25-سبتمبر-2019

ساهم سعيد بإحداث تحول في الدراسات الغربية عن "الشرق" (تويتر)

لا تبدو مهمة تناول ذكرى رحيل مفكر بوزن الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بالمهمة اليسيرة، خصوصًا وأن منتجه الفكري قد شغل مساحة كبيرة ومفصلية في سياق الفكرين العربي والغربي المعاصرين، سواء من زاوية نوعية النص الفكري الذي ينتجه أو من زاوية تعدد مصادر ومشارب النقد الذي تناول مجمل منتجه، ولو أن نص الاستشراق كان أكثرها تناولًا ومناقشةً.

بعد مرور ستة عشر عامًا على وفاته، يستمر أثر إدوارد سعيد  في كل سعي إلى إدراك تعقيد القضايا الثقافية والسياسية للإمبريالية وموروث الاستعمار

بعد مرور ستة عشر عامًا على وفاته، يستمر أثر إدوارد سعيد  في كل سعي إلى إدراك تعقيد القضايا الثقافية والسياسية للإمبريالية وموروث الاستعمار، حيث إن كل دارس في حقل دراسات ما بعد الاستعمار يبقى مدينًا لصاحب "الثقافة والإمبريالية". ولكن قبل ذلك لا بد من التعريج على أجزاء أساسية في سيرته  الشخصية، والتي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل سؤاله الجوهري. فقد ولد إدوارد سعيد في القدس عام 1935 وهي تحت الانتداب البريطاني. ذهبت عائلته إلى المنفى في مصر عام 1947، عندما كان مراهقًا، لكنه عاش هناك لفترة قصيرة فقط، حيث أرسله والداه للدراسة في الولايات المتحدة، وفي هذه اللحظة كانت هزيمة عام 1967 تعيد طرح الأسئلة المرتبطة بانتمائه العميق. وهناك تقدم بأطروحة الدكتوراه عن جوزيف كونراد، ثم بدأ بتدريس الأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك. أصبح أستاذًا للأدب عام 1991 واحتفظ بالكرسي حتى وفاته في 25 أيلول/سبتمبر 2003، في حياة كانت عبارة عن سلسلة من المنافي المتلاحقة.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

كتاب الاستشراق وخصوصيته

كانت تجربة المنفى والعبور والحدود  في قلب عمل إدوارد سعيد، الأمر الذي دفعه للتفكير في علاقات هيمنة الغرب على بقية العالم. وفي هذا السياق تم طرح السؤال الاستشراقي، حيث فتح العديد من النقاشات.

يمكن القول إن مجلد الاستشراق لإدوارد سعيد هو ما فتح الباب لمجال خصب من الدراسات، وما زال يساعد على تطوير أسئلة حاسمة حول قضايا الهيمنة والتمثيل. حيث يتساءل عن الحدود الثقافية والسياسية التي تواجه البشرية وتقسمها باستمرار وتُخضعها، بالسعي لمعارضة الشمولية في عصرنا، وبتناول هذا التمييز ما بين الشرق والغرب باعتباره نقطة انطلاق متخيلة للعديد من الدراسات التي تعاملت مع الشرق. ويؤكد سعيد على ضرورة  تفكيك  الخطاب الأدبي بوصفه منتجًا لتلك للتمثيلات. فيعالج من خلال منهج  نقدي ما يسميه "البعد الخيالي" للرواية وقوى السيطرة التي أثارتها في الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. وبالتالي، أوضح بالفعل أن الاستشراق كان إخفاقًا إنسانيًا وفشلًا فكريًا، مفسرًا أحد جوانب العلاقات السياسية التي تتطلب إعادة فحص عميق للتاريخ.

هو بالتالي يلاحق التحيزات الغربية الأكثر بروزًا القابعة في قلب التقاليد المعرفية والعلمية هناك، وتحديدًا منها الفرنسية والبريطانية لكونهما الأكثر احتكاكًا تاريخيًا، وأول من حاول امتلاك هذه المنطقة التي أسماها المشرق معرفيًا، بالمقارنة مع الأمريكي الذي شكل بدوره تمثلًا مختلفًا عن الأوروبيين، حيث يسلط سعيد الضوء على العيوب المنهجية عند كلا الجانبين الأوروبي والأمريكي.

إن التحدي الذي يواجهه كتاب سعيد هو أنه لا يكتفي بمجرد إدانة هذه التلاعبات، بل إنه يثبت أيضًا أن الشرقيين أنفسهم قد استوعبوا هذه التحيزات، وهم الآن يغذون أنفسهم بهذا الشعور بالسيطرة. وبهذه الطريقة، يشدد سعيد على استمرار ديناميكيات الاستعمار، في أصل ثنائية المفهوم الأسطوري للعلاقات بين الشرق والغرب.

القضية الفلسطينية في وجدان إدوارد سعيد

كانت النكسة العربية  في 1967 هي المحرك الأساسي الذي فرض على صاحب "الأنسنة والنقد الديمقراطي" ضرورة  العمل السياسي، ففي عام 1977 انضم إلى المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان وقتها بمثابة الهيئة التشريعية العليا للشعب الفلسطيني، حيث أصبح من أهم المستشارين لدى القيادة الفلسطينية في تلك الفترة، ومن أبرز الوجوه التي تسعى إلى إبرازها، رغم كونه ناقدًا للكثير من مواقف القيادة. وقد شارك في كتابة وثيقة إعلان قيام دولة فلسطين مع الشاعر محمود درويش الذي تمت الموافقة عليه في نوفمبر/تشرين الأول عام 1988 ليلقيه الرئيس الراحل ياسر عرفات في الجزائر. كان هذا الاقتراب من منظومة صنع القرار في فلسطين يشعره بالاقتراب المعنوي من المكان الذي طالما افتقده، حيث أصبح بإمكانه أن يصل إلى أي أحد يريده حتى رأس الهرم عرفات، إلا أنه كان يريد أن يصل إلى ما هو أبعد من ذلك، أي الشعب الفلسطيني، من أجل أن يستفز الواقع وهو في منفاه خارج المكان.

إلا أن الأحداث التالية، خصوصًا اتفاقية أوسلو، دفعت إدوارد سعيد إلى الاستقالة من المجلس الوطني الفلسطيني، ولكنه احتفظ لنفسه بصورة المقارع الفكري العنيد لكافة أشكال الفكر الإقصائي.

 وبالتالي فإن فلسطين تحتل حيزًا كبيرًا من  أعمال سعيد. ففي عام 1979، نشر كتابه  "قضية فلسطين"، الذي لعب دورًا رئيسيًا في زيادة الوعي العام بالقضية الفلسطينية. يقترح  هذا الكتاب تحليلًا للمجتمع منذ نهاية القرن التاسع عشر، عندما طغت الأيديولوجية الاستعمارية على المجتمع الفلسطيني واكتسبت الحركة الصهيونية زخمًا. ثم يصف الموقف الفلسطيني في أعقاب هزيمة عام 1967، ثم يناقش في الجزء الأخير اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة بين إسرائيل ومصر في عام 1978. يشكل هذا الكتاب جزءًا من استمرارية الاستشراق، في تركيز الانتقاد على النظرة الغربية تجاه دول الشرق الأوسط.

وفي عام 1995 جمع سعيد مجموعة من المقالات القصيرة ونشرها تحت عنوان "سياسة نزع الملكية: الكفاح من أجل تقرير المصير الفلسطيني" والتي تستكشف فلسطين ونضال الفلسطينيين من عام 1968 إلى عام 1994.

اقرأ/ي أيضًا: إدوارد سعيد والموقف من الماركسية

في أعماله اللاحقة بقي سؤال المثقف ودوره والثقافة وموضوعاتها السؤال المحوري. فنشر إدوارد سعيد الثقافة والإمبريالية عام 1993، حيث يعود إلى النص الأدبي والرواية لتعريفها كنتيجة "للتفاعل الإبداعي" بين المؤلف وقصته وحساسيته؛ هنا تطورت أطروحته في الاستشراق. حيث يقترح في هذا الكتاب تحليلًا معقدًا للوظيفة الفكرية في ميزان القوى المستقر بين الشرق والغرب، كما أنه يكشف العوامل القامعة للثورة، بتركيزه على مفاهيم المنفى والحدود، سواء الثقافية أو السياسية.

إن كل دارس في حقل ما بعد الاستعمار يبقى مدينًا لصاحب "الثقافة والإمبريالية" و"الاستشراق"

يلاحظ إيف كلافارون أن إدوارد سعيد في النهاية "ليس فلسطينيًا في نيويورك فحسب، بل هو الفلسطيني الذي يركز على جميع الهجمات والتهديدات، بما في ذلك رابطة الدفاع اليهودية الأمريكية بأبعادها النازية في عام 1985"، ورغم اتهامه بأنه خصم للغرب في كثير من الأحيان، كان إدوارد سعيد مثقفًا ينتمي إلى العالمين العربي والغربي.

في عام 1994، قال في معرض حديثه عن كتاب الاستشراق  بأنه يريد من قرائه استخدام كتابه "لإنتاج دراسات جديدة من شأنها أن تضيء بسخاء وفائدة التجربة التاريخية للعرب وغيرهم"، وبالتالي فقد قدم فلسفة في الكشف و البحث التي أراد أن تكون أكثر تمردًا ونشاطًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بين إدوارد سعيد والمسيري.. تأملات في فقد الحرية

الاستشراق المعكوس