا، لكنه لم يتوقف وازدادت الأحداث تعقيدًا، حتى انتهت الحرب الفييتنامية.
  • ساند انضمام الصين الشعبية إلى منظمة الأمم المتحدة، وزار الصين ضمن ما سمي (رحلة سلام)، فشرع ببدء العلاقات الدبلوماسية مع الصين وعقد الاتفاقات التجارية والثقافية والعلمية. وبذلك يعد نيكسون أول رئيس أمريكي يزور الصين 1972.
  • منح نيكسون إسرائيل مساعدة مالية ضخمة قدرها 2,2 بليون دولار (خلال فترة حرب أكتوبر 1973)، وبذلك كان الرئيس الأمريكي الأول الذي يقدم هذا الدعم للكيان.
  • وقع اتفاقية عدم اعتداء نووي مع الاتحاد السوفييتي، ووقع كذلك على اتفاقات للاستيراد والتبادل الثقافي مع الاتحاد، ضمن مساعيه في التخلي عن عدائه للشيوعية.
  • ساهم -بجهود من وزير خارجيته هنري كيسنجر- في وقف الصراع العربي ودولة الاحتلال بعد حرب أكتوبر وزار مصر وسوريا. وفي العام نفسه، كانت الولايات المتحدة قد تعرضت لقطع إمدادات النفط عنها بقرار من منظمة الأوبك بقيادة المملكة العربية السعودية.

في الشأن المحلي

  • حارب نيكسون التضخم والغلاء، بإصدار قرار بتوقيف تغطية نفقات الولايات المتحدة خارج حدودها برصيد الذهب كما كان متبعًا آنذاك. مما خفض سعر الدولار وبالتالي انخفضت أسعار المنتجات الأمريكية مما ترتب عليه انخفاض نسبة البطالة وزاد التصدير. لكن كل هذه الجهود لم تمنع التضخم المتزايد خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط بعد قرار الأوبك بمنعه عن الولايات المتحدة.
  • كرّم نيكسون القائمين على رحلة أبوللو 11 المتجهة إلى القمر، وكرّم نيل آرمسترونج الذي عُد أول من وطئ القمر، وفي عهده استمرت رحلات الفضاء كجزء من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.
  • ألقي القبض على نيكسون على خلفية فضحية ووترغيت الشهيرة. وعلى إثرها قدم استقالته استباقًا لقرار عزله.

 

ووترغيت.. فضيحة مدوية تليق برئيس صاخب

شهد تموز 1974 حدثًا كان الأشد على نيكسون في حياته كلها، إذ وَجّهت له هيئة العدالة القضائية تهمًا بإساءة استخدام سلطته، وذلك على خلفية اعتقال 5 أعضاء ينتمون إلى لجنة إعادة انتخاب الرئيس نيكسون، وكانت التهمة الموجهة إليهم هي اقتحام مقر الحزب الديمقراطي الرئيسي في بناية ووترغيت. وبعد إجراء تحقيقات استغرقت عامين، رُفع النقاب عن دلائل تشير إلى عمليات تجسس بحق الحزب الديمقراطي، بهدف معرفة معلومات سرية لاستغلالها في إيصال نيكسون إلى الرئاسة مرة أخرى، وغيرها من الملابسات التي تكشف عن وجود أعمال مخالفة للقانون استُغلت لمصلحة الحزب الجمهوري. وكلها جرائم ارتكبت باسم الرئيس نيكسون.

ورغم أن حجة الدفاع كانت تقصد إثبات براءته بادعاء أن الرئيس لا علم له بالجرائم، إلا أنها انقلبت ضده حين أوصل الادعاء الشرائط لنظام التسجيل الصوتي، بناء على أمر المحكمة العليا، وكان الغرض منها تفحص ما يدور في الغرف المغلقة، واستبيان وجود معرفة لدى الرئيس بالجرائم من عدمها. واكتُشف تسجيل يحتوي على فراغ مدته 18 دقيقة، تبين أنه قد مُسح بفعل فاعل.

اتهامات كثيرة وُجهت للرئيس نيكسون، أبسطها إعاقة العدالة، وعدم الامتثال للاستدعاء القضائي، لتكون هذه الفضيحة آخر عهده بالرئاسة، إذ قدم استقالته من منصبه في محاولة لحفظ ما تبقى من ماء الوجه قبل أن يُعزل، أما كتاب الاستقالة أو كما يسمى بخطاب الوداع، فقد ادعى أن قرار استقالته جاء من رغبته في عدم صرف وقت الكونغرس واهتمامه على إثبات براءته من عدمها. بل يجب أن يكون تحقيق السلام الخارجي والقضاء على التضخم هو محط اهتمام الكونغرس.

كالعادة يحظى الطغاة دومًا باستثناءات لصالحهم، فقد نال نيكسون عفوًا رئاسيًا شمل الجرائم التي قد يدان بها وقت محاكمته، وذلك العفو كان بقرار جيرالد فورد، نائبه الذي تولى مهام الرئاسة بعد استقالة نيكسون.

بعد الاستقالة، قضى ريتشارد نيكسون آخر أيامه التي امتدت طويلًا لـ20 سنة. في كاليفورنيا، إلى أن توفي عن عمر يناهز 81 عامًا، بعد إصابته بنوبة قلبية شديدة، وأُعلن الحداد الوطني على رئيس ابتدأ مشواره بحب الناس له، وأنهاه ببغضهم.

 

انتهت حياة ريتشارد نيكسون بكل ما فيها، كان شابًا طموحًا امتاز بمواهب فذة، واستطاع تسخير ما حُبي به من ملكات لصالحه، بأن جمع حوله الناس من مؤيدين وداعمين، بخطاباته القوية وكاريزمته اللافتة، لكنه رغم كل ذلك، عاش تقلبات عديدة، ولم يتح لنفسه تتويج مسيرته السياسية بالذكر الحسن، فخُتم له بشر أعماله، فكان أول رئيس أمريكي يستقيل في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.