05-ديسمبر-2016

نسوة يتسوقن في برشلونة (دافيد راموس/بلومبيرغ)

يأخذك فضاء الهجرة إلى عقد مقارناتٍ ترصد من خلالها الفوارق الحضارية بين هنا وهناك، وقد ترصدها بشكل مريح من خلال نظام الخدمات الذي يتصل بالحياة اليومية، أكثر من الانشغال في قراءة معدلات الإنفاق على البحث العلمي، ومحددات الاستراتيجية العامة. تلك الأشياء، رغم أنها تحتاج إلى بحث ووثائق، إلا أن أمر تفوقها محسوم بالتأكيد، لكن الأشياء الصغيرة من مواصلات وبريد وخدمات تتحول مع الوقت إلى هجاءٍ مباشرٍ لتلك الأوطان التي هدمت قبل أن تُبنى.

في المنفى، يتحول البيت والسوبر ماركت، إلى ما يشبه حدودًا لا مرئيةً بين عالمين

في القطار ومع البريد، يشعر المرء بنوع من التساوي بين البشر جميعًا. الجميع مثل الجميع، لا فضل لمواطن على أجنبي. لكنه يرى اختلاف الأنماط الثقافية في مساحات أخرى، تكسر تلك النمطية، وتتحول إلى أمكنة كاشفة للبشر وأساليب الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: البيت.. ترويض وحشية الأمكنة

مساحات مثل البيت والمطبخ والسوبر ماركت، تتحوّل إلى ما يشبه حدودًا لا مرئيةً بين عالمين، تبدأ المقارنات فيها كلعبة، لكنها سرعان ما تصبح برزخًا بين عالمين.

السوبر ماركت: الطمأنينة وصراع البقاء

تلفتني كثيرًا طريقة تسوّق كل منا. فبينما يشتري السوري الخضار بالكليوغرامات، وترى عربة تسوقه الملأى تستدعي طلب عمال لحمل محتوياتها، تجد الألماني يشتري حبة بندورة، أو حبتي تفاح، أو موزتين، أو قطعة خبز فقط. 
لم يأت السوري من مجاعة ليصاب بعقدة من نفاد الطعام، لكنه قادم من ثقافة التموين والخوف من الجوع. قسوة الشتاءات دمغت هوية الشرقيين. الفقر صاغ علاقتهم كمركب نقص مع الحاجيات الأساسية. هم أبناء اللاطمأنينة والقلق، فعلى الرغم من الوصول إلى الثلاجات المخصصة للمؤونة، لا تزال النساء يعبئن ثلاجاتهن بورق العنب والخضروات، ولا يتوقفن عن تعليق الثوم والبامياء المجففة، وتخوين الملوخية الميبّسة، وإعداد المكدوس والزيتون والجبن، بطرق عمليةٍ، بل علميةٍ أيضًا، تنافس كل المواد الحافظة.

في الوقت نفسه، يكتفي الأوروبي بما يتصل بطعام يومه، ذلك أن شعوره العالي بالأمان يجعله يأخذ ما سيأكله اليوم فقط، ويأتي وعيه البيئي ليضيف قيمة تتعلق بالقلق من التسبب بالمزيد من القمامة.

أسلوب الطعام يكشف وجه الحياة، بين من يدفعه الرفاه إلى أن يثق بالمطاعم، وبين بيوتٍ تصر على إطلاق روائح الطبيخ كتعبير عن هوية قَلِقة.

بيوت تقف على الحياد

تلفتني النوافذ. هي واسعة وكبيرة، بل إن لديها طموحًا لالتهام الجدران وجعلها كلها نوافذ مفتوحة على الخارج. زجاج النوافذ شفّاف، باستثناء نوافذ الحمامات غير القابلة للرؤية.

كأن البيوت لم تستطع أن تجعل أهلها صورة عنها، بل ارتضت بنفسها كتعبيراتٍ ثقافية

نوافذ بيوتنا صغيرة. في القديم كان هناك نوع من الزجاج المحجّر، أو الملوّن، الذي لا يسمح بأية رؤية من الخارج، مهمته الوحيدة هي السماح للضوء بالمرور. وحين تطورت النوافذ، في السنوات الأخيرة، صارت مرايا تعكس صورة الخارج للخارج، بما يُعدم أية فرصة لانكشاف البيت. حماماتنا لا توجد فيها نوافذ، هناك طاقات صغيرة تقتصر مهمتها على التهوية وحسب، وجعل البيت أقرب إلى حصن سريّ يخفي أجساد سكانه.

اقرأ/ي أيضًا: المنفى في صمته

الغريب بين سكان البيتين، أن إنسان البيت المفتوح على الخارج أقلّ قابلية للاجتماع والتواصل الإنسانيين، بل قل إنه ذو نزوع إلى العزلة، بينما إنسان البيت الذي يقنن دخول كل شيء، باستثناء الضوء، ذو قابلية كبيرة للاجتماع واللقاء وبناء العلاقات.

كأن البيوت لم تستطع أن تجعل أهلها صورة عنها، بل ارتضت بنفسها كتعبيراتٍ ثقافية.

الطبيعة والحيوان: مواطنة كاملة

لا أدري لماذا تراجع اهتمام الثقافة العربية بالحيوان، رغم أن تراثها حافل به كصديق، يتمثّل بشكل أساسي في حضور الحصان والجمل في الشعر الجاهلي، وكمدلول رمزيّ كما في "كليلة ودمنة" وعدد وافر من الأدب الفلسفي كـ"حي بن يقظان"، أو في شكل خيالي فانتازي، مثاله الأهم وحوش وعفاريت "ألف ليلة وليلة"، وأخيرًا كمجال للبحث العلمي والمعرفي والتاريخي والأدبي، كما في الثالوث المهم: "الحيوان" للجاحظ، و"حياة الحيوان الكبرى" للدميري، و"غرائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزويني.

غاب الحيوان كليًا عن المشهد الحياتي عندنا، وبات محصورًا في العلاقات النفعية فقط: المواشي والأبقار، أو حيوانات الزينة: الحمام والعصافير. في المقابل، يشارك الحيوان الإنسان الغربيّ حياته، إذ تحظى القطط والكلاب بحصة مُواطنةٍ كاملة. بل إن اللغة ابتكرت تعبيرات جمالية مستنبطة منها، في حين أن لغتنا اكتفت بتحويل الحيوانات إلى سبّة.

الطبيعة حاضرة بقوة. صحيح أن الإنسان يعيش في مسكن حداثي، لكن البيوت تحتفل بخضرة النباتات احتفالًا صارخًا في داخلها، أما في الخارج فتقيم علاقة جوار مع الحدائق والغابات، التي تبدو مزارًا دائًما يمارس فيه الناس الرياضة اليومية، والتنزّه في الأيام المشمسة. 

يملأ أطفالنا الطريق إلى المدرسة بالعبوس، ولا تراهم يفرحون إلا لحظة مغادرتها

اللافت هو التدخل الإنساني في هندسة الغابة، من حيث ترك بعض الأواني لتجميع الماء، ما يسهّل شربه على الطيور. 

اقرأ/ي أيضًا: أحمد حسو.. حصتنا من المنفى

أما المشهد الجوي للمدينة الأوروبية فيوحي، من شدة خضرته، أن المكان غابة بالأساس، وكل ما حدث أن البشر بنوا بيوتًا فيها. ثمة ما يبدو زواجًا سعيدًا ما بين الفطرة والتحضّر، وترتيبًا قائمًا على الانتماء إلى الأم الأصلية؛ الطبيعة.

أمومة المدرسة

لا يلبس الأطفال لباسًا موحّدًا. لا يقفون في طابور صباحي ليحيوا العلم الوطني. لا تجد من يبكي في طريقه إلى المدرسة، كما يفعل أطفالنا، الذين يبدون متأكدين من أنهم يساقون إلى معسكرات اعتقال.

لا تتشابه المباني على الطريقة البعثية التي جعلت مدارس البلد نسخًا متطابقة عن بعض البعض. هنا لكل مدرسة حريتها في اختيار شكلها. بعضها يبدو تحفًا معمارية، بعضها أشبه ببيوت شخصيات القصص الكرتونية. 

يذهب الأطفال إلى المدرسة بفرح من يذهب إلى الاحتفال، ويملأ أطفالنا الطريق إليها بالعبوس، ولا تراهم يفرحون إلا لحظة مغادرتها.

الطبابة الجبانة

رغم أن الجميع حائزون على تأمين صحي، ورغم أن المعدلات العمرية عالية للغاية، إلا أن الأجنبي يلمس شرخًا في النظام الطبي، فهو إذا اتصل بالإسعاف سوف يأتون خلال دقائق معدودة، لكنه حين يذهب إلى المستشفى من تلقائه، فسوف يجد نفسه مضطرًا إلى الانتظار لساعات طويلة، دون أن تساهم آلامه في كسر البيروقراطية.

كيف تُفهم الطبيب الأماني أنك شربت وحُقنت بأدوية لو حُولت إلى سوائل ووضعت في مجرى نهر لملأته؟ 

في العيادات، أنت مرغم على مراجعة الطبيب العام، وبناءً على تقييمه تحال إلى الطبيب المتخصص. إذا أردت اختصار المسافة والذهاب إلى العيادة المتخصصة من دون تحويل طبيبك، فسوف تعطى موعدًا يطول شهورًا.

اقرأ/ي أيضًا: تمارين على المنفى

يبدو الأطباء جبناء. لا توجد لديهم شجاعة أطباء بلادك الذين يبادرون إلى الفحص والتشخيص، آخذين على عاتقهم المسؤولية الكاملة. 

لا يوجد لدى الطبيب ما يقدمه لك إلا عموميات عن الوقاية من البرد، أو الاستراحة من العمل في البيت، والباقي هو أن تمرن جسمك على المقاومة الحيوية للفيروسات. لكن كيف تفهمه أنك شربت وحُقنت بأدوية لو حولت إلى سوائل ووضعت في مجرى نهر لملأته؟ وكيف تشرح له أنك من شعب يشعر بالأمان الصحي كلما ازدادت علب الأدوية في بيته؟ وأنك من ذلك الشعب الذي يشعر كل مواطنيه بأنهم أطباء، لا سيما الأمهات؟

ثم يأتي الصيدلاني ليكمل دورة الخذلان، فلا يعطيك، إن أعطاك، إلا المسكنات، ولا يبالي بخبرتك الطبية التي تعرضها أمامه وأنت تشخّص أعراضك. لن يعنيه كل ما تسوقه ما لم تعرض عليه وصفة طبيةً رسمية.

أخيرًا

بينما تغرق في لجّة هذه التفاصيل، يغدو المنفى صليبًا تنوء بحمله على كاهلك، وتشعر بانعدام التوازن، أو بخللٍ ما في قانون الجاذبية، رغم أنك تسير على أرض صلبة إلى حد ما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكتابة والمنفى.. تلك الهوية الرمادية

الجسد الشرقي في منفاه الثاني