09-يناير-2020

تحظى قوات حفتر بدعم إماراتي مصري (Getty)

ظلّت المواجهات الميدانية في الجبهة الغربية في ليبيا بين طرفي النزاع، قوات حكومة الوفاق الوطني من جهة، وهي الحكومة الشرعية حسب المعايير الأممية، وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر من جهة أخرى، على مدى الأشهر الماضية وتحديدًا منذ إعلان حفتر في نيسان/أبريل 2019 حملته العسكرية للسيطرة على العاصمة طرابلس، تغلب عليها المعارك غير الحاسمة وتبادل المواقع بين كرّ وفرّ والانتصارات الظرفية المحدودة، وذلك توازيًا مع جمود مسار العملية السياسية وفشل كل المحاولات، تحديدًا الأممية منها، لإنعاش مسار تسوية الصراع على قاعدة التوافق الجامع.

عرفت الساحة الليبية خلال الأسابيع القليلة الماضية، تطوّرات غير مسبوقة، بعد اقتراب قوات حفتر من مركز العاصمة طرابلس بما استلزم من قوات الوفاق طلب الدعم من "الدول الصديقة"

بيد أن الساحة الليبية عرفت خلال الأسابيع القليلة الماضية، تطوّرات غير مسبوقة على مستويين اثنين متتابعين: أولًا اقتراب قوات حفتر من مركز العاصمة طرابلس بما استلزم من قوات الوفاق طلب الدعم من "الدول الصديقة"، في خضم بحثها عن حليف لصد هجمات الميليشيات المدعومة من أبوظبي والقاهرة وإدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أن تلبي تركيا طلب طرابلس، معلنة استجابتها له بالمساعدة العسكرية، ما يعني خروج اللاعب التركي إلى الضوء، وهو ما استنفر القوى الدولية والإقليمية المعنية بالصراع الليبي. وهي استجابة تأتي تذكيرًا، بعيد أسابيع من توقيع حكومة الوفاق مع أنقرة مذكرة تفاهم لترسيم الحدود البحرية وهو ما جعل الدول المعنية في شرق المتوسط ترفع ناقوس الإنذار.

اقرأ/ي أيضًا: قصف الكلية العسكرية بطرابلس.. ألعاب "الطيران الأجنبي" في ليبيا

ويتزامن هذا التدخل التركي فيما ظهر مع عودة الجزائر للمشهد الليبي بعد إتمام المسار الانتخابي وصعود رئيس الجمهورية الجديد عبد المجيد تبون، وذلك عقب جمود للدور الجزائري ليس فقط إبان الفترة الانتقالية بل طيلة السنوات الأخيرة، أي طيلة العهدة الرابعة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، حينما عرفت الدولة سباتًا وانكفاءً نحو أزماتها الداخلية على حساب إدارة الملفات الخارجية. وعنوان العودة الجزائرية، في الأيام الأخيرة، هو موقفها الواضح والصريح باعتبار حملة خليفة حفتر "عدوانًا عسكريًا" وتحذيرها من اقتحامه العاصمة وصولًا إلى ما ظهر تنسيقًا مع أنقرة بعد زيارة وزير خارجيتها للجزائر. وظل السؤال حول أرضية هذا التنسيق وآفاقه، وإن كان التدخل التركي الميداني مع هذه العودة الجزائرية سيؤولان إلى خلط للأوراق في ليبيا، أولًا على مستوى التوازنات العسكرية وثانيًا على مستوى التفاهمات السياسية؟

التدخل التركي.. المنطلقات والمآلات

لم تكن تركيا بإرثها التاريخي والحضاري طرفًا مستجدًا في الرقعة الليبية، وعملت طيلة السنوات الماضية تحديدًا منذ اتفاق الصخيرات، على دعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها أمميًا في مواجهة ميليشيات خليفة حفتر. ومن زاوية أولى فإن الميدان الليبي يمثل ساحة صراع دولي- إقليمي وبالتالي فرصة لأنقرة لتوسيع نفوذها في المنطقة خاصة في مساحة إستراتيجية، شمال أفريقيا وجنوب المتوسّط، بل وشرقه أيضًا بالنظر إلى أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس مؤخرًا، تستهدف الثروات الطبيعية في منطقة شرق المتوسط، التي باتت في السنوات الماضية واحدة من أهم مناطق التنازع الحدودي في العالم.

ولا يُغفل هدف تأمين الاستثمارات العمومية والخاصة التركية في مشاريع إعادة الإعمار، وإجمالًا تأكيد أنقرة أنها طرف لا يمكن تجاوزه، وقد وضعت بذلك رهانها في سلّة حكومة الوفاق في مواجهة حفتر الذي يُنظر إليه أنه ممثل خصومها في المنطقة.

بهذا المعنى، يمثل سيناريو سقوط طرابلس بيد قوات حفتر، وبما يعنيه من فقدان حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليًا، زمام القرار السياسي في البلاد، ضربة للمصالح التركية بل للوجود التركي في ليبيا أكثر من أي بلد آخر، وذلك لحساب بقية الفاعلين الدوليين والإقليميين، أي الإمارات والسعودية ومصر وروسيا وفرنسا الداعمين عسكريًا وسياسيًا لحفتر، وكذا بقية الدول المعنية بالصراع وبالخصوص إيطاليا القادرة على تأمين الحد الأدنى من مصالحها بحكم الأمر الواقع (رفضت مثلًا الاستجابة لطلب حكومة الوفاق بالدعم العسكري المباشر، رغم دعمها لطرابلس في مواجهة الموقف الفرنسي) والولايات المتحدة أيضًا التي تلعب دور المتابع عن بعد متخفّفة من الملف الليبي زمن إدارة دونالد ترامب، باعتباره ملفًا أمنيًا يهمّ الأوروبيين بدرجة أولى أكثر من كونه ملفًا استراتيجيًا يهمّ الأمريكيين أنفسهم.

وتأتي سرعة الاستجابة التركية لطلب حكومة الوفاق بالدعم العسكري المباشر هذه المرة بالانطلاق في إرسال الجنود والعتاد مؤشرًا بينًا على قناعة أنقرة بضرورة التدخّل وبشكل سريع بغض النظر عن تحفظات ورفض مختلف الدول لـ"التدخل الأجنبي"، وبغضّ النظر عن كلفة رفع القناع، عبر الدعم العسكري المباشر، وما قد يستتبعه من تورّط أو هزيمة مفترضة في مستنقع ليبي أو تكتّل الدول لإبعادها مع الحساسية الأوروبية التقليدية من توسع النفوذ التركي (انعقد مثلًا اجتماع خماسي على مستوى وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا ومصر واليونان وقبرص رفضًا للتدخل التركي مع برمجة اجتماع في بروكسل للتفاعل أوروبيًا بخصوص هذه النقطة) عدا عن تحفّظ دول الجوار عن بلوغ الدور التركي إلى مستوى الوجود العسكري الميداني على حدودها (مصر بدرجة أولى).

ولكن يظلّ السؤال إجمالًا على الأرض عن قدرة هذا التدخل في تغيير التوازنات العسكرية وحماية العاصمة من السقوط بيد قوات حفتر. وقد تعددت تصريحات القيادات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق استبشارًا بهذا الدعم، ومن ذلك مثلًا تصريح ناصر عمار، آمر قوة الإسناد بعملية بركان الغضب، أنه بات بإمكان تكبيد قوات حفتر "خسائر كبيرة" بعد وصول الدفعة الأولى من القوة التركية إلى العاصمة طرابلس، مشيرًا إلى القدرة على إسقاط الطائرات وحرية طيران السلاح الجوي.

ويؤكد هذا التصريح على أن كلمة السرّ الحاسمة في النزاع العسكري الجاري منذ 9 أشهر في الجبهة الغربية وعلى تخوم العاصمة هي المعركة الجوية، وتحديدًا مضاد الطائرات، خاصة أن حفتر استفاد من الدعم المصري الإماراتي إقليميًا والروسي الفرنسي دوليًا لتأمين قواته جويًا واستهداف خطوط قوات حكومة الوفاق في مختلف المحاور ومواقع حساسة، آخرها الكلية العسكرية بطرابلس. وقد تكون العملية الأخيرة ضد الكلية العسكرية بمثابة سبب حاسم وإضافي لأنقرة للعمل على مجابهة التفوق الجوي لقوات حفتر، خصوصًا أن العملية التركية، تسعى إلى منع تغيير أمر واقع في طرابلس، لا إلى مهاجمة مواقع لقوات حفتر بالأساس. وقد قدمت أنقرة فعلًا على مدى الأشهر الماضية دعمًا عبر الطائرات المسيّرة بالخصوص في مواجهة الطائرات الإماراتية، غير أن هذا الدعم لم يؤت أكله وهو ما قد استلزم اليوم متابعة وتنفيذًا تركيًا مباشرًا على الأرض للمعركة حول العاصمة.

ولا يُعلم إلى الآن حجم تعبئة أنقرة دعمًا لحكومة الوفاق الوطني، ونوعية المساعدة العسكرية، وهو حجب للمعلومة قد يعود لأسباب عسكرية وليس سياسية فقط استغلالًا لعنصر المفاجأة وحالة ترقب الخصم على الأرض، غير أنه من المؤكد، وفق تصريحات القيادات العسكرية الليبية والإشارات التركية، أن الدعم سيتركّز بالخصوص على كسب المعركة الجوية وهي المعركة الحاسمة عبر توفير الغطاء الجوي للمجموعات المقاتلة أولًا واستهداف مواقع قوات حفتر ثانيًا، وذلك باعتبار قدرة قوات حكومة الوفاق عدة وعتادًا على الأقل على حسم المعركة على الأرض عبر قوات المشاة التي يمكن تعزيزها من المدن المجاورة لطرابلس وبالخصوص من مدينة مصراتة.

الجزائر.. استعادة وتدارك

بدأت الجزائر، في الأثناء، تعمل على استعادة مكانتها كفاعل إقليمي مؤثر في الملف الليبي، وهي التي تجمعها معها حدود بطول 1000 كيلومتر، وتدارك حضورها الضعيف على ضوء جمود الديبلوماسية على وقع الأزمات الداخلية في السنوات الماضية، وهو ما ترك فراغات عزّزت من دور لاعبين إقليميين آخرين، وبالتالي تعمل الجزائر منذ انتخاب تبون على اللحاق بركب الفاعلين قبل فوات الأوان وانفجار الوضع بما يؤثر على مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية والأمنية.

ولعلّ العنوان البيّن لمحاولة الجزائر استعادة تأثيرها في ليبيا مؤخرًا هو خروجها من منطقة المتابعة والضبابية إلى الفاعلية والوضوح عبر انحيازها الواضح لحكومة الوفاق الوطني في مواجهة قوات خليفة حفتر، بل واعتبارها العاصمة طرابلس "خطًا أحمر" في إنذار واضح المعالم، وقد تعددت اجتماعات رئيس الجمهورية الجديد عبد المجيد تبون مع الهياكل السيادية للدولة، بهدف متابعة الملف الليبي، ونقلت وسائل إعلام زيارة قائد الأركان الجديد اللواء شرنقيحة مؤخرًا للشريط الحدودي لبلاده مع ليبيا، ولعلّ زيارة وزير الخارجية التركية داوود جاويش أوغلو للجزائر وإطلاق اللجنة الإستراتيجية بين البلدين والدعوة الموجهة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان هي مؤشر إضافي على السعي الجزائري لتعزيز تموقعها في حسابات الملف الليبي.

وتسعى تركيا، في هذا الجانب، إلى استمالة الجزائر إلى صفها بمباركة غير علنية لدعمها العسكري لحكومة الوفاق، وتأكيد عدم انعزالها من بوابة دول الجوار الغربي، فيما يبدو أن دولًا عربية أخرى مثل قطر وتونس تحظى بفاعلية واضحة في الشأن الليبي، وتبدي تركيا حماستها بشأن دعوة الدول الثلاث لاجتماع الأطراف الدولية حول ليبيا في برلين، مع التذكير أيضًا بالزيارة غير المعلنة التي أداها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على رأس وفد رفيع المستوى، يضم وزير الخارجية ووزير الدفاع وقائد أركان الجيش ومدير الاستخبارات، إلى تونس. ويُذكّر أيضًا بتصريح وزير داخلية حكومة الوفاق الوطني فتحي باشاغا، مباشرة بعيد هذه الزيارة ومن داخل تونس، عن تحالف يضم طرابلس وأنقرة والجزائر وتونس، فيما بدا أن ثمة إعادة لترتيب صفوف التحالفات على وقع التطورات الأخيرة.

ولعلّه وبقدرة حاجة أنقرة إلى غطاء سياسي إقليمي من الجزائر أو أقله عدم معارضتها لتدخلها العسكري، تأتي الحاجة الجزائرية أيضًا لإعادة التموقع في الملف الليبي من نافذة المستجدات الأخيرة ربما من بوابة مواءمة المصالح التركية الجزائرية في ليبيا. ويبقى المحدد الأمني دائمًا عالي الحساسية في تحديد الموقف الجزائري مع الخشية من سيطرة قوات حفتر على المنطقة الغربية وما تعنيه من توجس استراتيجي من تمدد النفوذ المصري الإماراتي الفرنسي على حسابها عدا عن التوجس الأمني من بلوغ المليشيات المرتزقة متعددة الجنسيات إلى شريطها الحدودي.

خلاصة

يهدف الدعم العسكري التركي المباشر لحكومة الوفاق الوطني إلى تعديل موازين القوى على الأرض في تخوم طرابلس التي باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى، بسقوطها بيد قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وهو دعم من المنتظر أن يتركّز أساسًا، إضافة للدعم الاستشاري التقني، على كسب معركة سلاح الجو بتوفير غطاء لقوات مشاة حكومة الوفاق واستهداف مواقع تمركز المجموعات المهاجمة للعاصمة بأولوية دفاعية أولية إضافة إلى إمكانية إعادة ترتيب الصفوف والتحول إلى صد الخطر بخطة هجومية. ويظلّ نجاح الدعم العسكري التركي في تحقيق أهدافه معلقًا على حجم هذا التدخل وصلابة الإمكانيات الذاتية لحكومة الوفاق بدرجة أولى وقدرة قوات حفتر على التقليص من نجاعة هذا الدعم، وهي قدرة تتوقف في جانب منها على فرضية تكثيف الدعم الأجنبي، عدة وعتادًا، لحفتر، وهو ما يهدّد بتحويل الجبهة الغربية إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح على كل احتمالات التصعيد بما يزيد من التعويل على الحسم العسكري وتأخير التسوية السياسية لحل الأزمة في البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: تصعيد متواصل في ليبيا.. ما السيناريوهات المحتملة أمام الأزمة؟

فيما تتصاعد، في الأثناء، المؤشرات الواضحة لسعي الجزائر لاستعادة دورها كفاعل إقليمي مؤثر في الملف الليبي، ولعلّ ترجمة هذه المساعي مؤخرًا هو توجيه برلين الدعوة إليها لحضور المؤتمر الدولي حول ليبيا. وتملك الجزائر عديد الأوراق عبر امتداد علاقاتها الاجتماعية والسياسية في الداخل الليبي لتعديل التوازنات السياسية إقليميًا والتصدي للمحور الإقليمي- الدولي الداعم للواء المتقاعد خليفة حفتر، بما يمثله من تهديد إستراتيجي لمصالحها في البلد المجاور.

يتزامن التدخل التركي فيما ظهر مع عودة الجزائر للمشهد الليبي بعد إتمام المسار الانتخابي، وذلك عقب جمود للدور الجزائري ليس فقط إبان الفترة الانتقالية بل طيلة السنوات الأخيرة

 وقد تتمظهر مساعي الجزائر لإعادة تموقعها في الملف الليبي من بوابة التنسيق مع أنقرة بمناسبة تدخلها العسكري المباشر دعمًا لحكومة الوفاق التي أعلنت الجزائر عن دعمها لها بشكل واضح مؤخرًا، وهو تنسيق قد يتطور إلى مستوى التعاون العسكري وإن بشكل غير معلن لحماية العاصمة طرابلس، وقد يبلغ مداه مستوى التحالف الإستراتيجي وهو سيناريو يظلّ مستبعدًا في الوقت الحاضر، على الأقل، بما يستلزمه من تراجع للدور التركي في ظل العقيدة الجزائرية التقليدية في لعب دور القيادة في المنطقة واسترجاع مكانتها بعيدًا عن المزاحمة/المنافسة على المصالح من الدولة القادمة من أقصى شرق المتوسط، وأيضًا مع القناعة بضرورة التنسيق مع الأوروبيين، الفرنسيين والإيطاليين تحديدًا، في رسم ملامح التسوية السياسية الشاملة في ليبيا بعيدًا عن منطق التحالفات الإقليمية أو الاصطفاف وراء محور ما.