12-نوفمبر-2020

لوحة لـ روبرت راوشنبرغ/ أمريكا

كتب أحدهم ناعيًا: "فقد المثقف العربي دوره الطليعي والمؤثر، حتى أن المذيع التلفزيوني صار أكثر منه قدرة على التأثير في الأحداث الجارية".

وهي، في الحقيقة، نعوة تتكرر كل يوم تقريبًا، وإن بتنويعات مختلفة. يكتب مثقف آخر: "لقد تراجع دور المثقف في العالم العربي، وأصابه اليأس".. بعد أن كان "يُلهم الجماهير، ويتقدم الصفوف ويُنير الطريق، ويجاهر بالرفض لحالات الفساد أو الاستكانة، ويعرّض حياته للخطر من أجل تطوير مجتمعه وبكافة الوسائل".

لا يماري أحد في أهمية دور المثقف أو في ضرورة بقائه واستمراره، فالعالم لا يزال بحاجة إلى ذلك الشخص الذي "يدس أنفه فيما لا يعنيه"

ويقول ثالث: إن المثقف الذي "قاد مسيرة الفكر الإنساني من عصر النهضة الأوروبية إلى الثورة الصناعية مرورًا بالثورة الفرنسية والنهضة العربية الحديثة"، أصبح اليوم "كائنًا منعزلًا ينتج القليل من المعرفة للقليل من الناس"، مؤكدًا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينسحب المثقف ويخفت صوته لأن ذلك "سيكون إيذانًا بدمار الحضارة".

اقرأ/ي أيضًا: غرامشي والثقافة الشعبية.. الدرس الغائب عن "المثقف" العربي

هكذا، في مقالاتهم وحواراتهم الصحفية ولقاءاتهم التلفزيونية وجلساتهم الخاصة، يعلن أدباء ومثقفون عرب هزيمتهم التامة، ذلك أن الجماهير قد خذلتهم ولم تعد تمشي على خطاهم ولا تتزود من أفكارهم، ما جعلهم يفقدون دورهم الطليعي وموقعهم الأمامي. بل إن شاعرًا أسرّ لندمائه بأن يأسه من هذه الحال المقلوبة قد يدفعه إلى التفكير جدياً بالهجرة (ربما كنوع من العقاب لهذه الجماهير الجاحدة!).

والواقع أن الإلحاح على هجاء هذا الزمن يوحي بوجود زمن سابق كان فيه الأمر خلافًا لما هو عليه الآن.. زمن ذهبي كان فيه المفكر قائدًا للرأي العام، والشاعر ملهمًا للجماهير الغفيرة، والروائي صانعًا للثورات. ولكن متى وأين حدث هذا؟ في العصر المملوكي؟ في العصر العثماني؟ في الخمسينيات.. الستينيات.. السبعينيات..؟ متى بالضبط كان هذا العصر الذهبي؟

في حوار صحفي، واجه محمود درويش واحدًا من أكثر الأسئلة تكرارًا وابتذالًا: «لماذا لم يعد للشعر والأدب عمومًا ذلك الدور الذي اضطلع به آنذاك؟"، فأجاب: "ولا مرة نستطيع تحديد هذا الدور بالضبط أو كيف يتجلى.. نحن نقرأ لبعضنا البعض ونعتقد أن المجتمع كله معنا. الشعر دائمًا له دور ثانوي لأنه دائمًا، للأسف الشديد، يخص النخبة.. أما القول إن الشعر كالخبز وكالهواء فهو حلم.. حلم أقرب إلى الوهم.. يا ريت!".

يبدو الأمر وكأن هؤلاء المثقفين الموهومين بالطليعية قد حفظوا فقرة من كتاب التاريخ تفيد بأن المثقفين الفرنسيين هم الذين صنعوا الثورة الفرنسية، أو على الأقل هم من مهّد الطريق لها، إلا أن الأمور عندنا جرت على غير هذا النحو المتوهم، فكانت الصدمة التي أهطلت كل هذه الدموع.  

لا يماري أحد في أهمية دور المثقف أو في ضرورة بقائه واستمراره، فالعالم لا يزال بحاجة إلى ذلك الشخص الذي "يدس أنفه فيما لا يعنيه"، حسب وصف جان بول سارتر، وإلى ذلك الفرد الذي وُهِبَ ـ حسب إدوارد سعيدـ "ملكة عقلية لتوضيح رسالة.. لجمهور ما، وأيضًا نيابة عنه".. نحتاج بلا شك إلى من وصفه زكي نجيب محمود بأنه "يحمل في ذهنه أفكارًا من إبداعه أو من إبداع سواه، ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس فيكرس جهده لتحقيق هذا الأمل".

إن المثقف الطليعي قائد الجماهير لم يمت، فهو لم يولد أصلًا، وبالتالي فلا مبرر لهذه الجنازة الصاخبة التي لا تنتهي

بل لن ننكر أن العالم كان ليغدو رائعًا لو تحقق حلم أفلاطون في أن يتسنم الفلاسفة قيادته.. ولكن ما يجب أن يكون شيء، وما كان وما هو كائن شيء مختلف تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: شلومو ساند و"نهاية المثقف الفرنسي".. من رهاب اليهودية إلى رهاب الإسلام

إن المثقف الطليعي قائد الجماهير لم يمت، فهو لم يولد أصلًا، وبالتالي فلا مبرر لهذه الجنازة الصاخبة التي لا تنتهي، ذلك أن المشيعين اللاطمين المولولين يمشون خلف نعش فارغ!

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزيزي المثقف المصري: الأزمنة ليست كلها سوداء

أمبرتو إيكو وتجديد روح المثقف