25-مايو-2020

سنان أنطون ومجموعته الشعرية (ألترا صوت)

بإضافته مجموعة شعرية جديدة إلى رصيده الأدبيّ، يُتيح لنا الكاتب والشّاعر العراقيّ سنان أنطون أن نشكّل من أعماله الموزّعة بين الشِّعر والرواية ألبومًا حيًّا للعراق، قوامهُ مجموعة قليلة من الصّور التي جاءت بانورامية مُلتقطة بعدسة واسعة بحيث لا يفوتها من المشهد شيئًا.

في كلّ عمل من أعمال سنان أنطون هناك صورة مختلفة للعراق بصفته كائنًا حيًّا له رغباته ومشاعره وحضوره

ليس بالضرورة أن يكون هذا هدف أنطون أو غايته من الكتابة، ولكنّها طبيعة أعماله التي تشكّلت بفعل تراكمها، ففي كلّ عمل له هناك صورة مختلفة للعراق بصفته، غالبًا، كائنًا حيًّا له رغباته ومشاعره وحضوره، الأمر الذي يجعل من هذه الصورة، أو من العراق نفسه، المسؤول الأوّل عن تشكيل الأحداث والأفعال داخل النص، شعرًا وسردًا، بالإضافة إلى تحديده لمسارات انطلاق وافتراق شخصياته، أي أنّ هذه الصورة، وإن جاءت على الهامش، إلّا أنّها قابلة دائمًا لأن تحلّ مكان المتن والحكاية الرئيسية.

اقرأ/ي أيضًا: حين قاربت روايات سنان أنطون العراق بوصفه منفى

تناولت أعمال الكاتب العراقيّ التحوّلات الاجتماعية في العراق باعتبارها طرفًا من جُملة أطرافٍ مسؤولة عن صياغة وتشكيل الشخصية العراقية الجديدة، وكونها جزءًا من تداعيات انهيار السلطة عقب الاحتلال الأمريكيّ الذي جاء بسلطة بديلة فاقمت المأساة القائمة بفتحها الباب على مصراعيه لحقبة الاقتتالات الطائفية العنيفة. كما أخذت على عاتقها فعل أشياء أخرى منها بناء صورة العراق كمحاولة لتأريخها بتنقّلاتها وتحوّلاتها المستمرّة.

اللّافت في أعمال سنان أنطون ليس كيفية التقاطه للصورة، وإنّما طريقة معالجتها، لا سيما أنّها ليست صورة للعراق باعتباره مكانًا للعيش، أو مساحة جغرافية وحسب، وإنّما بصفته مرآةً يستدلّ عبرها العراقيون إلى وجودٍ بات يتضاءل بفعل انعكاسات ما حلّ ويحلّ بالعراق الذي جاءت صورته، داخل مُنجزات أنطون، سجنًا كبيرًا ومُحصّنًا بصور القائد وخطاباته وتماثيله ومقولاته. بينما جاءت في مرحلة لاحقة كمنفىً ينطوي على مجموعة منافٍ صغيرة، ومكانًا لا يُشبه العراقيين ولا يبدو مألوفًا إلّا إذا استُعيد باستعادة ماضيه القريب.

في مجموعته الشِّعرية "كما في السماء" (منشورات الجمل، 2018) يُمكن لنا أن نُعاين وبنظرة خاطفة ما آلت إليه أحوال الصور السابقة للعراق الذي لا يأتي في هذه المجموعة سجنًا ولا منفىً، وإنّما ولشدّة اغترابه عن أهله واغتراب أهله عنه، بات غائبًا أو مُغيّبًا، يُذكر ولا يُلمس، ويغرق في الهباءات بحسب وصف سنان أنطون الذي كتب قصائد بمثابة زادٍ لرحلة البحث عن الوطن المفقود والمُغيّب، يروي فيها وعبرها تاريخًا موجزًا يُفسّر هذا الاختفاء لبلدٍ يُخاطبه أنطون بصلاةٍ سريعة يقول فيها: "عراقنا الذي في الهباءات/ ليتقدّس اسمك/ ليأتِ جحيمك/ لتكن مشيئتك/ كما في السماء/ كذلك على الأرض (...) ولا تدخلنا في التجربة/ فقد تعبنا" (ص 5).

تبدأ رحلة البحث بمناجاةٍ أقرّ فيها صاحب "موشور مبلل بالحروب" بأنّ لا جَلد للعراقيين لاختبار تجارب جديدة. وببدايتها، نلمسُ سيلًا خفيفًا من مفردات الترحال والتيه والسفر التي يُمكن للقارئ التعامل معها كيفما يشاء، على أن يبقى أساسها أو جوهر وجودها كامنًا في قدرتها على التأسيس المُستمر والمُتجدِّد لفكرة غياب العراق ورحلة البحث عنه بما هي رحلة للبحث عن الذات التي تستدلُّ حتمًا إلى وجودها بوجوده، بغض النظر عن اختلاف التسميات والسياقات. "ثمّ هاجر بعيدًا/ لم يترك عنوانًا/ ولم يبعث أنبياء" (ص11).

بهذا الشكل، تكون قصيدة سنان أنطون متحرّكة تبعًا لحركة من يرويها، حيث تنحاز عن مسارها كلّما بدا الانحياز مُمكنًا، وتعود إليه من جديد كلّما بدت العودة فعلًا ضروريًا لا بدّ منه. المفارقة هنا أنّ المسار نفسه لا يبدو صحيحًا أو دقيقًا، بقدر ما يبدو مسارًا افتراضيًا تشكّل في ذهن من يروي القصيدة كتأكيد منه على فكرة غياب الوجهة مُقابل وجود الهدف. وبغياب الوجهة، يتكشّف غياب أشياء أخرى بدت، شأنها شأن العراق، غير ملموسة أو محسوسة. "نظرنا إلى الخارطة، كلّ هذه الأنهار عبرناها، بحثًا عن الإله الجديد/ قال الكهنة/ إنّه ولد من أجلنا، وحين اهتدينا إلى موطنه/ أبصرنا بشرًا، مثلنا، يشيعونه/ في مواكب مهيبة" (ص9).

غاية سنان أنطون من ربط غياب العراق بغياب أشياء أخرى عديدة هو بناء الصورة الجديدة لهذا البلد

الغاية من عملية ربط غياب العراق بغياب أشياء أخرى عديدة هي بناء جوهر الصورة الجديدة التي سعت مجموعة أنطون هذه إلى بلورتها وتقديمها، حيث يظهرُ العراق فيها، عدا عن كونه مكانًا مفقودًا بسبب غربته عن أهله وغربة أهله عنه، شرطًا أساسيًا لليقين الذي لن يكتمل عند أبنائه دونه. هكذا، يكون غياب العراق، وإن كان غيابًا مجازيًا، فاتحةً لحياة لا يقين فيها: "في حياتي القادمة/ لن أكون أنا/ (...)/ في حياتي القادمة/ لن أكون" (ص21). في قصيدة أخرى: "هل رأيتموها؟/ تلك النغمة الشاردة؟/ لم أرها قط/ لكنّي أسمعها الآن/ بوضوح" (ص 68).

اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني

بتقديمه هذه الصورة الجديدة المُستخلصة حتمًا من صورٍ سابقة قدّمتها بقيّة أعماله، وبجعله شرطًا لليقين، يكون فقد العراق هائلًا لا يعوّض. والفقد هنا يحضرُ بمعنى العجز عن الاستدلال إليه. هكذا، تكون عملية البحث عنه أمرًا ضروريًا لا من أجل الوصول إلى اليقين فقط، وإنّما لوقف نزيف الحضور الفردي وكذا الجماعي وتضائلهما معًا في ظلّ تراجع الهوية العراقية لصالح هويّات أخرى ما دون اجتماعية مهمّتها المُساهمة في توسيع دائرة الشّعور بالاغتراب عند الفرد العراقي بحيث يكون غير مألوف في بيئة ليست مألوفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النقد محروم من الوعي النقدي

فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها