25-أكتوبر-2019

لوحة لـ سليم بركات من غلاف روايته "كهوف هايدرا هوداهوس"

كشف الحوار الصحافي الطويل مع الشاعر والروائي سليم بركات، الذي أجراه الكاتب وليد هرمز ونشره مؤخّرًا موقع "ضفة ثالثة"، عن الكثير من حياة هذا الكاتب اللغز، صاحب اللغة اللغز، ذي الحياة اللغز.

عند سليم بركات، في حواره، تتركّب الأشياء تركيبًا يجعل الخوف مُنْصَبًّا على موت الآخر، الصديق والشريك

لا توجد دقّة في القول إننا كشفنا الكثير من حياة صاحب "الجمهرات"، إذ قال: "ليس في حياتي سوى زوجتي وابني والكتابة". من حيث الكم ليس ثمة ما يُكشف في حياةٍ تنعدم فيها الأحداث، ويمضي صاحبها إلى التنسك التام والنهائي في الكتابة.

اقرأ/ي أيضًا: سليم بركات.. غنى أم بذخ لغوي؟

الكثير الذي أقصده يكمن في الصداقة الاستثنائية بين بركات وهرمز، بين الكاتب والقارئ. فمن خلال إيمان الرجلين بالكتابة نفسها، الأول في إنتاجها، والثاني في إخراجها، نتعرّف على ترابط مصيري ظلّ مجهولًا لنا، ترابط صنعه فخٌّ واحدٌ، فخُّ أدب سليم بركات الذي يقوم على كتابته قيمومة يومية، تمتد على المسافة كلها بين استيقاظه ونومه، ليرسل إلى هرمز مخطوطاته كي يحوّلها إلى ملفات إلكترونية على الكمبيوتر، الذي لا يجيد بركات استعماله إطلاقًا، لكي يُصار إلى نشرها في كتب لاحقًا.

الكثير الذي أقصده يأتي من العقدة النفسية، أو الأزمة الإنسانية، التي لم نسمع عن مثلها من قبل لولا هذا الحوار الذي يضعنا في أتونها. نعرف أن الكتابة إحدى أشدّ الأعمال البشرية صراعية، خصوصًا على جبهتي الزمن والموت، ونعرف أيضًا أن كتّابًا كثيرين يلهثون وراء الكلمات والأفكار لهاث الهارب من موته الشخصي، ولطالما سمعنا كتّابنا المفضلين يتحدّثون عن أعمالهم التي تحدّوا فيها الموت، واستطاعوا أن يخطفوها منه رغمًا، لكن لدى سليم بركات ما هو أكثر من حجرٍ اعتياديّ مما يلقيه الكتّاب الآخرون في بحيرة الموت ولا يعكرون صفوها. إنه يرمي صخرة عملاقة تقيم قيامتها عندما يُعلن صراحة عن خوفه من موت وليد هرمز قبله، لا سيما أن تقارب عمريهما ينقل الأمر من الافتراض إلى التحقّق في أية لحظة عبثية من لحظات مزاج الموت. لأجل هذا يتمنى لنفسه الموت قبلًا، كونه لا يدري كيف سيُدير أو يُدبّر شؤون إصدار كتبه ونشرها فيما لو رحل الصديق القارئ، وأيضًا لكي يُتيح له فرصة للتقاعد بعد خمسة عشرة سنة من عمله معه على كتبه.

طالعنا في تاريخ الأدب مثل هذه الثنائيات، ولعلَّ أشهرها فرانز كافكا وماكس برود، فحين قام الثاني بنشر أعمال الأول غير مراعٍ لوصيته إليه بإتلافها فعل ما لم يرغب به كافكا، الذي تمنى على صديقه قتله رمزيًّا ليأخذ الموت مجراه كاملًا، فيذهب الشخص وأثره. بهذا المعنى، الكتابة التي ساعدت كافكا على حياته البائسة انتهى دورها بموته، بالتالي ما من حاجة إلا لطي صفحاته في قبر يشبه الذي طوى جسده.

يُمكن النظر إلى المسألة على النحو الآتي: كتب كافكا لأنه لم يعش، فيما عاش سليم بركات لأنه كتب.

في هذه المساحة الجديدة أمداء واسعة للتأمل في رغبة بركات في البقاء كاتبًا حتى اللحظة الأخيرة، فهذه هي الحياة التي أرادها. وهي طبعًا على النقيض من رغبة كافكا في الموت الكامل الأوصاف، ليس لأنه لم يجد الحياة التي أرادها وحسب، بل لأن الموت هو كل ما أراده، لكنَّ برود خيّب أمله في الموت كما خيّبت الحياة آماله جملة وتفصيلًا.

عند سليم بركات، في حواره، تتركّب الأشياء تركيبًا يجعل الخوف مُنْصَبًّا على موت الآخر، الصديق والشريك، المؤتمن على ودائع أحلامه. الموت الشخصي عادي ومقبول وخالٍ من أي إشكال. موت الآخر هو التهديد. تهديد الكتابة لا الحياة.

كتب سليم بركات عن الموت مرارًا، هجاه ومدحه، تحدّاه وتهيّب منه، فلسفه وجسّده. كتب في قصيدة "تصانيف النهب" من ديوانه "طيش الياقوت": "صفاؤكَ الآن، قرب سياج الموت، صفاء الخسارة أيها الموت. ورهانك الرابح رهان الحمّى التي تشقّق التين، في الظهيرات، للعصافير. وأنتَ، كوّراق حصيف، تموّه الحبر على الحروف بحروبك التي تحشد لها أحلاف العنب، هنا، حيث ثغور الفاكهة هي الثغور التي يتسلل منها العداؤون بأقدار الفاكهة".

كتب سليم بركات عن الموت مرارًا، هجاه ومدحه، تحدّاه وتهيّب منه، فلسفه وجسّده

في هذا النص، أو سواه، يتأمل الشاعر الموت انطلاقًا من كونه مصيرًا أخيرًا، لكنّه الآن يواجه سؤالًا في صميم الكينونة، فإذا كانت صرخة هاملت الشهيرة: "أكون أو لا أكون"، فنحن أمام ردٍّ فيه مزيج من التصوّف والخوف المطلق والحب: تكون فأكون.. أو: أكون بمقدار ما تكون.

اقرأ/ي أيضًا: ترجمة إسبانية وكتالونية لرواية "فقهاء الظلام"

لم تخطر الفكرة لسليم خلال الحوار. لعلها تراوده بعد كلّ كتابٍ مخطوطٍ يسلّمه لوليد، لكنها مرّتنا الأولى، نحن قرّاءه، في معرفة فداحة أن يحاصرك موتان معًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مترجم سويدي: لماذا يغيب سليم بركات عن البوكر؟

رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل