10-يوليو-2020

عمل لـ هما دلوراي/ إيران

في النقد الجديد تناول النقاد صورة المثقف في الرواية العربية، وفي الرواية العراقية تحديدًا، وضمنًا جاء التناول لصورة الشاعر، مثالًا رواية غائب طعمة فرمان "خمسة أصوات"، التي تضمنت شخصية الشاعر المتمرد، وكذا تناول النقد الثقافيّ صورة الشاعر، قديمًا وحديثًا، بشيء من الإيجاز كما حدث في كتابات عالم الاجتماع علي الوردي، وثمة تناول أقترب من صورة الشاعر في الشعر الحديث، هكذا تبدو محاولة كتاب "الصائح المحكي" لخالد الكركي، وهو يرصد تجليات المتنبي عند البارودي وشوقي والجواهري وآخرين، وكذا محاولات الشاعر الراحل فوزي كريم، غير أن دراسة تستوعب صورة الشاعر بشكل مفصل بين القديم والجديد في الثقافة العربية هذا ما لم أعثر عليه، هذه الصورة التي تتسم بحمولات شتى، وتحولات مختلفة، وتناقض رهيب.

اتسمت صورة الشاعر في الثقافة العربية بتعالٍ كبيرٍ، وكان للشاعر ثقة في النفوس، بوصفه حارس اللغة، وسور فصاحتها العالي، ومدون التاريخ

وعلى الرغم من وجود هكذا محاولات تبقى صورة الشاعر في الثقافة العربية ذات أهمية بالغة، إن درست في ضوء نقد ثقافي رصين خالٍ من موجهات مسبقة، وانحياز شخصي تفرضه العلاقات، يكشف اللثام عنها، ويحرّرها من أسر المعطيات الجاهزة، ولهذا كان الموضوع يحفز على التفكير ويثير الأسئلة، ويحرض على المتابعة، وكان من العزم أن يُكتب عنه بعد الاحاطة بأطرافه المتشعبة، لكن الوقت مازال بعيداً، ما جعلني أغتنم الفرصة هذه، لأتناول تمثلًا سريعًا لصورة الشاعر.

ما هي مهمة الشاعر؟

اتسمت صورة الشاعر في الثقافة العربية بتعالٍ كبيرٍ، وكان للشاعر ثقة في النفوس، بوصفه حارس اللغة، وسور فصاحتها العالي، ومدون التاريخ، وصانع مباهجه ومنغصاته، وهكذا كان العرب يحتفون بولادة شاعر أبلغ احتفاء، ومضت هذه الصورة النمطية، حتى كاد الشاعر أن يكون نبيًا بلا معجزة. وأسهمت السلطة بشكلٍ وآخر في تلميع هذه الصورة، وقربت الشعراء من القصر، هذا ما يقوله التاريخ، ويؤكده الشعر نفسه، وتجلى هذا فيما بعد مع المتنبي وعصره، مالئ الدنيا وشاغل الناس كما يراه ابن رشيق، ومداح الحمدانيين بنظر بلاشير.

اقرأ/ي أيضًا: من ديوان العراق

وكان للشاعر موقف منحاز في كلّ ما يحدث، فهذه مهمة حددت له، حتى قيل الشعر رسالة، وما من موقف يصدر إلا وهو مشوب بشوائب الذات المتضخمة، الذات الشعريّة الصلدة، المتشبعة ببداوة اللغة وحماسة البطولة. حتى إذا جاء عصر جديد طرحت أسئلة أخرى مع فرويد، ونقاد سيكولوجية الأدب، تبحث في ما وراء عبقرية الشاعر، بعد أن كان العرب يوعزون العبقرية إلى الإلهام، وينسبونها بنوع من الخرافة إلى وادٍ غير ذي شعر. كلّ هذا أسهم في الوصول إلى الزوايا الخفية لصورة الشاعر.

ومع العصر الحديث، قالوا إن الشعر يصدر عن ذات جريحة، مكسورة، والشعر ابن الخسارات القاسية، والشاعر به حاجة إلى موهبة شفيفة وتجربة وسيعة، تدعمان الخيال الخلّاق، وتثريان اللغة، والشاعر ابن واقعه، غير أنه ليس عرابًا ولا حكواتيًا، هو "الملاك الشرس" الذي يقف خارج السرب بجرأة وبسالة، غير متكئ على عصا الإمبراطور، صانع الأسئلة الصعبة، أسئلة المصائر التي تليق بالشعراء الخلّاقين، أو كما يقول المسرحي الفرنسي جان أنوي في أنتغون: "إننا من أولئك الذين يطرحون الأسئلة حتى النهاية"، وصانع الرؤيا المشاكسة المختلفة، وهكذا تكسرت صورة الشاعر القديمة، كما تكسرت مرايا نرسيس في سؤال أوسكار وايلد: "هل كان نرسيس جميلاً؟".

لكن نماذج من الشعر الحديث لم تلتزم بهذا التنظير، فوقع كثير منها في فخاخ الصورة الأولى، ولم يصدقوا الشعراء أن الإمبراطور عارٍ، فراحوا يبحثون عن عشبة المجد في صحارى الأيديولوجية، متقمصين تلك الذات المتعالية بكلّ ادعاءاتها.

ما نفع القصيدة؟

الشاعر حين يصطاد القصيدة يشعر بالزهو، ويعبر عنه بمبالغة صوتها الفخر، وهذا الزهو الشعري رافق الشعراء العرب، ودفع بهم للمباراة، وتشكّلت أسواق شعرية، تحتفي بما ينجزون، وصُنعت القصص بسرد مشوق، وحبك مثيرة، وأذاعها الرواة، ومضت الحياة ومعها الزهو خطوة بخطوة، وزاد الزهو بَلّةً نقاد الموازنات والوساطة والطبقات، فراحوا يصنفون الشعراء، ليفصلوا الشعر عن أنساقه المجاورة، فقالوا هذا حكيمٌ، وهذا شاعرٌ، وهذا صوت المدينة، وذاك أنين القرى، وهذا التزم بعمود الشعر، وذاك خرج عنه، وتفاقمت عدوى المنافسة، فراح شاعر يهجو الآخر، ووراء كلّ هذا يقف الزهو منتشيًا والنقد يسهر جراه ويختصم، وذات الشاعر ترقد في أعالي المخيلة من دون أن تتسأل ما نفع القصيدة؟

الشاعر حين يصطاد القصيدة يشعر بالزهو، ويعبر عنه بمبالغة صوتها الفخر، وهذا الزهو الشعري رافق الشعراء العرب، ودفع بهم للمباراة

وقيل لكلّ عصر ظروفه، فذاك عصر نأى، وحلّ عصر جديد، نزل فيه الشاعر عن زهوه، ليقترب من فائدة الشعر على تعبير إليوت، وهذا ما لم يحدث كاملًا، فجاء الشعراء المحدثون بنبرة الهجاء ذاتها، واتسع مرثون المنافسة، أيهم أسبق في التقاط الشكل الجديد؟ وأيهم أولى بالخروج عن حصار التقليد الشعري؟ وأيهم أقوى في مواجهة الاتّباع؟

اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم.. لعبة أرشفة الخوف

ونرى النقّاد، نزلةً أخرى، يقولون: الحداثة بنت المدينة، والشعر الحديث منحصر بها، أي الشاعر، ابن القرية، فقد تجافى عن الحداثة، فضلًا عن وعيها، وهكذا أبُعد السياب عن ريادته مثلًا، ثم دخلوا الشعر الوسيع من باب الالتزام الضيق، وأناطوا بالقصيدة أن تكون شعارًا أيديولوجيًا، وتعبيرًا عن قضايا المجتمع فقط، وهم في هذا كلّه لم يتساءلوا ما نفع القصيدة؟

انشغل شعراء القصيدة العربية ونقادها بما هو خارج عنها، غرورًا وصخبًا وتنظيرًا، تلك التي فتحت، قديمًا، باب التأويل النحوي الفائض عن نفع القصيدة، كالفرزدق يبدو بصورة الشاعر الملهم، حين أجاب عبد الله بن أبي اسحاق عن سؤاله: "علامَ رفعت مجلّف".. فأجاب: على ما يسوؤك وينوؤك! علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا"، أو مع المتنبي "أنام ملء جفوني عن شواردها"، وهو يتعالى بنرجسيته المعهودة "أنا الصائح المحكي والآخر الصدى" على مناوشات الخصوم، ولا سيما الصاحب بن عباد مؤلف الكشف عن المساوئ، والكاره العتيد للمتنبي.

ولم يغادر الشعراء المحدثون هذه النبرة، على الرغم من صراخ التحديث العالي، فهذا البياتي يهجو الشعراء، وما قاله في السياب مثالًا واضحًا، وجاء أدونيس ليقول: "أنا نرجسي هذا الزمان"، وهو يقول في قصيدة:

"بعضهم يهجو مالارميه،

بعضهم يحلم برامبو

وبعضهم يقرأ المركيز دوساد

كانت حبال صوتية تدندن بما يشبه

النذير رامبو،

كيفَ أعبر هذا العالم الأبيض

أنا الذي جسده النبوة وبيته الصحراء

سأبتكر علم أخلاق خاص بي

سأجعل من قوتي قصيدة أفتتح بها حياتي".

مرورًا بمحمود درويش في قصيدته "إلى ناقد" مثالًا:

"لا تفسر كلامي

بملعقة الشاي أو بفخاخ الطيور!

يحاصرني في المنام كلامي،

كلامي الذي لم أقلهُ،

ويكتبني ثم يتركني باحثًا

عن بقايا منامي".

وهي مهداة إلى صديقه الناقد الفلسطيني الدكتور عادل الأسطة دون أن يذكر اسمه، بعد ما كتب عن شعره دراسة في ضوء من المنهج الاجتماعي الماركسي ولم تنل رضاه، وبعدها صالحه بقصيدة "اغتيال"، وليس انتهاء عند شعراء العراق وهجائهم المرّ، ولا سيما بعض الشعراء الستينين، ولو أحصيت هذه القصائد لتكوّنت أنطولوجيا الهجاء العراقي الحديث!

لا إكراه في الشعر!

لم يكن الهجاء نبرة الشعر القديم والحديث حسب، وإنما المدح كان نبرة أقوى، وشكل صورة الشاعر أيضًا، ولأن الهجاء والمدح قديمًا وحديثًا، وأعني بالمدح مدائح القبيلة والسلطة، تناولته الكتابات بفائض تفصيل، سأنأى عن تمثلاته، مكتفيًا بموضوعة تتصل بمحرضات الشعر الجديد، وبوعيه، وهي تتصل بصورة الشاعر اتصالًا وثيقًا.

سيقال الشاعر ابن واقعه! نعم، والفلاح ابن واقعه! وكلّ البشر أبناء الواقع بلا شعر، وربما هؤلاء أكثر بلاغة في تعبير الواقع!

لم يسرف الشعر العربي بكلّ تاريخه كما أسرف الشعر العراقي الجديد بالركض وراء المناسبات، وإذا كان الشاعر العربي، قديمًا، معنيًا بتفاصيل اجتماعية وسياسية جوهرية، فالشاعر الجديد عني بتفاصيل هامشية تعبوية، وإذا كان الشعر قيمة نخبوية عند الشاعر القديم، فما عاد سوى هامش رخيص عند الشاعر الجديد!!

اقرأ/ي أيضًا: عمر الجفّال.. حياة مريضة

وهنا سأتحدث عن الشاعر العراقي تحديدًا، والعناية بالشاعر العراقيّ دون غيره سببها جغرافيّ، فهذا ما أطالعه وأشاهده في الأقل، فهل من المعقول كلّ كتّاب قصائد المدح كانوا مجبرين؟ وعلامَ الجبر؟ فما قيمة الشعر كلّه مع رخص المدائح!! أما كان بإمكانهم عدم كتابة الشعر أصلًا! وهل من المعقول أن شعراء العراق الجدد، ولا سيما كتّاب الشطرين لم تفتهم مناسبة بلا كتابةٍ عنها؟! ما فرق الشاعر عن الحكواتي إذًا؟! خذوا، في الأقل، من 2003 وإلى اليوم، هل فرغ فم شاعر مناسباتي من المناسبات: الحشد الشعبي؟ سبايكر؟ داعش؟ التفجيرات؟ عيد المعلم؟ عيد العمال؟ عيد الجيش؟ تاسيس نادي الزوراء؟ فوز نادي الشرطة؟ وإلخ...

سيقال الشاعر ابن واقعه! نعم، والفلاح ابن واقعه! وكلّ البشر أبناء الواقع بلا شعر، وربما هؤلاء أكثر بلاغة في تعبير الواقع! لكن الشعر ليس "تصفيط" قافية ومداراة وزن، وفلتات مجاز، الشعر إن لم تكن محرضات كتابته حقيقية، نابعة من دوافع خالصة لوجه الشعر، وبوعي بالغ، وبحساسية جديدة، وبرؤيا مختلفة، وموقف واضح، ما عاد شعرًا، هو اجترار ونظم وصانعه أقرب إلى كل شيء وأبعد ما يكون عن الشعر، متى كان الشعر يكتب في كلّ شيء لأجل كلّ شيء!

هل من المعقول هؤلاء إذا انفردت بهم بزاويةٍ، وقلت لأحدهم تحدث بلغة واضحة خارج الشعر لربع ساعة، تلعثم مثل طفل! هل من المعقول إن ادرت حوارًا معه لا يعرف غير "الكامل والرمل" في الحياة الثقافية، هل من المعقول لم يقرأ كتابًا لسنة كاملة، هل من المعقول هكذا نموذج لم يعرف عن تاريخ الشعر سوى ما يقرأ في الفيسبوك؟ هل من المعقول شاعر ابن اللغة لا يجيد، كتابةً، مقالًا أدبيًا في الأقل، لا يستطيع جمع فكرتين سويةً! هل هؤلاء شعراء صنّاع أدب وكتابة وثقافة وواقع جديد ووعي مختلف!

لا إكراه في الشعر، ولا مزية لشاعر يتعكز على منصةٍ كما يتعكز رادود على منبرٍ. وقد جمعتني شخصيًا لقاءات بهكذا نماذج، وحوارات، لم أعثر على ما يرمم صورة الشاعر، صورة المثقف، القارئ في الأقل، لا يجيدون شيئًا سوى النظم الشعري، والركض وراء المناسبات، والتدافع على المنصات، وملاحقة الجوائز، والكسب الحلال بتجارة الشعر، فضلًا عن خلو ما يكتبون من وعي وثقافة ورؤيا ومعالجة، فهي قصائد عارية، عارية من أي موقف، قصائد حسب الطلب المناسباتي، وبلغة لا تبتكر، في الأقل، أسلوبًا ومعجمًا خاصين، ولا أريد أن أمثل، وعندي ما يكفي من تمثلات، كي لا أدخل في سجالات غير متكافئة، ربما بعد ما تغادر هذه النماذج محرضات المناسبة، وصراخها التعبوي، والتضامن القبلي المؤسساتي، ونرجسيتها الهشة، ويعود كتّابها لرشد القراءة والوعي، سأفتح سجالاً بالتمثلات، وإلا كيف أساجلُ شاعرًا لا يفرق بين التناص والسرقة، هذا مثال!

وأخيرًا، لا إكراه في الشعر، ولا مزية لشاعر لم يحترم الشعر ولا يعي مهامه وما يليق به!

 

اقرأ/ي أيضًا:

سنان أنطون في قصائد "كما في السماء".. صورة عراق يتلاشى

مكتبة صفاء سالم إسكندر