07-يناير-2021

محمود درويش و نزار قباني في بغداد (تصوير: شربل داغر)

للشّعر مؤسّسون يظهرون في فترات تاريخيّة لكي يُرسوا قواعد وفهمًا جديدًا، في البداية يلقون المحاربة والرفض والخصام، ثم يلتحق بهم أتباع ومريدون يضيفون إلى ذلك المذهب جديدًا على جديد المؤسسّين الأوائل، المأساويّ دومًا يكمن في المقلّدين الذين يمتازون قبل أيّ شيء بقلّة الموهبة، فيأخذون بالصيغة السطحية التي يظنونها جوهر ذلك المذهب أو الاتجاه، ومن خلالها يبرزون في الفضاء الثقافي العام.

لعل الشعر من أشدّ الفنون حساسية للتقليد، خصوصًا حين نكون معاصرين لفترات تسود فيها قيم فنية ثابتة، تعمل مختلف التجارب في مقتضاها

تعيد العصور اللاحقة الاعتبار إلى المؤسسّين، ولا تقصّر في إضافات لاحقين يقومون بتأسيس جديد، من خلال عملية عود على البدء، الأمر الذي ينسف المقلدين نسفًا لا نعود بعد نسمع بهم.

اقرأ/ي أيضًا: محمد الماغوط: إلى بدر شاكر السياب

يحدث هذا في الدين والفكر والفن والأدب. حركة تأسيس، ثم قراءة جديدة يرافقها ترسيخ أو انعطاف، وتنقية لعوالق الاتجاه من الطفيليات الأدبية.

لعل الشعر من أشدّ الفنون حساسية للتقليد، خصوصًا حين نكون معاصرين لفترات تسود فيها قيم فنية ثابتة، تعمل مختلف التجارب في مقتضاها، كما هو الحال في وقتنا الراهن الذي بات فيه المقلدون يمتلكون قوّة معنوية تتمثّل في امتلاك منابرهم إلكترونية، التي يتابعها مستجدون، تطغى عليهم السذاجة المعرفية، يعتبرونها أصيلة بدأت من نفسها، دون سؤال عن مدة اتصالها بمتن سابق تنسخ عنه، أو تدور في فلكه، ولو وجد السؤال لقام المتابعون أنفسهم بعملية التعرية.

لعل واحدةً من أسوأ مشاكل الشعر أنّه فن مغوٍ، فحين تقرأه في مراحل مبكّرة من حياتك تشعر بالقدرة على الإتيان بمثله، وهي حالة عالمية لا تكاد تجد فيها استثناءات، حين ترسم لنا الدراسات العلمية للتجارب الشعرية الكبرى أشجار نسب، تؤكد ما نرمي إليه، على أنّ التقليد وأتباعه يتساقطون من حسابات الزمن.

عربيًّا، في الوقت الراهن، يسير التقليد في منحيين مختلفين، الأول يمتطي الشعر السهل والبسط، الذي يُعلي من شأن التجارب الشخصية، والثاني يفتك بالشعر المركّب الذي يستمد طاقته من طاقات اللغة أوّلًا.

المنحنيان تحوّلا على أيدي المقلدين إلى ما تحوّل إليه ماء زمزم. حيث يقال إن مواسم الحجّ تزدهر فيها تجارة أي ماء على أنّه من العين المقدّسة، إلى درجة يتساءل فيها الفَطِن إن كان زمزم عينَ ماء أم بحرًا!

هذا ما نراه مع من انتهكوا شعر رياض الصالح الحسين، حيث بات بإمكانهم اعتبار أية فكرة تخطر على البال إلى قصيدة، دون معالجة أو رؤيا أو استراتيجية. والأمر ذاته مع مقلدي سليم بركات الذين يطبقون الوصفة ذاتها، لكنّ مع هذيان لغويّ أشدّ علوًّا من الطبول، في محاولة الإيهام أنّ ما يصدر عنهم هو نتاج حفر فكري في الثقافة واللغة.

المقلّدون قليلو خجل مثل تجّار التحف المزيّفة، يغتصبون الأصل بشكلٍ متواصل، يحطّون من قدره ويهينونه بلا توقّف، وفوق ذلك يخفون الجريمة بعبارات "التأثر" و"التناص" حين تحاصرهم.

لا يعني تقسيم المقلدين إلى "رياضيين" و"بركاتيين" اقتصارًا على كل ما يقع في هذا الباب، إلا أنّ استعمال هذين الشاعرين يأتي من تقديم ثرثرة شخصية على أنها شعر في حالة رياض، وزخرفة لغوية مرضيّة في حلة مقلّدي سليم بركات. تحت هذين الاسمين يمكن أن نضع قسمًا واسعًا من الشعر السوري بلا تردّد.

المقلّدون قليلو خجل مثل تجّار التحف المزيّفة، يغتصبون الأصل بشكلٍ متواصل، يحطّون من قدره ويهينونه بلا توقّف

هناك مُقلِّدون لمحمود درويش يمشون على خطا تفاعيله وأوزانه وقوافيه، بل يقرؤون بطريقته. ألا يفعل ذلك تميم البرغوثي كتابةً وإلقاء؟ لكنّ درويش أصلٌ معروف، حضوره الراسخ حصانة، يكفي أن تسمع جملة أو صورة لتشير للمقلّد "هذه لدرويش يا عزيزي". هذا لا يعني بحال أنّ رياض وسليم غير مكرسين، لكنّ فنهما الشعري غير محفوظ في الأذهان بتلك الطريقة التي يُحفظ فيها شعر درويش، فكل ما نعرفه هو المناخ العام للنصوص، ولهذا يمضي التقليد بخير وسلامة.

اقرأ/ي أيضًا: مختارات من شعر بندر عبد الحميد: من يفهم شِعري يعرف وجهي

نزار قباني نسخَه عديدون، حتى أن الشاعرة سعاد الصباح سرقت نبرته سرقة موصوفة. أدونيس اتبعه كثيرون لكنه بحكم مرافقة نصّه الفني ببيان نقدي، بات من يأخذون عنه يعتبرون أنفسهم تلاميذ أكثر، خصوصًا من شعراء مصر كعبد المنعم رمضان.

بلا شكّ أن الكتابة تأثير وتأثر، طبقات تضاف على طبقات، أصوات تحاور أصواتًا، لكن التقليد سرقة منمّقة وحسب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن الاقتباسات المزيفة

محمود درويش.. شاعر منظور النكبة