24-مارس-2017

غرافيتي لـ سارتر في باريس

باريس، أعوام قليلة قبل الحرب الثانية، شوارع بسيطة، بعضها قذر، وبعضُها مُريحٌ جدًا للنظر، شقق بسيطة، وبعضها قذرٌ أيضًا، وبارات ومقاهٍ، حفلات، حياة بطيئة لزجة تعبرُ بحيواتٍ، من شكلٍ إلى آخر، من سنّ الشَباب، إلى سنّ الرُشد، كأنّ باريس نفسها، تعبرُ معهُم، من سنّ شبابها ومراهقتها، إلى سنّ الرُشدْ، سنّ الحرب، والكهُولة.

تفشّت فينا النزعة الوجودية، منذ أن أصبحت أسئلة الحياة الكُبرى، هي أسئلة الحياة اليوميّة

فيلسوف، طالبْ، امرأة حامل تجلسُ فوق سريها بكلّ شحمها ودهونِ جسدها، رقيقة كالفراشة ولكنّها ثقيلة كالحياة نفسها، وطالبة جامعيّة، امتحان سيقرر مستقبلًا بأكمله، وشقيق يُضاجع راقصة، هُو يبحثُ عن الخلاصِ منها، وهي تبحثُ عن الخلاصِ فيه بسنيِّ عُمرها التي زادَت عن سنّ البلوغ والرّشد، ورجل مثليّ، مُصابٌ بقلقِ جنسيّ، وقلقٍ وجوديّ: هل أنا حقًا أنا؟ وشيوعيّ يَحشُدُ من حولهِ – سيُصبحُ زعيمًا فيما بعد – شبابًا من أجل الحرب "ليس السؤال إن كان هناك حربٌ أم لا، بل السؤال متى وكيف؟"، ورَجُلٌ برجوازيّ عاديّ، عقد زواجًا جيِّدًا مع البرجوازيّة بعد سنيّ التمرُّد عليها، وامرأةٌ "تفوحُ منها رائحة الامتلاك".

اقرأ/ي أيضًا: الوجودية وتنظيم دولة الإسلام (1- 3)

هذي وُجوهُ شخصيّات الرّواية، ولطالَما تخيَّلتهُم، المرأة الحاملُ بجسدها الثَّقيلُ مُلقاةً على سريرها، يقفُ بجانبها وفوقَ رأسها تقريبًا الفيلسوفُ مفكِّرًا كَيف سيتخلَّصُ من الطفل كي يُحافظ على حريّته، والرَّجلُ المثلي ينظرُ نحوهُما وهو يجلسُ على طرف السّرير المقابل: يخبِّئ أربعة آلاف فرنكٍ في جيب معطفه ويتساءلُ عن معنى هذا كلّه، وإذا لَم يكن عليهِ الانسحاب قبل الوقوف في "فخّ" الزواج من امرأةٍ وطفل – سيجلسُ هو وهي فيما بعد على مقعدٍ يبحثون عن الحَليبِ للحفاظ على صحّة المرأة، والشَّقيقُ والرّاقصة يجلسان على الأرضِ أمام السّرير تفرك هي شعر صدره بيديها، وهُو يدخّن وقد فطسَ وجهه من اللامبالاة واحترقت مشاعرهُ كلّها ورغبته بأيّ شيء، والطّالبة تجلسُ إلى طاولةٍ بجانب السّرير، أمامها فنجان قهوة وسكّين وتسألُ نفسها سؤال كامو: أأقتلُ نفسي، أم أشربُ القهوة؟ والشُّيوعيُّ يتطلّع نحوَ صُورة ماكس فيبر معلّقة على الجدار ويسأل نفسهُ والصُّورة معًا: ما المعنى؟ أما الزّوجُ والمرأةُ التي تفوحُ منها رائحة الامتلاك، يُضاجعانِ بعضهُما بهدوء الخبيران، وببلادةِ الأزواج، على الأرضِ، بعيدًا قليلًا إلى اليَمين، عن الشُّيوعيّ وعدوّه اللدود. غرفة معتمة، تفوح منها رائحة الرّطوبة والسّجائر، شمعدانان على الطّاولة، وآخرٌ على رفٍّ فوق السّرير. ويشعرُ الجَميعُ، بالبلاهة.

"في ذلك اليوم، في تلك الساعة، إنّما بدأ كلّ شيء. وآنذاك سأنجح – في الماضي، وليس في غير الماضي – أن أقبل نفسي"، كانت هذه آخرُ كلمات روكنتان، في "الغثيان"، عندما أحسَّ أنّه استطاع أخيرًا أن يجد صيغةً ما مقبولةً، لأن "يكون"، كما يُريد، ولأنْ يَقبل نفسهُ. منذُ نطقَ بهذه الكلمات، هُو، أو سارتر، الذي استغرقتهُ كتابةُ الغثيانِ وإعادة كتابتها مرارًا أكثر من أربعةِ أعوام، ما زالت شخصيّاتهُ تبحثُ عن صيغةٍ للوجود ومن ثمّ عن صيغة للقبولْ. ومنذُ "تلك السّاعة"، ومن قَبلها بعدّة أعوام، صارت هذه الصّيغة للوجود والقبول، هي "الذّهبُ الأسود"، لهذا العصرْ. أي منذُ تفشّت فِينا النّزعة الوجوديّة، ومنذُ أن أصبحت أسئلة الحياة الكُبرى، هي أسئلة الحياة اليوميّة، تماثل فظيع، من سُؤالٍ يُطرَحُ في قصرٍ من البلّور الفلسفيّ، إلى السؤال ذاته وهو يُطرحُ في مقهى شعبيّ قذر، أو في شقّةٍ، في سريرٍ، لشابّان لم يتجاوزا بعدُ سنّ المراهقة. 

كأنَّنا نسينا "الفطرة السّليمة"، التي لطالما حدّثونا عنها وبدأنا نتوارثُ "فطرة المعرفة"

كأنَّنا نسينا "الفطرة السّليمة"، التي لطالما حدّثونا عنها، وبدأنا نتوارثُ "فطرة المعرفة"، كأنّ آدم وحوّاء، لتوّهما قد أكَلا من شجرةِ المعرفة، وها هُما يبحثانِ الآنَ عن المعنى، والله – يهوه، يتجوّل في العالم، منذُ قتله نيتشه وأودَعهُ مصحّة نفسيّة في سويسيرا بدلاً منهُ وأورثه سريره، لا يجدُ لهُ مكاناً واسعاً وهادئاً ومطمئناً فيه يبني هيكلهُ ويجلسُ مُرتاحاً ليزوره كاهنٌ في كلّ عامٍ لساعةٍ واحدة، دون أن يسأله: إذن، قل لي، كيف ومتى ولماذا خلقت هذا البشريّ، ولماذا علّمته الأسماء كلّها، ولِماذا تركته يأكلُ من شجرة المعرفة؟

اقرأ/ي أيضًا: الحياة العاطفية للفلاسفة

ها هي هذه الأسطورة القَديمة تُنسى، وها هي الأسئلة والهُمومُ الكبرى تصيرُ إلى أسئلة يوميّة وهمومٍ يوميّة. "ماذا فعلتُ بحريّتي؟"، يسألُ الشّاعر، ويُقاتلُ ماتيو الفيلسوف طوال الرّواية ضدّ الطَبيعة – الطفلُ المحتمل الولادة، من أجل حريّته، ويتساءلُ الرّجل المثليّ عن معنى كلّ شيء في ظلّ سكره الدّائم وحظّه الدائم في القمار، والطّالبة الجامعيّة فقط لا تريدُ العودة إلى الرّيف – الجحيم، بل تريد أن تبقى في أحياء باريس، حتّى القذرة منها، كي تُحافظ على حريّتها أيضاً، والطّالب يُلاحقُ الفيلسوف ويرى فيه مرآتهُ والبرجوازيُّ يُوبّخ الفيلسوف: لقد وصلتَ سنّ الرشد يا عزيزي ماتيو، وأنت تحاول أن تقنع نفسك بالعكس.

مرايا. الرّواية تعجُّ بالمرايا. تبدأ المرأةُ من نظر "دانيال" إلى نفسه بالمرآة، هُناك يلاحظُ جرحًا بسيطًا في ذقنه، ويلاحظُ امرأةً في سريره ويقولُ لنفسه: ولكنّي أحبُّ الرجال أكثر. حياةٌ عاديّة، لكنّها تُخفي تحتها الكثير ممّا يُناقضها. 
تنتقلُ المرآة، من مرآة الأنا إلى الآخر، حيثُ يبدأ شُخوصُ الرّواية بالتساؤل دومًا عن الآخرين، عن الآخرين أنفسهم حقًّا، وعن أنفسهم في عقول الآخرين. المرآةُ تصبحُ مرآتين، شخصٌ يحبُّ كَونهُ سارقٌ، ويتباهى بالسّرقة، وآخر يحثُّ متسوّلاًا على أن يكون عطشانَ كي يبادله الحديث، لأنّه لو كان جائعًا وأعطاه مالًا إذًا لانقطع الحديثُ بينهما. والرّاقصة تَموتُ، لكنّها تبعثُ إلى الحياةِ مرّةً أخرى: لقد سرَقني ذلك الوغدُ تقول، عن الشّقيق، إلّا أنّ الفيلسوفُ قد أوصلَ المال إلى المراةِ، ولم تقتنع الرّاقصة: أتقنعُني أنّك سارقٌ؟ أقسمُ لكِ، كلّا.. دانيال، تعالَ سلّمهُ المال وروحك معًا. 

يجلسانِ، في غرفةٍ صغيرة، غرفةُ الفيلسوف. مساءٌ، وعتمةٌ وزجاجة "روم" سيّئة المذاق. وقتٌ مناسبٌ للاعتراف، ومزاجٌ متعب، ووقتٌ للإستسلام أيضاً، للهرب، للإمتثال لسنّ الرشد. يجلسان معاً، صديقان وعدوّان. إذن تتزوّج؟ أجل، وأنتَ مثليّ؟ ربّما، ما الفرق؟ لقد اعتدتُ أن أكون مستقيمًا ومثليًّا معًا. 

"الغثيان" رواية تعج بالمرايا. تنتقلُ المرآة من الأنا إلى الآخر

جلسةُ الاعتراف هذه، هزيمة لكلاهما، في وجهِ هموم الحياة البسيطة. فيلسوفٌ يبرّئُ نفسه، ورجلٌ عاديٌ يحتضنُ عبئَ الفيلسوفْ. وحدهُ الشُّيوعيُّ ظلَّ مُحافظًا على صرامته طوال الرّواية، كأنّه خلق "شيوعيًا صارمًا"، شيوعيًا حتّى نقيّ عظامه، هل أفسدتنا البرجوازيّة إذًا؟

اقرأ/ي أيضًا: هايدغر في الفكر العربي

جلسة الاعتراف مرّة أخرى. هذا المشهدُ الذي لن يُفارقني أبدًا، مشهدُ اعترافاتنا اليوميّة لأنفسنا، للآخرين، الذين نصلُ معهم إلى مرحلةٍ نكادُ فيها لا نستطيعُ متابعة العيش إذا لم نعترف. ووقتٌ نأخذُ أعباءَ الآخرين، لأنّها ليست أعباءً بالنّسبة لنا، بل هي حريّتنا التي تُشكّل قيودًا للآخرين. دانيال، يأخذ عبء ماتيو، وماتيو يودّع دانيال. 

وحيدًا إذًا، ينظرُ إلى نفسه ويقول. "وحيدًا، ولكن ليس أكثرَ حرّية من السابق". فالوحدة لا تزيد أو تنقص من الحريّة. بل الحياةُ، كما يقولُ ماتيو، هي التي "تشربُ حريّتنا"، وتستنزفُها طوال الوقت. لقد حاولَ الحبّ طوال الحياة، حبٌ ممنوع، أو مستحيل، أو غير ممكنٍ وحسب. "إيفيش"، التي كانَ يُحاولُ أن يبقيها بجانبه طوال الوقت: ستنجحين في الامتحان، لا بدّ أن تفعلي. ولكن، من أجل ماذا؟ هو نفسه لا يعرف، فما أن حاول الاقتراب منها حتّى أحسّ بالخجل والنّدم والاشمئزاز من نفسه. لقد عاشَ حياة كاملة يشمئزُّ من نفسه. عندما يحبّ، عندما يكره، عندما يطلبُ المعونة من الآخرين، عندما يدّعي أنّه حر وهو ليس كذلك، أو عندما يعرفُ حدود حريّته. 

إذًا يصلُ، كما أصلُ، إلى سنّ الرّشد. في يومٍ ما، في غرفةٍ ما، يقولُ، أقولُ، لنفسه، لنفسي: "لقد أنهى يومهُ، وقد انتهى من شبابه. وكان ثمّة أخلاقيّات، ثمّة معاناة تعرض عليه خدماتها عرضًا خفيًّا: الأبيقوريّة المتبصّرة، والرحمة الباسمة، والاستسلام، وروح الرّصانة، والعزيمة الرينونيّة، وكلّ ما كان يتيح للمرء أن يتذوّق تذوّق العارف، دقيقة فدقيقة، حياة خائبة.."، وحينها يقول: "هذا صحيح، هذا صحيح بالرّغم من كلّ شيء: إنّني في سنّ الرشد". 

سنُّ يُمارسُ الجنس فيها من أجل قتل الوقت، ويحصلُ على وظيفةٍ عاديّة، كي يكسب مالًا عاديًّا ومنتظمًا. ليس شيوعيًا وليس برجوازيًا. لا يعرفُ عن باريس سوى أنّها مدينة. ولا يعرفُ عن بيته سوى أنّه مكانٌ للنوم والاستلقاء معًا. لا هموم كبيرة، لا هموم صغيرة. حريّة مكتسبة بجدارة البلادة والرُّوتين واللامبالاة. عيشٌ بسيط. فلسفة من أجل المحاضرات اليوميّة وبعض النقاشات الجانبيّة. هزيمة أمام الحياة الخائبة. وتكسيرٌ للمرايا، فقد "عرف نفسه"، وليس في حاجة بعد، لمرايا الآخرين، فقد وصلَ إلى سنّ الرشد، إلى سنٍّ يكون فيها: رجلٌ تفوحُ منهُ رائحةُ الغثيان الدّائم. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها

فايزة غين.. استنطاق الضواح