25-أغسطس-2017

الشاعر ناجي رحيم

بدءًا من العنوان "سجائر لا يعرفها العزيز بودلير" (دار مخطوطات، هولندا عام 2015) يفتتح العراقي ناجي رحيم المشهد الشعريّ الخاصّ به بخفّة ساحر، اللغةُ مطواعة ومروَّضة. عندئذ لا ضير في ألا يقرأه أحد! الكتابةُ فعل مجاور للعيش بكلّ بساطة، مجابهة الأسى بالسجائر. أن يكون العنوان محيلًا إلى السجائر أمرٌ فيه ما فيه من دلالات.

تبدو نثريَّة الشاعر العراقي ناجي رحيم طازجة ومُحيلة للدوام إلى الخراب الرّاهن

في مشهدٍ بصري متخيّل، يبدو ناجي، الشاعر الذي نجا بأُعجوبةٍ من خبث الأقدار، من خلال الرثائيَّة الموجودة ضمن نصوصه/معظم النصوص: "في قلبِ المدينة وحدي تماماً، وأقوامٌ تتنازعُ على ميراثٍ في قلبي".

اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم.. الشاعر، السبّاب، الحسّاس

في الديوان، تبدو نثريَّة ناجي طازجة ومُحيلة للدوام إلى الخراب الرّاهن، من خلال اللغة التي يكتب بها، النّفَس الطويل كأداءٍ مسرحي، ومن ثمّ الانتقاليَّة المفاجئة نحو ما هو يوميّ، مغيَّب أغلب الأحيان، أي الانتقال من الهامشي إلى القمّة ومن ثمّ الانحدار المفاجئ ورواية ما أبصرَ الشاعر أثناء تهاويه من علوّ المعنى كسيرةٍ ذاتيَّة موجّزة مختلفة عن السائد، كما أنّ الخسارات لا تكفّ عن التلويح بأياديها المتعدّدة مستخدمةً الكلمات كوسيلةٍ لإيصال التلميحاتِ معنىً.

عدم التيقّن من المقدرة على فعل أي شيء مهما كان صغيرًا، يؤكّد، لا بل يُثبت هشاشة الشاعر، المقولة البدهيَّة التي لا يمكن الاختلاف عليها أو النقاش فيها، يتبدّى ذلك من خلال اللغة التي يمكن أن نوصفها بـ"السريعة"، كما أنّ السلاسة اللغوية المتعمّدة ضمن القصائد تَشي ببساطة الروح التي تكتب، وعنفوان الجملة التي لا تُخيب القارئ دائمًا ما تُحيل الأخير إلى الجري وراء المعنى بشيء من الحذر مخافةَ الخذلان، خذلان الكلمات والمعاني على اختلافِ تفاسيرها وتلوِّنها الدائم.

اللامبالاة في العيش، سرّ البقاء حيًّا، معادلةٌ مستحيلة التفسير، ولكنّها ضمن نصوص ناجي تنجح في توضيح المعنى وتبسيطه: "في عطلة نهاية الأسبوع أُفكِّرُ بمشاريعَ تؤجَّل سريعًا إلى نهاية أسبوع".

البناء النثريّ، الذي يُشعر القارئ بانسياب الكلمات انسيابًا لا شعوريًّا تتأتى من البساطة في التدوين، تلك البساطة التي يمكن أن نُطلِق عليها أيضاً العمق الثريّ للنصّ.

السعي الحثيث لدى الشاعر لتوظيف أجواء الخارج ترضيةً لما يعتوره داخليًّا، أمر باتَ من مسلّمات ومميزات نصوص رحيم. "أن تعجن الضوء وترى أصوات العالم،/ تشربها،/ الجار الذي تقوده كلبته يرتطمُ بشجرة ميّتة/ يصرخ، يهتف لي وهو يسأل عن الضوء، يمدّ روحه".

ديوان "سجائر لا يعرفها العزيز بودلير" يرينا شاعرًا عراقيًا يتابع أخبار الحرب ويعضّ على جرحه

في نصّه الأخير داخل الكتاب: "دع سجائرك ترويك" بالإضافة إلى النصّ ما قبل الأخير "سردٌ لا يمشي"، تتكشّف أدوات الشاعر السرديَّة فيهما وتتجلَّى، الأدوات التي لا يمكن أن يكون لها شبيه بين تجربةٍ وأُخرى، ثمّة سردٌ داخلَ سرد، هكذا –كطفلٍ يلهو- يتنقّل الشاعر داخل النصّ الواحد نحو تآويل متعدّدة، السردُ مختَزَلاً وآخذاً منحى الإيجاز دونَ أن يكون هناك أيّ تكلّف: "انبش أضلاع الأرض، الآن، انبشها، إدمِ إبط الوقت، علّه يسمع تكّات الساعة في رأسك".

اقرأ/ي أيضًا: أطفال الأنابيب.. شعراء الأنابيب

في وصفٍ تخييلي، يمكن القول إن ثمّة "كائنات" تضجّ في رأس الشاعر مسبّبةً الهذيان والهذر! وهذا ما تتفوّه به النصوص صراحةً في أكثر من موضعٍ داخل الكتاب، ما يجعل السرد ممتلكًا لخطوطٍ متباعدة، متقاربة، ومتأرجحة ما بين الدنوّ والبُعد معاً من ناحية الدلالة والمعنى، كما أنّ جملة واحدة تُظهِرُ حجم الألم الذي يبطِّن السرد: "لا أحد هنا".

العالم السرديّ لأجواء نصوص ناجي مليئة بالحروب ومشاهد الدمار والموت، مفردات العصر الذي نعيشه بامتياز ومنذ سنواتٍ طالَت: "كلّ يوم كان يموت، لم يلتفت أحد،/ غابَ ليحضُرَ كلّ يوم، في المراثي تتلاطم يعيشونَ إذا ماتوا". أو: "الموتُ القريب، الموتُ القريب غيرُ ذلك الذي يسبحُ في مدائن الانفجارات، حيثُ المزاجُ المفتوح يعجُّ بأصناف اللذائذِ، والقبلِ المتوارية خلفَ الأنيابِ المصقولةِ جيداً".

القاموس اللغوي الذي يمتلكه ناجي يجعل من نحته في اللغةِ عملًا متعبًا ومرهقًا ومؤرِقًا قياسًا إلى هشاشة الشاعر داخليًّا، شيء ما يشابه الإحساس بالبرد الكامن وراء النافذة في ليلةٍ مثلجة، مشهدٌ ممتع وقاسٍ في الآن ذاته.

لا شكّ وأنّ القصيدة، أي قصيدة، هي بمثابة تأريخ لألم الشاعر، لكن ناجي في معظم نصوصه يحاول أن يؤرشف الجراح والألم، لكلِ جرحٍ قصيدة، أو ربمّا كلُّ قصيدةٍ جرحْ، الخوفُ من كلّ شيء يتحوّل إلى نصّ، والشغف بأي شيء يتحوّل كذلك إلى نصّ: "قريبًا من تاريخي أهبطُ، في ذاكرتي بستانٌ من خوف".

مع الخوف يغدو الزمنُ بدقائقه مضاعفًا ورتيبًا، التخيّلاتُ تبرزُ إلى الوجود، الشاعر يجهدُ في التقاطِ لحظة الضجر القاتلة ليؤرشفها وفقًا لمزاجه اللحظيّ، ثمّة كائنات للوقت تحيط بالشاعر آنَ التدوين لتغدو القصيدةُ ألمًا مستحيلَ الحذف أو النسيان.

"سجائر لا يعرفها العزيز بودلير" محاولة نثريَّة لشاعر عراقي يتابع أخبار الحرب وهو يعضّ على جرحه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رضا العبيدي.. اقتناص المشاعر المجرّدة

جولان حاجي: لنقْتل فكرة الغراب