05-مارس-2017

صندوق صور قديمة (Getty)

ثمّة ما لم نعد نفكّر به أصلًا. طوعًا أو كرهًا. أشياء صغيرة كنا ونحن أصغر، أقلّ قلقًا وأقرب للأرض، نمنحها قيمة ونعرف ملمسها ورائحتها وتفاصيلها الدقيقة؛ أشياء لها صور وحضور، تنتقل معنا أينما ذهبنا، بعضها لنا نحن، نحفظها في صندوق صغير أو حقيبةٍ مهملة.

الساعة الأولى التي ارتديتها، دفتر مذكرات مزين، بعض الصور، بعض أدوات الحياكة للجدّة التي كنت تحبّها، ربّما إن كنت محظوظًا قصاصة ورق من فتاة الحيّ الصغيرة التي كنت تحبها أو شيئًا عزيزًا منها، شريط أغان مجمّعة، أو بطاقة أو غير ذلك. وبعضها للعائلة جميعا، تحتفظ بها الأخت الكبرى أو الأخ الأكبر في بيته.

أذكر كذلك كيف كان لدى الناس اهتمام ببعض ما ينتقل بينهم من جيل لجيل: ما تبقى من طقم صحون قديم (للجدّة غالبًا)، أو بعض الأكواب الجميلة التي لا يشرب منها أحد، ولكن توضع في خزانة خاصة بعيدة عن أيدي الأطفال في غرفة الضيوف، يتوارثها الأبناء أو البنات غالبًا بالأحرى، أو آلة خياطة "سنغر" قديمة تحمل رائحة الجدّة وبركتها.

في البلاد العربية التي تختنق فيها الحريّة سياسيًا تارة، واجتماعيًّا تارة أخرى، صار الكثيرون يفكرون بلا انقطاع بالرحيل والهجرة

أمّا اليوم، فحين أذكر تلكم الأشياء والعادات أشعر كأني كنت في عصر بعيدٍ جدًّا. أندم كثيرًا لأني لم أحافظ على كثيرٍ من الأمور التي كانت في العائلة، ليست لديّ في أسرتي هذه الثقافة على أيّة حال، ولكن كنت أتمنّى لو أنّي فعلت.

كلّ ما تركته جدّتي لأمّي لي كانت قصاصات من ورق كتبت عليها اسمي مع بعض الأدعية وضعتها في الكتب التي كنت أرسلها إليها. أخذت جدّتي عادة القراءة هذه في وقت متأخر من حياتها، عليها الرحمة والنور. أحتفظ بقصاصاتها في مكان ما في بيتي، وهي أعزّ ما لديّ.

اقرأ/ي أيضًا: الموت يعمر الأرض

حاولت أن أقدّر هذا الأمر أكثر من حولي وألاحظ إن كانت له ثمّة بقيّة، بين أفراد العائلة والأصدقاء، فوجدت، بلا جهد كبير، أنّ معظم الأشياء لدينا تتهالك بسرعة. عمر الأشياء محدود، بضعة أشهر على الأكثر، ويبدو أنّ عددًا متناقصًا من الناس يحرص على الاحتفاظ بتلك الأمور الصغيرة شبه المقدّسة في بيوتنا.

ومع التهالك السريع، والمقصود طبعًا، للمنتجات التي نتعامل معها اليوم، صار الهوس الحاضر هو التفكير بالمنتج أو الجيل الجديد من منتج ما، دون أن تكون لدينا فرصة للتفكير بما يمكن أن نحفظه من أشياء لها القدرة على شغل حيّز من ذاكرتنا ووجداننا. حالة الشراء والاستهلاك السائدة الآن صارت هي في ذاتها المناسَبة، وانتظار مناسبة الشراء هذه، بغيةَ الشراء وحسب، قد نزع منها أي قيمة تستطيع الذاكرة فهمها ومعالجتها.

في البلاد التي ترزح تحت الحرب والنزاعات بات اللجوء والنزوح خيارين لا ثالث لهما سوى الأمرّ منهما

من ناحية أخرى، صار أمر الحفاظ على "موروثات" العائلة المادية التي تنتقل من جيل لآخر، أو تلك التي نحلم نحن في نقلها إلى من يأتون خلفنا، مختلفًا اليوم في العالم العربي لأسباب إضافية عدا عن الاستهلاك وحمّى الشراء. ثمّة شعور كاسح بالرغبة في الانتقال والتحرّك.

في البلاد العربية التي تختنق بها الحريّة سياسيًّا تارّة، واجتماعيًّا تارة أخرى، صار الكثيرون يفكّرون بلا انقطاع بالرحيل والهجرة. أمّا في البلاد التي ترزح تحت الحرب والنزاعات بات اللجوء والنزوح خيارين لا ثالث لهما سوى الأمرّ منهما. وفي كلتا الحالتين، لا مكان للكثير من الأشياء، مهما عزّت قيمتها، وصار التخفّف منها علامة على الاستعداد للرحيل القسريّ أو المأمول.

إنّه عيش بالحدّ الأدنى من الذكريات، ليس ثمة مساحة لخيبات أمل جديدة وفقدٍ مضاعف.

اقرأ/ي أيضًا:
إيموجي المشاعر الميتة
أطول رحلة في التاريخ