16-مارس-2017

تقرير المجلس الأعلى للتعليم في المغرب عن الثانوي يثير ردود فعل متواصلة (فاضل سنا/أ.ف.ب)

عندما أعلنت رئيسة اللجنة الوطنية للتقييم رحمة بورقية النتائج الكارثية لتقييم التعليم عند المغاربة، حَزن الكثير من الحاضرين وفرِحتُ أنا لأن التقييم هَمَّ فقط السنة الأولى ثانوي (الجذع المشترك). الأمر الذي جمع مجلس التعليم الصحفيين من أجل إخبارهم به، هو أن مستوى تعليم التلاميذ المغاربة جد ضعيف ولا يكاد يقترب من المعدل، خاصة في اللغة العربية والفرنسية والرياضيات، 9% من التلاميذ العلميين و4% من الأدبيين فقط متمكنون من التعبير الكتابي في اللغة العربية!، رددت السوسيولوجية رحمة بورقية تلك اللازمة التي طالما سمعناها منذ عقود أن التعليم عندنا في خطر، ثم انصرف كل منا إلى أشغاله الأهم.

كان يمكن للمجلس الأعلى للتعليم أن يُعفي نفسه من تقييم مكتسبات التلاميذ، لأنه ببساطة لا أحد مهتم بتطوير مكتسباته المعرفية

لكني فرحت وقد تساءلت وأنا أتابع تلك النتائج: "ماذا -لا قدر الله- لو فكرتْ اللجنة في تقييم حصيلة الطلبة في الجامعات المغربية؟". النتيجة ستكون سيئة للغاية ولا يمكن لمن حضر تقديم نتائجها أن يشفى من الصدمة خلال أسابيع قليلة.

اقرأ/ي أيضًا: "الدارجة" المغربية بديلًا للعربية في المغرب؟

كان يمكن للمجلس الأعلى للتعليم أن يُعفي نفسه من تقييم مكتسبات التلاميذ، لأنه ببساطة، وبسبب المناخ السائد في المدرسة العمومية، لا أحد من التلاميذ (وربما حتى من الآباء) يقول إنه يضع نصب عينيه تطوير مكتسباته المعرفية وتعلماته.

ما يشغل جُل المتعلمين منذ مرحلة الثانوية هو الحصول على نقاط عالية، تُمكن من ولوج مدرسة عليا مرموقة، ومن خلالها الاهتمام فقط بالحصول على شهادة عالية تسمح بالحصول على وظيفة مضمونة، و"اللي بغا العلم يمشي للقرويين" كما يقول المثل الفاسي القديم.

أعرف أستاذة في مدينة أطلسية صغيرة، عند بداية الموسم الدراسي الجديد تبدأ جارتها العجوز البعيدة في زيارتها مُحمَّلة بالهدايا، ويضع كهربائي الحي خدمته رهن إشارتها في أي وقت، ويتطوع البقال لحمل قنينة الغاز على كتفه إلى بيتها. لا تفهم الأستاذة شيئًا من تلك التصرفات حتى تدخل القسم المدرسي فتجد أمامها حفيدة جارتها العجوز وابن كهربائي الحي، وأحدًا من أسرة البقال. والمطلوب منها طبعًا حتى ترد الجميل بأحسن منه، ليس أن تعطي لأبنائهم دروسًا جيدة، وإنما أن تعطيهم نقاطًا جيدة، وإلا فلن ينفعها عذر بعد ذلك.

أن تحصل على نقاط عالية وبأي طريقة، هو ما يشغل غالبية تلاميذ اليوم (والكثير من الآباء يدعمونهم في ذلك للأسف)، أما مسألة المكتسبات والمعارف والتحصيل الدراسي، في قسم يضم أربعين تلميذًا في أحسن الأحوال، فلا يشغل إلا السيدة رحمة بورقية، التي كلّفها المجلس الأعلى للتعليم بإعداد دراسة لتقييم مكتسبات تعليمية لا يهتم بها أحد.

ولأن الكوارث لا تأتي من فراغ، فإن تفكير التلاميذ بهذه الطريقة، ليس إلا نتيجة منطقية للسياسات المتّبعة في المدرسة والترقية والتشغيل، في هذا البلد العجيب الذي من كثرة ما يخصص وقته للتفكير في إصلاح التعليم وإنشاء المجالس العليا لذلك، لا يتبقى له بالفعل أي وقت لإصلاح التعليم.

الشعار الذي يشتغل به المسؤولون عن التعليم في العقود الأخيرة هو شعار "دعه ينجح دعه يمر"

الشعار الذي يشتغل به المسؤولون عن التعليم في العقود الأخيرة هو شعار "دعه ينجح دعه يمر". وحتى لو كان التلميذ لا يعرف كتابة اسمه بأية لغة، فإن عليه أن ينجح لأنه لا يمكن أن يموت بين أيدينا، تقول الوزارة. على الأقل ليمت بعيدًا في مكان آخر، مع المعطلين أمام البرلمان، أو من الغبن و"الفقْصة" حين يجد نفسه بشهادات لا تصلح لشيء، المهم أن لا يكون الفشل في دائرتنا وإنما في دائرته هو. وهكذا تحولت المستويات الدراسية عندنا إلى قنوات لعمليات تهريب جماهيرية لأبناء الشعب نحو المجهول، أو بالأصح نحو شهادات دون مضمون، وكفاءات بلا كفاءة.

مرة أخبرني صديق يشتغل أستاذًا أنه تفاجأ بأن له في مستوى الثالثة إعدادي تلميذ لا يعرف القراءة والكتابة. في البداية ظَن أن التلميذ خجول جدًا، إذ كان يتعثر كلما طلب منه الأستاذ قراءة نص من النصوص. لكنه اكتشف أن المسكين لا يرى في الكلمات والجمل أمامه إلا ألغازًا مستحيلة، كما يفعل أحدنا مع الكتابة الهيروغليفية.

اقرأ/ي أيضًا: المغرب.. نحو إلغاء مجانية التعليم العمومي!

تَيقظتْ غيرة الأستاذ الذي كان جديدًا على مهنة التدريس، وظن أن الأمور لا يمكن أن تسير بهذه الطريقة. عَرَض المشكلة على مدير المؤسسة مخبرًا إياه أن هناك تلميذًا في مستوى الثالثة إعدادي (أي أنه مشرف على سنوات البكالوريا) لا يعرف القراءة ناهيك عن الكتابة. لا يعرف حتى تهجي الحروف يا سيدي المدير!

انتظرَ صاحبنا أن يبدو على المدير أي علامات للدهشة أو التعجب كأنْ يتساءل على الأقل: "وكيف وصل طوال هذه السنوات إلى التاسعة إعدادي؟"، لكن ردّ السيد المدير كان باردًا كحكم قضائي معروف مسبقًا: "هناك حل واحد يا أستاذ، دَعْه ينجح للمستوى المقبل!".

ولذلك فجامعاتنا ووحدات الدراسات العليا التي باتت تشجع التهافت على النقاط وتقصي أصحاب التعلمات الحقيقية ممن لم يساعدهم الحظ وحسن التملق والتزلف من أن يحصلوا على أرقام خيالية، هي اليوم تزدهر بالكثيرين من أصحاب النقاط الممتلئة، والرؤوس الفارغة لدرجة أن الأستاذ الجامعي عندما يسأل طالبًا عن معلومة فإن السؤال يهوي في قاع رأسه الفارغ سبعين خريفًا قبل أن يجيب بأنه لا يعرف.

وليس السبب شيئًا آخر سوى أنهم مروا عبر ممر التهريب الرسمي الكبير، وخطة "دعه ينجح دعه يمر". ورحمة الله على زمن كان ينجح تلميذ واحد أو اثنان في قسم بكامله ويتم الإعلان عن أسماء الناجحين في الجريدة، وعندما يمر في الشارع تلميذ ناجح في البكالوريا فإن موكبَه مثل الناجي الوحيد من حرب مُدَمّرة.

طبعًا هناك نماذج مشرّفة في المدرسة العمومية، استطاعت رغم كل الظروف السيئة أن تنجو بجلدها وبعقلها من بين زحام الفصول الدراسية، وأن تخرج بنقاط عالية عن جدارة واستحقاق أو بقاعدة معرفية وافية مع شح في النقاط، وتلك الفئة هي التي أنقذت التقرير الأخير من أن يخرج خاوي الوفاض من أي نسبة مئوية.

يومًا عن يوم ستتحول المدرسة إلى حصص ليلية نهائيًا، وستعاني مدارسنا النهارية الإهمال لأن آخر ما تفكر فيه هو دعم مكتسبات التلميذ. وأخشى أن أستيقظ يومًا فلا أجد المدرسة في مكانها، لأن الكثيرين يتهافتون اليوم على شيء واحد هو الساعات الإضافية. هذه هي الخلاصة الجديرة بالانتباه ضمن تقرير تقييم التعلمات المُقدّم. فحسب التقرير فإن 90% من التلاميذ المغاربة يرغبون في الاستفادة من الساعات الإضافية.

خبر مفرح حقًا.. ليس لأصحاب الغيرة على التعليم طبعًا، وإنما لخريجي الجامعات من المعطلين. إنها فرصة مناسبة لكراء محلات و"كراجات" في أسفل عمارة بأبخس الأثمان وفتح مدارس ليلية لتدريس أبناء المغاربة.

اقرأ/ي أيضًا:

الجامعات المغربية.. فجوة بين التعليم وسوق العمل

التعليم المغربي..أرقام صادمة رغم خطط الإصلاح