26-يناير-2020

ينفتح الملف الليبي على تعقيدات دولية جديدة بعد مؤتمر برلين (أ.ب)

في محاولة منها للتوصل إلى حلٍّ دائم للأزمة الليبية، دعت ألمانيا إلى مؤتمر دوليّ استضافته عاصمتها برلين برعاية الأمم المتّحدة لجمع طرفَي الصراع الليبيّ، حكومة الوفاق الوطنية وقوات اللواء المتقاعد خلفية حفتر، بالإضافة إلى الدول الداعمة لهما. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أعلنت نهاية المؤتمر الذي انطلقت أعماله الأحد الفائت، 19 كانون الثاني/ يناير، أنّ طرفَي النزاع والداعمين لهما اتّفقوا على ضرورة حظر السلاح والعمل على تعزيزه كخطوة أولى من خطوات العمل على تثبيت وقفٍ دائم لإطلاق النار على الأرض.

رغم وضوح مخرجات "مؤتمر برلين" والحديث عن اتّفاق المشاركين فيه على وضع حلول فعّالة للصراع الليبيّ، تظلّ الثغرات القادرة على نسف الاتّفاقات قائمة

سبق انعقاد المؤتمر نشر عددٍ من الصحف العالمية والعربية مسودّة اتّفاق بشأن الأزمة الليبية، ضمّت 6 بنود تشترط إصلاحات في مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن، وتؤكّد على ضرورة وقف إطلاق النار وتطبيق حظر توريد السلاح إلى الأطراف المتصارعة، وتشكيل لجنة عسكرية من طرفَي النزاع للإشراف على تطبيق وقف القتال، والبدء بمشاورات محلّية برعاية أممية لتوحيد المؤسّسة العسكرية وتفكيك المجموعات المسلّحة ودمجها ضمن مؤسّسات عسكرية رسمية.

اقرأ/ي أيضًا: بعد التدخل التركي والعودة الجزائرية.. إعادة خلط للأوراق في ليبيا؟

ودعت مسودّة الاتّفاق إلى تشكيل لجنة مؤلّفة من أربعين عضوًا، 14 لكلّ من مجلس الدولة والنوّاب والبقية تُوزّع على قوى وأطياف سياسية أخرى فاعلة في المشهد الليبيّ، على أن تجتمع هذه اللجنة قبل نهاية كانون الثاني/يناير الجاري في جنيف لبدء حوارٍ سياسيّ من أجل تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية.

وعلى هامش المؤتمر الذي أقرّ المشاركون فيه، تقريبًا، أغلب البنود المذكورة، كان رئيس حكومة الوفاق الوطنية المعترف بها دوليًا فايز السرّاج، واللواء المتقاعد خليفة حفتر، قد عبّرا عن استيائهما من إبعادهما عن المشاركة في أعمال المؤتمّر بشكلٍ مباشر، ووضعهما في غرف جانبية بدلًا من التواجد ضمن القاعة الرئيسية، بالإضافة إلى عدم استشارتهما في أغلب البنود التي اتُّفق عليها.

عزّزت الأنباء القادمة من معسكَرَي السرّاج وحفتر حول "مؤتمر برلين" فرضيات ألّا يكون المؤتمر مختلفًا عمّا سبقه، لا سيما وأنّ بعض الفاعلين في المشهد الليبيّ ذهب نحو اعتباره مساحةً لبحث مصالح الدول الداخلة على خطّ النزاع في ليبيا، وليس لبحث مصالح الليبيين. بالإضافة إلى القول بأنّ تواجد السرّاج وحفتر في العاصمة الألمانية إنمّا كان لتلقّي الأوامر فقط، لا سيما بما يتعلّق بمشكلة الموانئ النفطية.

بهذا المعنى، كان "مؤتمر برلين" حلًّا خارجيًا للأزمة الليبية، وليس حلًّا لأزمة الليبيين. فالمؤتمر وفقًا لمخرجاته انتزع أوامر الحرب من كلا الطرفين، وجمّد المسار السياسيّ أيضًا من خلال حصره بين الأطراف الليبية، ممّا يعني المراوحة في المكان ذاته، وعدم الوصول إلى تفاهمات بشأن تشكيل حكومة جديدة، الأمر الذي يعزّز من فرضية فشل المؤتمر في إنهاء النزاع الليبيّ، والاكتفاء بتجميد المواجهات العسكرية حاليًا.

فالمسودة التي اتُّفق على غالبية بنودها، أغفلت عددًا من التفاصيل والمسائل التي من شأنها أن تُعيد الوضع إلى ما كان عليه، وتفعيل الصراع من جديد، منها مطالب حكومة الوفاق انسحاب ميليشيات خليفة حفتر من المناطق التي سيطرت عليها مؤخّرًا في محيط العاصمة طرابلس، لا سيما مدينة سرت (450 كلم شرق العاصمة)، وعدم التطرّق إلى مسألة وجود آلاف المرتزقة المسلّحين الذين يقاتلون ضمن صفوف ميليشيات حفتر، وكذا مصير الاتّفاق التركيّ – الليبيّ الذي رسم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسّط بين الدولتين.

الأزمة الليبية في ميدان معركة غاز شرق المتوسّط

رغم وضوح مخرجات "مؤتمر برلين" والحديث عن اتّفاق المشاركين فيه على وضع حلول فعّالة للصراع الليبيّ، تظلّ الثغرات القادرة على نسف الاتّفاقات قائمة، لا سيما وأنّ الأزمة الليبية دخلت مؤخّرًا صلب النزاع المستعر حول الثروات الطبيعية شرق المتوسّط، باعتبار أنّ بعض الدول الداعمة لأطراف الصراع متنازعة أساسًا فيما بينها على حدود مناطقها البحرية، ومنها مصر واليونان وتركيا وإيطاليا.

تتمسّك تركيا بالاتّفاق الذي وقّعته مع حكومة الوفاق الوطنية في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 المنقضية، والذي ينصّ على تقاسم السيادة البحرية المشتركة بين البلدين، ويُمكّن الأتراك من مساومة خصومها شرق المتوسّط لاحقًا، ذلك أنّ الاتّفاق الذي نصّ على تعاون أمني بين أنقرة وحكومة السرّاج تمكّن من كسر الشريط الذي رسمته اليونان وقبرص وإسرائيل في البحر المتوسّط لمواجهة الأتراك وحصر نفوذهم البحريّ في منطقة لا تتجاوز 41 ألف كلم مربّع.

تعتبر أنقرة أنّ نشاط الأطراف الثلاثة بالإضافة إلى مصر تهديد لأمنها القوميّ، وذلك قبل أن تقلب الطاولة على دول ما يُعرف بـ "منتدى غاز شرق المتوسّط" من خلال الاتفاقية الموقّعة مع حكومة الوفاق الوطنية، لتؤسّس بذلك ووفقًا لصحيفة "يني شفق" التركية، للعبة جديدة في شرق المتوسّط، تقطع الطريق على أي محاولات لخنق تركيا وحرمانها من حقّها في ثروات النفط والغاز.

تمنع الاتفاقية التركية الليبية قانونيًا اليونان من توقيع اتّفاقيات حدود بحرية خالصة مع كلّ من إسرائيل وقبرص اليونانية ومصر، باعتبار أنّ المنطقة البحرية الجديدة التي رسمتها التفاهمات بين رجب طيب أردوغان وفايز السرّاج، قطعت البحر المتوسّط من الشمال للجنوب، وشكّلت أرضية قانونية لصراعها مع دول الحوض التي عبّرت عن رفضها للاتّفاقية واعتبارها برفقة الإمارات والسعودية باطلة.

صحيح أنّ الاتفاقية تُلحق الضرر بكلٍّ من مصر وفرنسا وإسرائيل وقبرص اليونانية، إلّا أنّ اليونان بدت المتضرّر الأكبر، كونها وضعت حواجز أمنية واقتصادية وبحرية تعيق قدرتها على التحرّك خارج حدودها البحرية، لا سيما بالقرب من الجزء اليونانيّ من قبرص. ناهيك عن امتلاك تركيا أوراق ضغط جديدة تمنحها قدرة مضاعفة على التفاوض بشأن أزمة قبرص وثرواتها، وتجعل من اليونان خاضعةً رسميًا لعدوّها التاريخيّ، تركيا.

وسعيًا منها لتدارك الأمور، طردت اليونان السفير الليبيّ لديها، ومالت إلى معسكر حفتر، ما اتضح على لسان رئيس حكومتها كيرياكوس ميتسوتاكيس الذي أكّد في دافوس أنّ الاتّحاد الأوروبيّ لن يوافق على حلّ سياسيّ للصراع الدائر في ليبيا ما لم تتخلّ أنقرة وطرابلس عن الاتّفاق البحريّ الذي وقّع منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الفائت.

تركيا.. الطريق نحو المتوسّط

تخدم الاتّفاقية التي أبرمتها تركيا مع ليبيا مساعي تركيا في التحوّل إلى قوّة إقليمية في المنطقة كونها ستوفّر لها ما تحتاجه من إمدادات الطاقة التي تفتقر إليها، إذ تستورد 80% من احتياجاتها من الطاقة من روسيا (60%)، وإيران (20%). والبقاء تحت رحمة هذا الثنائي فيما يتعلّق بإمدادات الطاقة يعيق مساعيها في الوصول إلى ما تصبو إليه.

ولكن، باكتشاف ثروات مياه شرق المتوسّط، باتت تركيا قادرة مستقبليًا على تغيير المعادلة، لاسيما وأنّ الاتفاقية الموقّعة مع حكومة الوفاق ستمنحها قدرة على الاستقلال فيما يتعلّق بالطاقة. ولهذا السبب، وخوفًا من انبعاث نفوذها في المنطقة، تجري مُحاولات حصارها بحريًا واستبعادها من قبل دول "منتدى غاز شرق المتوسّط"، قبل أن تقلب الطاولة أخيرًا باتّفاقها مع الذي يدفعها للمخاطرة هناك دفاعًا عن مصالحها.

يرتبط حلّ الأزمة الليبية إذًا بقضية غاز مياه شرق المتوسّط وتطوّرات الحرب المستعرة هناك. فتركيا ليست مستعدّة للتراجع عمّا توصّلت إليه مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليًا، أي خسارة كمّيات هائلة من الموارد الطبيعية التي تسدّ حاجاتها للطاقة، بحسب خبراء أتراك، لمدّة زمنية تتجاوز 500 عام. كما لن تقبل، وباعتبارها أحد أطراف النزاع في ليبيا، بأي حكومة لا يكون فيها الثقل للسرّاج وحلفائها، أو أي حكومة قد تعمل على إلغاء الاتّفاقيات بين البلدين.

اقرأ/ي أيضًا: قصف الكلية العسكرية بطرابلس.. ألعاب "الطيران الأجنبي" في ليبيا

في المقابل، لن يقبل داعمو حفتر ومشغّلوه، مصر بالدرجة الأولى كونها منخرطة في حرب المتوسّط وبدرجة أقلّ اليونان ومن خلفهما السعودية والإمارات بأن يستمرّ الاتّفاق بين الحكومتين، وكانت الدول المذكورة قد عبّرت عن رفضها له من خلال رفع سقف الدعم لأداتها في ليبيا اللواء خليفة حفتر، بهدف تمكينه من السيطرة على العاصمة طرابلس، وإنهاء حكومة الوفاق.

تخدم الاتّفاقية التي أبرمتها تركيا مع ليبيا مساعي تركيا في التحوّل إلى قوّة إقليمية في المنطقة كونها ستوفّر لها ما تحتاجه من إمدادات الطاقة التي تفتقر إليها

وبينما كانت مساعي السيطرة على العاصمة قد اقتصرت سابقًا على فرض خليفة حفتر أمرًا واقعًا دوليًا وتسهيل فرض محور "السعودية - الإمارات - مصر" كامل نفوذه على الأراضي الليبية، ونهب ثروات البلد غير المستقرّ؛ فإنّ الهدف الآن من دعم حفتر هو التخلّص من حكومة الوفاق المسؤولة عن توقيع اتّفاقية الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، وهو ما لن يسمح به الأتراك الداعمون للسرّاج، لاسيما بعد إعلان تركيا إرسال قوات تركية لصدّ هجمات حفتر، وهو ما يشير فعليًا إلى تعقيد مضاعف، يبدو أن مشاورات برلين أو غيرها، ليست كافية لحله.