03-ديسمبر-2015

حوض أسماك

أن تخوض تجربة تربية أسماك الزينة يعني أنك أمام فرصة لبناء نموذج مصغر لعالم متكامل. وإن أصغيت إلى الدروس التي تُلقنها لك الأسماك، ستكون أمام فرصة لوضع اليد على بعض أسباب الفشل والنجاح في كثير من مشاريع التغيير. 

في عالم الأسماك لا مجال للتغاضي عن الخطأ، فالأسماك ترفع راية الاحتجاج سريعًا تنديدًا بأي اختلال في عالمها

والميزة في هذه التجربة أنها تختصر لك الوقت سريعًا، لأن أسماك الزينة من الكائنات التي تمتلك حساسية تجاه التحولات في البيئة أكبر من غيرها من الحيوانات التي تربى منزليًا، فهي تتأثر سريعًا بالحرارة والبرودة وجودة المياه والطعام، لذلك فما أسرع أن ترى النجاحات، وما أسرع أن ينهار هذا العالم. هي نموذج للأحداث حين تُختصر في ثوان أو ساعات، لا تحتاج إلى سنوات كي ترى عالم الأسماك ينمو ويملأ الناظر بهجة، كما قد ينهار أمامك هذا العالم في ثوان معدودة.

في عالم الأسماك لا مجال للتغاضي عن الخطأ، فالأسماك ترفع راية الاحتجاج سريعًا تنديدًا بأي اختلال في عالمها، هي لا توهمك أن الخطأ يمكن أن يُنتج نتائج إيجابية، بل تظهر آثار المرض سريعًا مع التغيرات، وتٌدق أجراس الإنذار قبل استفحال المشكلة.

على عكس عالم الإنسان، الذي يتم فيه تزيين الخطأ، ويتم التواطؤ على إخفاء الآثار الضارة لما نقوم به. نخدع أنفسنا بأنفسنا، نرفع راية النصر زورًا ونحن في أحضان الهزيمة، أو نزهد يأسًا في خطوة واحدة كانت تفصلنا عن النصر. 

شدتني منذ الصغر تلك الحياة التي تقبع خلف الزجاج. فقد خضت وأنا ابن الرابعة عشر من عمري تجربة بناء عالم من العدم، ليس فقط بناؤه، بل الحفاظ عليه والتقدم به. ولم يكن النجاح حليف كل من قاموا من أصدقائي بتجربة مشابهة في نفس الفترة، صحيح أنهم تمكنوا من إيجاد عالم الأسماك، لكنهم عجزوا عن إدارته، فماتت أسماكهم وتلاشى عالمهم.

وحين كبرت رأيت أيضًا عوالم تنهار وأحلامًا تتلاشى، رأيت حماسًا لإيجاد العالم الجديد الذي ينعم الناس فيه بالحرية، لكنني صدمت حين وجدت عزوفًا عن حسن إدارته. رأيت احتفالًا مبالغًا فيه بالخطوة الأولى، لأكتشف لاحقًا أنها الأولى والأخيرة. رأيتنا لا نطعم الأسماك، ولا نهتم بنظافة المياه.. ثم نفتح أفواهنا صائحين في بله.. لماذا تموت أحلامنا؟!

لا نطعم الأسماك، ولا نهتم بنظافة المياه.. ثم نفتح أفواهنا صائحين في بله.. لماذا تموت أحلامنا

أدركت منذ الصغر أن صناعة عالم ناجح تخضع لقواعد أساسية، فكنت أشتري كتبًا متخصصة في تربية الأسماك لفهم هذا العالم ومعرفة القواعد التي تحكمه. أدركت مبكرًا أن العلم أساس كل عمل ناجح، فكيف إن كان هذا العمل هو تأسيس عالم متكامل.

خضت التجربة وبنيتُ كوكب الأسماك، وكان الفشل والنجاح يتناوباني، وإن كانت الغلبة في النهاية للأخير. عملت على هذا الكوكب طبيبًا أداوي الأسماك، ومهندسًا أضع النظم التي تيسر حياتها، ومصلحًا اجتماعيًا أفصل بينها في النزاعات، وشرطيًا أعاقب المذنبين، وثائرًا آخذ بيد المضطهدين. ومع ذلك، لم يشفع كل ما فعلت لي عندما كنت أرتكب أخطاء، لم يكن الكوكب يجاملني باعتبار أن حسناتي أكثر من سيئاتي، فالطبيعة لا تجامل، ما يهمها القدرة العملية لحسناتي على دفع أضرار سيئاتي. ولطالما اعتبرتني مجرمًا حين أُهمل فتموت عشرات الأسماك.

وهو ما دفعني للإيمان بالعلاقة بين السبب والنتيجة، فكنت كلما فشلت أوقن أنني خرقت قاعدة من قواعد ذلك العالم. لم يكن هناك لغز محير.. فكل فشل علامة على خرق قاعدة، ولم يكن سبب الفشل قط تآمر الأسماك. فلم تكن بينها وبيني عداوة شخصية، ولا أظنها كانت تنتحر نكاية في!!

عندما يسألني أحد.. لماذا تموت أسماكي؟! هذا السؤال الذي يعكس عمليًا إدانة من الطبيعة للسائل، كأنها تقول له أنت خرقت القواعد. عندها أبحث عن الخلل في إدارة التفاصيل. لا يكفي أن تقول "فعلت ما علي فعله"، بل يجب أن تفعل ما عليك فعله بالطريقة الصحيحة، ولن تكتشف الطريقة الصحيحة إلا حين تكف عن ترديد الجمل العامة التي هي أقرب للشعار، وتظنها وسيلة لبناء العالم، لن تكتشف الطريقة الصحيحة إلا حين تأخذ الأمر بجدية وتعكف على البحث عن الأجوبة التفصيلية، لا يكفي أن تقول "كان السمك جائعًا.. لقد أطعمته، وفعلت ما بوسعي"، ثم نكتشف أنك غمرته بالطعام بدعوى الكرم، فتسبب في تعفن المياه.

وكلما كان العالم الذي يراد بناؤه شديد الحساسية، كان الاكتفاء بترديد الجمل العامة دون تقديم أجوبة تفصيلية سليمة يعكس عبثًا بالحياة. لأنك ستكتشف أن الجمل العامة كما أنها مقدمات للحياة، فقد تكون كذلك أقصر طريق للموت. فباسم شعار "حق الأسماك في ماء نظيف" قتلت أسماكي ذات يوم، حين أخذت في صب ماء الصنبور النظيف على الأسماك صبًا، دون أن أزيل الكلور منه، لأكتشف لاحقًا أن الكلور مادة قاتلة للأسماك. كان الفاصل بين ترديد شعار الماء النظيف والمذبحة.. طرفة عين ليس أكثر.

اقرأ/ي أيضًا:

لا تتدخل في ملابسي الداخلية!

تعددية الأحوال الشخصية.. درب السلامة يا مصر