03-أبريل-2016

جيرارد ريختر/ ألمانيا

كلما ذُكرت كلمة "المنفى" ذهب الحديث معها إلى الأدباء المنفيين الذين عاشوا تلك التجربة وكتبوها، بينما نتناسى ملايين المنفيين العاديين الذين عاشوا معاناتهم بصمت يشبه صمتهم في ذلك العالم الذي لا يفهمون لغته ولا إيقاعه.

نتناسى ملايين المنفيين العاديين الذين عاشوا معاناتهم بصمت يشبه صمتهم في ذلك العالم الذي لا يفهمون لغته

التأمل في تلك الأحاسيس والحرقات والآلام التي بددها أصحابها في عجزهم عن التعبير الكتابي، وفي عجزهم عن التواصل مع محيطهم الجديد؛ هو الأكثر قسوة في عالم المنفيين. بسبب ذلك، يبدو أدب المنفى تفصيلًا صغيرًا من جدارية كبرى رسهما الاغتراب والاقتلاع والطرد والتيه والحنين وفقدان الثقة واليأس. وهو أيضًا حكاية تتشارك فيها شعوب الأرض، ولا يمكن الاكتفاء بفصلٍ يخصّ الصينيين أو الأتراك أو الطليان أو البلقان على أنه التجربة كلها.

اقرأ/ي أيضًا: الدينُقراطية!

نعيش في زمن يقوم على الاقتلاع والتهجير والنفي. كان القرن العشرين قرن الهجرة الأكبر في التاريخ، وربما لو أردنا قراءة فصوله فعلينا أن نقرأ ونتتبع تلك الهجرات لنفهم كيف تشكّل زمننا الحالي. بدءًا من الهاربين من الحرب العالمية الأولى على متن بواخر تبحر صوب الأمريكتين، إلى منفيي زمن الاستعمار. ثم يأتي الفصل الأكبر في هجرة اليهود من أوروبا بعد المحرقة النازية، والإلقاء بهم في فلسطين، ليقتلعوا بدورهم الفلسطينيين. وسوف تتضاعف المأساة هنا، كما يشير إدوارد سعيد، حين يلاحق الإسرائيليون الفلسطينيين في منفاهم ومخيماتهم في لبنان عام 1982، ليعاودوا اقتلاعهم، وكأنّ المنفى عقاب صغير لا يرضي الصّهاينة.

اقرأ/ي أيضًا: دقائق الصمت المهدورة

الدكتاتوريات العسكرية كذلك فعلتْ فعلها في باكستان ودول أمريكا اللاتينية والدول الاشتراكية والنازية والشيوعية، وكذلك في دول القمع العربي. وإذا أضفنا إلى ذلك كله همة الحرب التي لم تتوقف طوال قرن ونيّف من إنتاج اللاجئين والموتى والأوطان المقوضة، يصح أن نسمي عصرنا بعصر المنفيين أو المهاجرين، أو عصر اللاجئين.

بين كل تلك التجارب المروعة، يقتصر الوعي على معاينة المنفى من منظور الأدب، رغم أن ما لم يكتب منه هو الأكثر والأقسى، ربما هو صمت آخر يضاف إلى ما عاشه المنفيون في العالم الغامض الذي لم يفهموه، أو الذي لن يفهموه. 

تقول آخر موجات النفي التي شهدها العالم مؤخرًا، وهي موجات عربية الطابع بالعموم، إنّ اللاجئين الجدد يكسرون ربقة المنفى بقوّة، متحدين الجاليات القديمة التي وضعت نفسها في هامش الهامش. ها هم يدخلون منفاهم بصوت أعلى وحضور عمومي أكثر. لاجئو اليوم يعدوننا بالكثير وهم يندفعون نحو الآخر، لمحاورته أو مشاكسته، غير راضين بقدرٍ يحكم عليهم بالصمت والنسيان والإحباط. وهذا بالطبع سوف يضيف إلى الأدب والعلوم الإنسانية أشياء جديدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مشاةً نلتقي.. مشاةً نفترق

أحمد حسو.. حصتنا من المنفى