04-يوليو-2018

هناك مؤشرات تدفع للتشكيك بديمقراطية النظام السياسي الأمريكي (Getty)

ليس النقاش عن كون النظام السياسي الأمريكي ديمقراطيا، غريبًا، وعلى العكس من ذلك فإن الرؤساء الذين ينجحون بدون أن يفوزوا بأصوات الأغلبية من المواطنين، يجعلون التشكيك بهذه الديمقراطية ضروريًا. كذلك فإن مساهمة الأمريكيين في القرارات الكبرى مثل الحروب يصير أقل مع الوقت، بما أن أولئك الذين يتخذون هذه القرارات لا يمثلون أغلبيتهم. وفي هذا المقال المترجم عن مجلة "ستراتيجيك كلتشر" الإلكترونية، يطرح إريك زويس سؤالًا أوليًا جدًا، عن كون النظام في الولايات المتحدة ديمقراطيًا أم ديكتاتوريًا، وكيف تلعب وسائل الإعلام التقليدية في تمثيل النظام على غير حقيقته، وخدمة الأرستقراطيين وأصحاب المليارات داخل هذا النظام.


فاز الديمقراطيون بالتصويت المحلي في ستة من أصل آخر سبعة انتخابات رئاسية، والتي، مع تقاعد أنطوني كينيدي، كان من شأنها أن تؤدي إلى تعيين ثمانية من تسعة قضاة في المحكمة العليا. ومع ذلك، سيجري تعيين أربعة من أولئك القضاة من قبل الرؤساء الذين تولوا المنصب على الرغم من حصولهم على أصوات أقل من خصومهم. وسيحظى الجمهوريون بسيطرة قوية متزايدة على أغلبية المحكمة، مع وجود فرصة لاستبدال كينيدي المتردد في بعض الأحيان بأحد الموالين لحركة المحافظين غير المترددين على الإطلاق.

على مدى الجيل الأخير، تحرك الحزب الجمهوري بسرعة نحو اليمين، في حين أن مركز الرأي العام لم يفعل ذلك

على مدى الجيل الأخير، تحرك الحزب الجمهوري بسرعة نحو اليمين، في حين أن مركز الرأي العام لم يفعل ذلك. ويكاد يكون من المستحيل أن نعثر على أساس موضوعي مؤيد لحكومة جمهورية بين الرأي العام. فيما يتعلق بالرعاية الصحية والضرائب والهجرة والأسلحة، تخلى الحزب الجمهوري (الحزب القديم الكبير GOP) عن أمريكا خلفه في سباقه نحو اليمين المتطرف. لكن المحكمة العليا تؤكد قدرتها على مواجهة التيار الذي يهدف إلى تعميق تطرفها، والذي لا يحظى بشعبية وذلك من خلال تنظيم سلطة مضادة للأغلبية.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الجمهوريين التي لا تتعلق بدونالد ترامب

وهذا هو ما ألقى المحافظ الديمقراطي الجديد (جناح هيلاري كلينتون) جوناثان تشيت، الذي يكتب في مجلة نيويورك (المجلة الدعائية للحزب الديمقراطي) عليه الضوء مؤخرًا، ليكتب شيئًا صحيحًا أخيرًا ولو على سبيل التغيير. جاء هذا الاقتباس في افتتاحية مقال تشيت في السابع والعشرين من حزيران/ يونيو، والذي جاء تحت عنوان "المحكمة الجمهورية وفترة حكم الأقلية". يدير المحافظون الجدد حاليًا كلا الحزبين السياسيين في أمريكا – وليس فقط الحزب الجمهوري – بغض النظر عن وجهة نظر الناخبين في فلسفة المحافظين الجدد. إن هذا التفاوت بين الجمهور غير الأيديولوجي والحكّام المنتمين للمحافظين الجدد، يرجع إلى حقيقة أن الناخبين ليس لديهم سلطة حقيقية في أمريكا (وهو أمر أشار إليه تشيت في ذلك المقتطف، ولكن فقط داخل السياق الحزبي بين الحزب الديقراطي والحزب الجمهوري، وليس في أي سياق أوسع أو أكثر شمولًا، والذي يشكك في النظام السياسي والاقتصادي ذاته – على مستوى أعمق من مجرد "الديمقراطي" في مقابل "الجمهوري"). وعلى النقيض من هذا الجمهور الذي لا حول له، يستحوذ الأرستقراطيون الأمريكيون على السلطة كلها، وهم إمبرياليون ("محافظون جدد") لأنهم يريدون أن تهيمن إمبراطوريات الشركات الدولية الخاصة التي يمتلكونها على العالم بأسره. لكن هذا الافتتاح الثاقب (رغم تركيزه على نطاق ضيق للغاية) من تشيت يُظهر أنه حتى المحافظين الجدد (أمثاله) لا يخطئون على الدوام في جميع الأمور. ففي الواقع، كانت هذه الافتتاحية التي طرحها أحد المحافظين الجدد التابعين للحزب الديمقراطي، والتي تدور حول ديكتاتورية المحافظين (الجمهوريين) المتزايدة في أمريكا، صادقة تمامًا داخل النطاق الحزبي الضيق، وبالتالي (إلى ذلك الحد) فهي أشبه بتجسيد لـ "نظرية القرد اللامنتهية" – والتي تقول بأن "القرد الذي يضغط بشكل عشوائي على لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة لفترة زمنية غير محدودة، سيكتب بالتأكيد نصًا معينًا، مثل الأعمال الكاملة لوليام شكسبير".

ومع ذلك، انتهت قطعة تشيت الشكسبيرية عند هذه النقطة تحديدًا، عندما أعقب على الفور بيانه الافتتاحي بقوله "تبدأ القصة فعليًا في كانون الأول/ ديسمبر عام 2000"، وشرع في إلقاء اللوم في كل شيء على قضية بوش ضد آل جور، وعلى الطريقة التي اغتصب بها رجال الحزب الجمهوري الأمة الأمريكية في 9 كانون الأول/ ديسمبر عام 2000. إلا أن هذه القضية المتعلقة بكون أمريكا دولة ديكتاتورية تنتشر في الواقع بشكل أعمق -وأبعد- من ذلك الانتصار للحزب الجمهوري (كما سيتبين هنا).

تحاول الأرستقراطية الأمريكية الضغط بشدة لفرض  السيطرة على وسائل الإعلام القليلة التي لا تسيطر عليها

إن الدراسة العلمية الشاملة الوحيدة التي أُجريت حول ما إذا كانت الولايات المتحدة دولة ديمقراطية أو ديكتاتورية، نُشِرت في عام 2014، وتوصلت إلى أنه "في الولايات المتحدة، حسبما تشير النتائج، لا تحكم الأغلبية – على الأقل ليس بالمعنى المتعلق بتحديد النتائج السياسية".

وبالتالي، على سبيل المثال، فإن آرائنا حول "أسلحة الدمار الشامل التي امتلكها صدام" قد جرى التلاعب بها ببساطة من خلال أصحاب الشركات الدولية القائمة داخل الولايات المتحدة، مثلما سيطر نفس هؤلاء الأفراد فاحشي الثراء (معظمهم أمريكيون) على اختيار الأشخاص التسعة الذين سيحكمون من داخل المحكمة العليا، فيما يتعلق بما يعنيه وما لا يعنيه دستور الولايات المتحدة (وبالطبع قضت هذه الهيئة القضائية في قضية بوش ضد آل غور).

لذا أصبح الدستور الأمريكي أكثر التواءً (على يد هؤلاء القانونيين) "ليشير" إلى أشياء (مثل الديكتاتورية الأرستقراطية) التي كانت مكروهة من قبل مؤسسي أمريكا، الذين حاربوا في الواقع ضد الأرستقراطية البريطانية. لقد أصبح هذا الدستور أكثر التواءً بحيث "يشير" إلى أشياء مثل إنشاء وتوسيع إمبراطورية دولية ومثل السماح بإجبار دافعي الضرائب الأمريكيين على دعم الخطاب السياسي لبعض الأديان دون أديان أخرى، وعدم دعم خصوم جميع الأديان. (خاصة وأن الحزب الجمهوري يستفيد بشكل كبير من تمكين القساوسة الإنجيليين لتقديم الدعاية الجمهورية لجموعهم).

ووفقًا لتلك الدراسة العلمية، فيما يتعلق بالولايات المتحدة خلال الفترة التي أُجريت فيها الدراسة، والتي امتدت من عام 1981 حتى عام 2002، وهي فترة العشرين عامًا التي سبقت قضية بوش ضد آل غور، وهذا اقتباس مباشر منها: "يبدو أن تفضيلات الشخص الأمريكي العادي لها تأثير ضئيل يقترب من الصفر فضلًا عن كونه غير ملحوظ من الناحية الإحصائية على السياسة العامة".

يبدو أن تفضيلات الشخص الأمريكي العادي لها تأثير ضئيل يقترب من الصفر فضلًا عن كونه غير ملحوظ من الناحية الإحصائية على السياسة العامة

إذًا: كيف تعمل القبضة الديكتاتورية الأرستقراطية على الحكومة الأمريكية؟ لم تُسلب "انتخابات" الرئاسة الأمريكية التي أُجريت عام 2000 من الناخبين الأمريكيين وحسب، بل جرى ذلك أيضًا مع كل الانتخابات القومية الأمريكية تقريبًا، وخاصة الانتخابات الحاسمة، مثل الانتخابات السياسية التمهيدية للكونغرس وانتخابات الرئاسة، ليصبح المرشحون هم المختارون من كلا الحزبين السياسيين وبالتالي يجري طرحهما أمام الجمهور باعتبارهما المتنافسين النهائيين اللذين من الممكن أن يفوزا بالمنصب في الحكومة الوطنية للولايات المتحدة. مثلما كان بيرني ساندرز هو المرشح المفضل من بين جميع المرشحين في عام 2016 ليصبح رئيسًا للولايات المتحدة، لكن سُلِب منه الترشيح بواسطة اللجنة الوطنية الديمقراطية من أجل هيلاري كلينتون، وهو ما يجري في كل "الانتخابات" التي تؤهل للمناصب الوطنية الأمريكية. كما أن هذه الديكتاتورية التي يمارسها فاحشو الثراء لم تبدأ منذ قضية بوش ضد آل غور، على حد زعم تشيت.

تحاول الأرستقراطية الأمريكية التي تسيطر على جميع المؤسسات الأمريكية الكبرى – بما في ذلك جميع وسائل الإعلام الرئيسية – في الوقت الحالي الضغط بشدة لفرض نوع من السيطرة على وسائل الإعلام القليلة التي لا تسيطر عليها: على وسائل الإعلام التي تتواجد فقط على الإنترنت، نظرًا لافتقارها إلى التمويل اللازم حتى تتواجد في صورة ورقية مطبوعة، أو غيرها من مرافق بث الشبكة والتلفزيون أو الشبكات السلكية. وتظهر طريقة إحكام عمالقة "الأخبار" بهذه السيطرة على الحقائق غير المرغوبة، في وصف تلك المواقع الإعلامية الصغيرة (التي تصل إلى نصف درزينة أو أكثر والتي تنشر الحقائق المحظورة في أي مكان آخر) بأنها تنشر "أخبارًا كاذبة"، وفي ادعاء أنه يجب أن يثق الشعب الأمريكي بوسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية (وهي نفس وسائل الإعلام الإخبارية التي خدعت الجمهور في عام 2002 حتى يشعروا بالخوف من "أسلحة الدمار الشامل التي امتلكها صدام" والتي "بررت" في عام 2011 تدمير أوباما لليبيا وغزو سوريا فيما بعد). من الواضح أن هذا أمر جنوني، إلا أن الأرستقراطيين الأمريكيين يريدون أن يصدق الجمهور هذه الطريقة.

في 27 من حزيران/ يونيو، ذكرت مؤسسة غالوب: أجرت مؤسسة غالوب ومؤسسة جون إس وجيمس إل نايت تجربة على شبكة الإنترنت لتقييم فعالية إحدى أدوات تقييم المصادر الإخبارية التي صُمِمت لمساعدة مستخدمي الأخبار على الإنترنت على التمييز بين الأخبار الصحيحة والمضللة. وتقوم الأداة بتحديد المؤسسات الإخبارية الموثوقة (باستخدام علامة خضراء) أو غير الموثوقة (باستخدام علامة حمراء) بناء على تقييم أعمالها وتمويلها وغيرها من العوامل التي يقدمها الصحفيون المتمرسون.

وانتهى تقرير غالوب الإخباري إلى: "تعرب كل من مؤسسة غالوب ونايت عن تقديرها للدعم المقدم لهذا البحث من قبل كل من مؤسسة فورد ومؤسسة بيل وميليندا غيتس بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المفتوح". وتعتبر جميعها من مؤسسات المحافظين الجدد، التي تمثل مصالح المليارديرات الأمريكيين – وليس الجمهور في أي مكان.

كما خلُص التقرير الفني لهذه التجربة إلى أن الإعلام الإخباري السائد يمكن أن يُزيد من تحامل الجمهور ضد الإعلام الإخباري غير السائد، من خلال تعيين "الصحفيين المتمرسين" وتمييز تلك الوسائل الإخبارية المتنافسة الصغيرة على أنها تقدم "معلومات مضللة" بدلًا من "الأخبار":

عملت هذه التجربة الاستقصائية على تقييم تأثير إحدى أدوات تصنيف المصادر– وهي عبارة عن علامات تتعلق بمدى موثوقية المؤسسات الإخبارية بناء على تقييمات من الصحفيين المتمرسين. وتشير النتائج إلى أن استخدام هذا النهج قد يساعد في مكافحة المعلومات المضللة على الإنترنت واستعادة الثقة في الحصول على أخبار جيدة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف خدع الإسرائيليون جون كينيدي بشأن السلاح النووي

ويعتبر هذا الاستنتاج بالطبع من الأخبار الجيدة للغاية بالنسبة لأصحاب المليارات الأمريكيين، نظرًا لأن المزيد من منع انتشار ما يسميه الأرستقراطيون بـ "المعلومات المضللة" (مثل هذه) سيُمكِّنهم من زيادة دكتاتوريتهم أكثر من ذلك.

ربما سيتمثل الغزو التالي الكبير في إيران. ويبدو أن وسائل الإعلام الأمريكية والحليفة تركز بشكل متزايد على هذا الهدف المحدد

مع مرور الوقت، تصبح وسائل خداع الجمهور أكثر احتراسًا مما كانت عليه من قبل. وتتمثل الطريقة التي تعمل من خلالها الديكتاتورية في أمريكا في خداع الجمهور؛ وربما ساعدتهم الدراسة التي تضمنت مؤسسات غالوب ونايت وفورد وغيتس وسوروس على تطوير "أداة" أكثر فعالية للقيام بذلك.

ربما سيتمثل الغزو التالي الكبير في إيران. ويبدو أن وسائل الإعلام الأمريكية والحليفة تركز بشكل متزايد على هذا الهدف المحدد. وربما يتم الاستعانة في الوقت الحالي بـ"الصحفيين المحنكين" لهذا الغرض. فمع تولي دونالد ترامب للسلطة، أصبحت إيران بشكل نظامي الهدف الرئيسي القادم، إِذْ مثّلت هدفه الرئيسي قبل انتخابه؛ ويمكن القول بأنه جرى اختياره من قبل الأرستقراطية الأمريكية، والأرستقراطية الإسرائيلية، ومن قبل عائلة آل سعود المالكة في المملكة العربية السعودية وزعماء العائلات الملكية في الإمارات العربية المتحدة، لهذا السبب بشكل أساسي، ليتم تنصيبه لإدارة النظام الأمريكي. لكن، بالطبع، كان من المتوقع أن تسير الأمور بشكل جيد كذلك إذا جرى "انتخاب" هيلاري كلينتون. هذا هو حال الأمور: فالسياسة في أمريكا، وخاصة على المستوى الوطني، تعتبر في الوقت الحالي مجرد عرض للعرائس. ومن الواضح أن الكثير من الناس إن لم يكن أغلبهم ممن يمسكون بالخيوط داخل العرض لا يعيشون هنا – فهم أجانب، لكن من الفئات التي يعتمد عليها ترامب (كما هو واضح حاليًا) لا من المضطهدين (مثل "المكسيكيين"). ويلعب الشعب الأمريكي دور المشاهد في ذلك، بينما لم نقم حتى بشراء عرض العرائس هذا، بل فعل المليارديرات ذلك. (ويشتري المليارديرات الأمريكيون أيضًا مسرح العرائس الذي يقدم روسيا على أنها قوة خارجية تسيطر على الحكومة الأمريكية و"تُعرِّض الديمقراطية للخطر" في كل مكان. خلال الحقبة الشيوعية، كانت هذه القصة قابلة للتصديق من قبل رجال الاستخبارات، ولكن بعد 24 من شباط / فبراير عام 1990 لم يعد الأمر كذلك).

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هل ماتت الليبرالية؟

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل