17-مارس-2017

البعض منا يهرب من الواقع إلى الكتابة طنًا أن بإمكان ما يكتبه المساهمة ولو بجزء بسيطًا في تغيير المستحيل (Getty)

يعتبر الاستشهاد بقصة "سيزيف" عندما حكمت الآلهة الإغريقية عليه أن يحمل صخرة، ويصعد بها لقمة الجبل، وقبل أن يصل تسقط الصخرة من يديه، وتدحرج إلى الأسفل ليعيد العملية مرًة ثانية إلى ما لا نهاية، بعد أن قام بخيانتها حسب ما تروي الأساطير، من أكثر الأمثلة المتداولة عند الحديث عن اللاجدوى في النقاشات الأدبية.

علينا أن نعترف نحن أبناء هذا الجيل أننا نعيش فصلًا جديدًا من فصول اللاجدوى في المعنى الـ"سيزيفي" للمصطلح ضمن مسرى يومياتنا الطبيعي

اليوم علينا أن نعترف نحن أبناء هذا الجيل أننا نعيش فصلًا جديدًا من فصول اللاجدوى في المعنى الـ"سيزيفي" للمصطلح ضمن مسرى يومياتنا الطبيعي. من بين أكثر الأشياء التي أحرص على عدم فعلها ألا أخطط للمستقبل. أحاول العيش دائمًا يومًا بيوم، وهذا الشيء الوحيد الذي أظن أنه علينا إتقانه في بلاد الشتات، لأننا حتى في هذه المنافي الاضطرارية غير مستقرين على كافة الأصعدة، لا أحد يعرف ما القرار القادم الذي قد يطرأ على استقرارنا الضبابي.

اقرأ/ي أيضًا: عزاء لفرويد

البعض منا يهرب من الواقع إلى الكتابة، طنًا أن بإمكان ما يكتبه المساهمة ولو بجزء بسيطًا في تغيير المستحيل، لكن في الحقيقة حتى ما يكتب لا يؤثر على المجتمع. لم أسمع أن لوحة استطاعت أن تؤثر في الرأي العام في منطقتنا العربية، أو حتى كتابًا نال انتشارًا بين القراء، باستثناء العناوين التجارية، أو أصحاب الأسماء الكبيرة، أما الأبحاث الفلسفية والسياسية والفكرية، فأنها لم تستطع أن تظهر مدى فعاليتها ضمن المجتمع.

بحكم عملي سابقًا في النشر الورقي، لم أسمع أن عملًا أدبيًا طبع أكثر من ألف نسخة، والأكثر شيوعًا كان الـ500 نسخة، وهذه الأخيرة تبقى أحيانًا حتى الـ5 أو الـ6 سنوات دون أن تنفذ الطبعة الواحدة، وكان أكثر من يقوم بشرائها إما أصدقاء الكاتب أو أحد الطلاب المطالبين بتقديم دراسة عن كتاب معين، وهناك عدد محدود من القراء. في المقابل كان للأسماء البراقة رصيد بين القراء مثل، باولو كويلو، عندما انتشر في العالم العربي، روايته "إحدى عشرة دقيقة" لها ما يقارب 5 ترجمات عربية، في سوريا وحدها نحو 3 ترجمات، رغم أن الكاتب خص ناشرًا محددًا لطباعة أعماله باللغة العربية.

وبالتأكيد هذا العدد من النسخ المطبوعة لا ينطبق أيضًا على روايات "جائزة البوكر"، لأن هذه الأعمال، وما يرافقها من صخب إعلامي يساعدها على الانتشار في مختلف الدول العربية. إلا أن الجائزة أصبحت منحازًة في مضمونها لأعمال معينة، عندما خصصت حصصًا لدور النشر حسب وصول أعمالها المرشحة للقوائم الطويلة والقصيرة، حتى لا تتعب اللجنة نفسها في قراءة جميع الأعمال. ربما هذا دليل على عدم تفكير الجيل الجديد من الكتاب بالترشح للجوائز لأن لها متاهات أشبه بغرفة مليئة بالمرايا.. والتفكير أكثر باعتبار الكتابة نصرًا للاجدوى.. أو من أجل العيش.

وأظن أن أقرب مثال عن اللاجدوى ما حصل قبل أيام مع محلل شبكة BBC، روبرت كيلي، الخبير في شؤون الكوريتين، أثناء حديثه على الهواء مباشرة من داخل مكتبه في منزله حول عزل رئيسة كوريا الجنوبية، عندما اقتحم طفلاه المكتب، ودخلت زوجته صاحبة الملامح الأسيوية لإخراجهما، وظنها الجميع أنها مربية الأطفال، ووفق ما نقلته الصحافة العالمية فأن المعلقين وجهوا النقد لكيلي.

اقرأ/ي أيضًا: تداع حر في عالم يتهاوى

الشبكة عادة واستضافة كيلي مع زوجته، وحين سألها المقدم عن شعورها بالتعليقات التي رافقت انتشار الفيديو، أجابت: "كنت أتمنى أن يستمتع الناس بالحوار بدل الجدل حول هذا الأمر"، والأستاذ الجامعي عبر عن استيائه الشديد لأن المتابعين ظنوا مباشرًة أنها مربية الأطفال بدلًا من أنها زوجته، ليس هناك أكثر من هذه اللاجدوى، عندما تظن أن المتابعين يستمعون إليك، لكنك تكتشف فيما بعد أنهم منشغلون بأفكار لم تكن تتوقعها.

لم أسمع أن لوحة استطاعت أن تؤثر في الرأي العام بعالمنا العربي، أو حتى كتابًا نال انتشارًا بين القراء باستثناء العناوين التجارية

إذن، في العودة لأصل الحديث، علينا الاعتراف أننا ندور ضمن حلقة ضيقة، كتابات الآخرين تؤثر فينا لكنها لن تؤثر في المجتمع، تبهرنا أعمال كثيرة، لكن الآخرين يرونها تجديفًا وهرطقة، وإذا ما تعرض أحدهم للنقد فإنها تأتي من باب النقاشات الفكرية، إلا أنه في المقابل عليه أن يتحمل موجات الشتائم التي تطاله على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن فكرة لم تعجب القارئ، أو أنه قدم وصفًا لا يليق بالمجتمع قراءته، يشعر الآخر بأنه يتوجب عليه توجيه الكاتب اتجاه الطريق الصحيح بشتيمة رخيصة.

غالبيتنا لا يحب الاعتراف بأن ما يكتب في عالمنا العربي لم/ ولن يغير في مجتمعاتنا، اليوم بعد 6 أعوام على ما يجري في سوريا، لم يعد بإمكاننا الحديث عن جدوى التقارير التي تدين الأطراف المتقاتلة في سوريا بانتهاكات حقوق الإنسان، أو التسريبات التي تتحدث عن أنواع التعذيب في أقبية النظام السوري، أو حتى الأبحاث التي تحذر من تصاعد الحركات الإسلامية المتشددة، لأن جميع ما كتب لن يقدم طوق نجاة، كل يوم يحصل شيء جديد يجعل من اللاجدوى تمشي إلى جانبنا بدون تعب.

هكذا أشعر باللاجدوى في قمتها العالية منتظرًا أن يحدثني أحدهم عن سيزيف في الجحيم.

اقرأ/ي أيضًا:
لماذا نكتب؟
رسائلي إلى الوعي والحرب والذاكرة