09-أغسطس-2017

محمود درويش (1941 - 2008)

بعد سنوات الغياب التي توطّد فيها محمود درويش (1941-2008) لا كشاعر وحسب، بل كصورة مشرقة للثقافة العربية المعاصرة، لا يزال الرجوع إلى مدونته الشعرية مُغريًا لما يحفل به من اكتشافات جديدة، بعيدًا عن القراءات النمطية التي تنتشر في السوشيال ميديا.

لا يزال الرجوع إلى مدونة محمود درويش الشعرية مُغريًا لما يحفل به من اكتشافات جديدة، بعيدًا عن القراءات النمطية التي تنتشر في السوشيال ميديا

تجربته لا تزال دعوةً مفتوحة إلى وليمة دسمة تروي نصف قرن عربيّ عبر شعرٍ يتوهّج بمقارباته الفكرية والتاريخية، ولغته الحيوية التي تختصر مسار اللغة العربية في العصر الحديث، من خلال مصفاة دقيقة لم تذعن لتعاليم القديم، ولا استسلمت لإغراء الجديد، إنما بحثت عن أفق لحياة اللغة في الشعر، وحياتها في الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: في حضرة محمود درويش الألمانيّ

لا نضيف جديدًا إذا قلنا إنّ جماهيريته النادرة في اتساعها شكّلت عبئًا كبيرًا عليه في كثير من الأحيان، لا سيما في زمننا الذي حوّله إلى مادة مستهلكة. إلا أن الأسوأ أنّ صورة درويش نفسه، لا شعره أو نثره، أصبحت هي الإغراء الأكبر لعدد كبير من الشعراء الجدد. فكثيرًا ما صار الطموح إلى انتزاع بعض المكانة الشعبية التي تبوأها يشدّ الشعراء، أكثر من أن تشدهم القيم الثقافية التي مثّلها.

بناء على هذا، لا يمكن اعتبار تلك الشهرة الجماهيرية تعبيرًا عن القراءة العميقة، بوصفها الفعل الأرفع في إحياء النصوص والعيش فيها، بمقدار ما باتت تعبيرًا مؤسفًا ومُسفًّا عنه كونه شاعرًا واسع التداول، بما يضعه مع نجوم الإعلام سريعي الأفول، عديمي المنجز.

قراءة درويش ونقده والبحث في مزاياه ومكامن قوته هي ما نحتاجه، لأن من شأن ذلك أن يضعنا وجهًا لوجه مع قيمه الفنية، التي تأتي في مقدمتها هندسة القصيدة. لم تعد كتابة الشعر تقوم على تفتّق القريحة عن نصّ عفويّ يرسله الإلهام، بما يستدعي تصفيقًا عابرًا في أمسية في أحسن الأحوال. ذلك وهم الموّال. إغراء السهل واليسير يقود إلى هاوية الشفهية، وتكون الكتابة ضدّ الكتابة. البناء الدرويشي المركّب قد ينطلق من نماذج ثقافية معروفة: "نشيد الإنشاد" أو "سورة الرحمن" أو "السوناتا"، لكنه يضخ فيها خبرته الحياتية والثقافية واللغوية، بحيث لا يبدو الأصل مهمًا على الإطلاق.

 إنجاز محمود درويش الشعري مماثل لكبرى الإنجازات في حقول الفن المختلفة، تحديدًا لأنه كرّس قواعد بعينها

كذلك في تشكيل سردية بأدوات شعرية، كما فعل ذلك حين قدّم روايته لحصار بيروت في عدّة قصائد، أو تراجيديا تدمير مخيم تل الزعتر، أو مقاربته لحكاية الهنود الحمر، أو خروج العرب من الأندلس، أو سيرته الذاتية، أو حواره مع الموت.. درسه الأكبر هو العمل على الكتاب الشعري المتسق، لا مجموعة القصائد المتناثرة. ولعل ذلك عائد إلى عدم الاستسلام إلى التفاصيل اليومية بوصفها صيغة شعرية نهائية، على الرغم من اعتماده لغة اليومي، خصوصًا في أعماله ما بعد مرحلة بيروت، إلا أنه يجعل القصيدة عملًا فسيفسائيًا. في "قصيدة بيروت" يقول: ليلى لا تُصَدِّقني/ ولكني أُصَدِّقُ حَلْمتيها حين تنتفضان... أغريني بمشيتها الرشيقة:/ أيطلا ظبيٍّ وساقُ غزالةٍ وجناح شحرور وومضةُ شمعدان". وفي "طباق": "على الريح يمشي. وفي الريح/ يعرف مَنْ هُوَ. لا سقف للريح/ لا بيت للريح. والريحُ بوصلةٌ/ لشمال الغريب". شاعر آخر سيكتفي بمثل هذين المقطعين، وسيتعامل مع كل منهما كقصيدة قائمة بذاتها، فيما ترفض وصفة درويش هذا الخيار كليًّا، وتقدم لنا اقتراحًا تقنيًّا آخر، وهو أن يوجد الشاعر رابطًا بين هذه اللقطات والومضات التي يكتبها، ليجعلها أشبه بأبيات ضمن معلقة عملاقة، أو كتفاصيل في جدارية كبرى.

اقرأ/ي أيضًا: من شاعرٍ شاب إلى محمود درويش

وجد حلّه في البساطة، لكنّ بساطته كانت صارمة من جهة دقة الفكرة وعمق الشعور.

يمكن لنا، لأجل هذه القيمة الجمالية وسواها، أن ننظر إلى إنجازه الشعري بكونه مماثلًا لكبرى الإنجازات في حقول الفن المختلفة، تحديدًا لأنه كرّس قواعد بعينها. وكما اختصرت تجربة نجيب محفوظ سيرورة الرواية العربية، من خلال إيجاد أعمال روائية تعادل ما أنجزته المدارس العالمية؛ يمكن النظر إلى تجربة صاحب "جدارية" بالمثل، ففيه تجد لوركا ونيرودا وريتسوس، وشعراء الرواية اليهودية كحاييم بياليك ويهودا عميحاي، وأصوات النصوص الدينية، وكذلك المتنبي.

درويش لم يقرأ كما ينبغي، رغم محاولاته المستميتة حيًّا لنسف كل إطار كان محبوه يضعونه فيه. قصيدته التي تقترح علينا آفاقًا واسعة، ومساراته المتعددة، وتعويضاته النثرية عن مقاربة قصيدة النثر والرواية.. كلها معًا تستحق أن نذهب إلى قراءات أكثر جديةً، وإذا كان آخر ما تركه لنا عبارة "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، فالأكيد أن تلك القراءات التي تظهر على شكل منشورات إلكترونية أو فيديوهات تنهيها شرَّ نهاية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شاعر الثورة

لماذا تركتَ المساءَ يتيمًا؟