13-مارس-2019

محمود درويش (Getty)

الشعر فنٌّ يحاور صبرَنا. كثيرًا ما يبقى غامضًا في القراءات الأولى، أو نربطه بفهمٍ يرتبط بلحظنا النفسية أثناء تلك القراءات. لكنّ تكرار قراءة الكتب الشعرية على الدوام، مرّةً تلو مرّة، في فترات متباعدة، وخلال أطوار من تطوّر وعينا وتراكم خبراتنا الشخصية؛ يجعلنا مستكشفين أو منقبين يصبرون على شح المعنى، ويرضون بالقليل منه، إلى أن تنفتح الأبواب السحرية بعد وقت وجهد، فنبدأ بتشكيل فهم شامل لمنظور الشاعر الذي نقرأه، وباكتشاف هذا المنظور، في نقطةٍ ما، نستطيع مسح التجربة بالكامل في مقتضى هذا الفهم.

تقول تجربة درويش إنّ النكبة ليست تجربة، وليست سيرة. النكبة منظور

ضمن هذا المسار، يمكن النظر إلى النكبة بوصفها منظورًا عند محمود درويش 1942–2008 (تمرّ ذكرى ميلاده اليوم). ثمة مسألة هامة هنا، هي تعامل الكثيرين مع النكبة كجزء من تجربة الشاعر، أي مرحلة ساهمت في التأثير في شخصيته وفكره وتوجهاته، لكنّه عاد وتجاوزها إلى معانٍ أخرى، وهذا تصوّر يفتقر إلى الدقة والإنصاف، فنكبة درويش ليست حادثًا في الطفولة، غيّرته حوادث في العمر اللاحق مثل: الحب، المنفى، الانضمام إلى الثورة الفلسطينية، المجازر.. إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: محمود درويش اكتشافنا الدائم

الأصحّ أن درويش لم يرضَ بجعل تجربة الخروج من البلاد طفلًا تجربة حدثت وانتهت، لا سيما أنه كتبها مرارًا، خصوصًا مع استعادتها كاملةً في "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟"، بل إنّ استعادتها بهذا الشكل، في هذا الديوان المتأخر زمنيًّا في إنتاجاته، تعني أنها عمود أساسي في بنيانه الثقافي والنفسي.

تقول تجربة درويش إنّ النكبة ليست تجربة، وليست سيرة، أي ليست حدثًا حدث في يوم من الأيام، وترك عقدًا نفسية فيه، كما أنها ليست قصة من قصص حياته التي نعرف بعضًا منها. النكبة، بكلمة واحدة، منظور. وإذا كان المنظور طريقة رؤية خاصة إلى العالم فإن تجربته ترى العالم والأشياء من زاوية الضحية المنكوبة.

بذل المؤرخون الفلسطينيون في العقود الأخيرة جهدًا كبيرًا على صعيد سد فراغ غياب رواية فلسطينية شاملة للنكبة، وذلك لأنّ الفلسطيني تعامل معها بوصفها مؤقتًا، فترة انكسار يتم تجبيرها بالعودة. وحين طالت هذه العودة، مترافقةً مع توطيد الصهاينة أنفسهم في المكان وتغيير ملامحه، وانتقال المخيمات من محطاتٍ إلى أوطان، بدأت فكرة المنفى تدفع الفلسطينيين لصناعة روايتهم الشاملة، فباتت الجهود تنصب على التاريخ الشفوي، وكتابة تاريخ الحركة الوطنية، والأرشفة والتوثيق لمناحي الحياة اليومية والاجتماعية، إلى جانب ذلك ظهرت أعمال أدبية تروي النكبة بانوراميًّا، روايات إلياس خوري مثالًا، على وجه الخصوص "باب الشمس" و"أولاد الغيتو".

نلمس في شعر درويش، في مختلف مراحله، إدراكًا عميقًا لفكرة المنفى، وهو بذلك أحد السبّاقين على هذا الصعيد، لكنّ الشعر، كما أسلفنا، فنّ يحتاج إلى صبر ورويّةٍ، ولهذا كثيرًا ما جرى التعامل مع أفكار القصائد وتصوّراتها كمجازات واستعارات وحسب، وكأنّ الشعر لا ينتج أفكارًا!

لنقرأ هذا المقطع من ديوان "العصافير تموت في الجليل"، الصادر عام 1969، ولنتأمّلْ كيف يصبح الحصار طريقًا لاكتشاف الهوية:

"مدينتنا حُوصرتْ في الظهيرةْ

مدينتنا اكتشفتْ وجهَهَا في الحصارْ".

قدّم درويش النكبة على نحو مستنير حينما جعل شعرَه خطابَ المنكوب إلى العالم، وأخطأنا بحقّه مرارًا، فمرة نقول: شاعر الأرض، وثانية: شاعر الثورة، وثالثة: شاعر الجماهير، إلى آخر تلك الألقاب التي تُبرز بُعدًا وتحجب أبعادًا. لا شك أنه حقّق ذلك لكنّ أيًّا من هذه الألقاب أو التسميات ما استطاع اختصار مساره، فشاعر الأرض الفلسطينية كتب من خارجها، وشاعر الثورة كان شاعرًا قبلها وبعدها، وشاعر الجماهير لم يقبل بالركون إلى مقتضيات الشهرة وظل مخلصًا لمعنى الفنّ كما يفهمه.

درويش ابن النكبة، ذلك تعبير قاصر متعلّق بسيرته وأبناء جيله، أما إذا قلنا شاعر منظورُهُ النكبة، أي ينظر إلى العالم من كونه منفيًّا مقتلعًا، فهذا هو إنجازه، وهذه هي فرادته، إذ جعل النكبة معنى وفلسفةً ومصيرًا، ليقرأ من خلالها واقعه والصراعات التي وجد نفسه في خضمها، والفشل الذي أفضى بالأحلام إلى الشلل.

منظور النّكبة منظور الخسارة. لطالما وصف نفسه في حواراته بأنه شاعر الخسارة. هذه الخسارة نجدها أكثر ما نجدها في قصائده الملحمية الكبرى، وسوف تتوّجها في النهاية قصيدة "لاعب النرد" بوصفها سيرة للخسارة.

لا يكتفي محمود درويش بالنهاية، بل يمضي ليكتب نهاية ما بعد النهاية. النهاية التي لا تُروى بغير كمنجات المنكوبين

اقرأ/ي أيضًا: محمود درويش.. هنا أيها الموت

في "أحد عشر كوكبًا"، ديوانه الصادر 1992، يمضي منظور النكبة الفلسطينية إلى ضحايا التاريخ ليحاورهم، ويقدّم طلب انتماء إليهم. في سيرة الطرد من الأندلس يظهر درويش أندلسيًّا مطرودًا، ونكبته ليست في فقدان المكان وحسب، فذلك الفقدان ترويه مقاطع القصيدة التي تنتهي منطقيًا عند المقطع المعنون بـ"لا أريد من الحب غير البداية"، لكنه في المقطع الشهير "الكمنجات":

"الكمنجات شكوى الحرير المجعّد في ليلة العاشقةْ

الكمنجات صوت النبيذ البعيد على رغبة سابقةْ

 

الكمنجات تتبعني ههنا وهناك لتثأر مني

الكمنجات تبحث عنى لتقتلني أينما وجدتني

 

الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلسْ

الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين الى الأندلسْ"

 

لا يكتفي بالنهاية الأولى، بل يمضي ليكتب نهاية ما بعد النهاية. النهاية التي لا تُروى بغير كمنجات المنكوبين، النهاية التي تجعل الشعر مرثية وصوتًا للضحايا.

كذلك في مأساة إبادة السكّان الأصليين في أمريكا، يصبح صوته الخارج من زمننا المعاصر صوتًا قادمًا من الماضي، من حوالي خمسة قرون، ليعود صوتًا عائدًا إلى تلك القرون. هذا بالضبط ما أراد درويش تأكيده، وهذا هو بالضبط منظور النكبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاثة شعراء ومرثية واحدة

في الحنين إلى أمّ محمود درويش