15-فبراير-2017

الشبابيك بوابة للأحلام في مصر وحرية للنساء (ريتشارد نويتس/Getty)

في السنوات التي سبقت موتها، تركت جدتي الدنيا واكتفت منها بشبّاك صغير تراقب من خلاله العالم، التصقت به وجاءت بسريرها العالي أسفله وصارت حياتها هكذا: في يقظتها تظلّ جالسة إليه، وفي نومها تغلقه حتى تتسلّل إليها خيوط الصباح التالي وتتقاطع على وجهها من خلال الشيش لتكتشف -ممتنّة- أن الله قد أجّل موتها يومًا آخر. لم يكن شبّاكًا يطلّ على الشارع، بل فرجة ضيقة في غرفة منسية تشرف على فناء تُربّى فيه الطيور. كانت قد ملّتْ الناس في خريفها الثاني والسبعين، ولم يعد يعبر الشوارع شخص تعرفه، ولكنه كان يمنحها كلّ ما تطمح فيه امرأة على شاكلتها: بعض هواء وقليلًا من الضوء يكفيان لتمرير الوقت الميّت.

الشبابيك تشبه أصحابها وأزمنتها، تشبه البيوت المحفورة في جدرانها، ومثل البشر، تختلف درجات ثرائها وألوانها

الشبابيك تشبه أصحابها وأزمنتها، تشبه البيوت المحفورة في جدرانها، ومثل البشر، تختلف درجات ثرائها وألوانها، وليس أسهل من أن تسأل شخصًا عن علاقته بشبّاك في بيته (أو في غرفته) ليسترسل في الحكايات، كأن الشبّاك -في النهاية- مسألة شخصية. في الأحياء الشعبية، ومع وقوع أي حدث استثنائي في الشارع (فرح، جنازة، مشاجرة) يهرول الناس في البيوت نحو أقرب شبّاك -البلكونة هنا خارج نطاق الخدمة غالبًا- يتزاحمون خلف الشيش متلصّصين على ما يحدث عبر فرجاته الضيقة، أو يفتحونه قليلًا جدًا بما لا يكاد يُلحظ، إنها متعة التلصّص الآمنة التي تخفيهم عن الأنظار وتمنحهم متعة المراقبة.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب التضخم.. المصريون يكتفون بوجبة واحدة يوميًا!

تضحك سناء يوسف (27 عامًا، من القاهرة) قائلة: "طول عمري متعقّدة من كلمة "شبّاك" لأننا نعيش في الدور الأرضي. كنت لما آجي أكلّم صاحباتي وأقول "بصّيت من الشبّاك" يقولولي "والبلكونة راحت فين؟".. يمكن علشان كده لما باقفّ في بلكونة بأحسّ إني دايخة وإن الدنيا قدّامي "مبَهوَقة" وإن الناس كلها في البلكونات التانية بتبصّ عليّا". هكذا تتعاطف سناء مع شبّاكها بيتها الصغير في حي روض الفرج الشعبي، وإن كانت تشكو منه أحيانًا: "دايمًا عليه ستارة علشان الرايح والجاي ما يكشفناش، الشبّاك بتاعنا بيخلّينا نشوف الشارع لكن بيخلّي الشارع كمان كلّه يشوفنا، وناس كتير لما بتيجي تخبّط على الشبّاك قبل ما تيجي على الباب، وبقت كلمة "فيه واحد بيخبّط على الشبّاك" أشهر كلمة في بيتنا".أخوها حسام -على العكس- مدين للشبّاك بأجمل لحظات طفولته، ويقول: "كان قريب من الشارع وكنت بانطّ مِنّه على الأرض وأرجع أتشعبط فيه، طبعًا ما كنتش هقدر أعمل ده لو كنت في دور علوي".

في البنايات الضخمة وناطحات السحاب الحديثة، اختفت البلكونة وعاد الشبّاك من جديد ليحتلّ دور البطولة، ولكنه شبّاك جديد يشبه الواقفين خلفه: نوافذ زجاجية مؤطرة بالألوميتال، سلسة في تحريكها أفقيًا وفي تنظيفها بدلًا من الشيش الخشبي المقسّم إلى ضلفتين. وهناك الشيش "الجرّار" الذي يتحرك بسلاسة لأعلى وأسفل، تكفي اليد الناعمة العملية إزاحة هيّنة للحبل لكي يتحرك الشيش، هنا يعيش أشخاص آخرون يفصلهم عن العالم لوح شفّاف من الزجاج يكفي -رغم ذلك- أن يطلّوا على الدنيا من أعلى كمن يتطلّع من خلال فاترينة، شبابيكهم تمنح عيونهم ما تريد دون معاناة، تمنحهم مسافة آمنة يحتاجها أمثالهم.

مشربيات ونساء

الشبّاك في بلادنا ظلّ كثيرًا وسيلة المرأة الوحيدة لتتطلّع إلى الدنيا، حيث حياتها العملية شبه مُعطَّلة ومحصورة في البيت (لا عمل ولا نزول للشارع) ليس إلا جدرانًا أربعة هو الطاقة الوحيدة فيها. ربما لهذا السبب يُطلق بعض الناس في الأرياف على الشبّاك كلمة "طاقة"، كأنه طاقة الرؤية والاكتشاف والبراح المتاح.

كان العدو الرئيسي للسيد أحمد عبد الجواد -بطل ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة- هو الشبّاك: بناته ممنوعات من فتحه أو النظر عبره، كان الخطر الداهم له والمهدد لقوته وسيطرته على "حريمه". والشبّاك -بهذا المعنى- هو العدو الأول لكل دكتاتور، يستغلّ فرض الانغلاق لبسط نفوذه الأبوي السلطوي. هكذا سادت المشربية لسنوات طويلة في المعمار الإسلامي، وكما يقول الباحث المعماري أحمد كمال فإنها صُمّمتْ معماريًا لتتوافق والظروف البيئية والاجتماعية بما يستجيب لفكر ومعتقدات المجتمع الإسلامي، فكانت المشربية تحافظ على حُرمة النساء في البيوت، وتعزل جلساتهن الحميمة، خاصةً التي كانت تحفل بالغناء والرقص.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لن يحل تعويم الجنيه الأزمة في مصر؟

اختلف تفسير كلمة مشربية فالبعض يؤكد أنها تحريف لكلمة "مشرفية" بمعنى الشيء الذي يشرف على الشارع، كما يُقال إنها سُمّيت كذلك لأن القُلَل الفخارية كانت توضع على حوافها -وقد كان بها دائمًا موضع للقُلَل- حيث يساعد الهواء على تبريد الماء، بينما يذهب رأي ثالث إلى أن السبب في التسمية هو أن المشربيات كانت تُصنع من نوع بعينه من الخشب البُنّي يتميز بالقوة والمتانة وتحمُّل جميع أنواع المناخ، يُرف بخشب المَشرَب.وبعيدًا عن الأصل اللغوي للكلمة، فقد اتفق على تصميم المشربية بفرجات ضيقة يعبر منها الهواء والضوء، قادرة أن تجعل المرأة تتطلّع دون أن يراها أحد. وحتى مع تصميم الشبّاك الحديث، ظلّت فكرة الشيش امتدادًا للمشربية بشكل أو بآخر. ومع تطور المجتمع، ثقافيًا وحضاريًا، أخذ الشباك صور تطوره حتى صار يتحوّل لزجاج كامل كما أسلفنا عاكسًا كاملًا لوجه المرأة التي تطلّ عبره والتي لم تعد أسيرة "سي السيد" في البيت.

لصوص وأحلام

علاقة حميمة تلك التي تربط اللصّ بالشبّاك. اللص لا يلجأ للأبواب، الشباك هنا هو المدخل المُحرّم. ربما لذلك ترجمت الأمثال الشعبية ذلك المعنى حتى في الزواج لتفرِّق بين الشخص السوي ولصّ الأعراض اللاهي: "الراجل المحترم يدخل البيت من بابه"، وأيضًا الشباك هو مكان الهرب "إن دخل الفقر من الباب هرب الحب من الشبّاك". الشباك المظلوم هو نقطة الخطر هذه المرة لذا صار يحتاج هو نفسه لحماية مضاعفة ويكبّل بإجراءات الحماية. واللص إذا قُبض عليه يترك الشباك الذي تسلّل منه، ليواجه أكثر الشبابيك قسوة، شباك الزنزانة: مربع ضيق، عالٍ بحيث لا تستطيع أن تصل إليه أو تنظر من خلاله، تقطعه القضبان الطولية الحديدية، شباك يدلّ على السجن أكثر مما يدل على ما يقع خارجه، يتسلّل عبره الضوء الشحيح والهواء، فقط بما يكفي السجين بالكاد ليظلّ على قيد الحياة يعاني ابتعاده عن شبابيك أكثر إنسانية.

الشبّاك في بلادنا ظلّ كثيرًا وسيلة المرأة الوحيدة لتتطلّع إلى الدنيا، حيث حياتها العملية شبه مُعطَّلة ومحصورة في البيت

وتحكي قصة طريفة عن أحد السجناء وبعد أن قضى سنوات طويلة في السجن، تعوّد على مقدار بعينه من الضوء حتى أنه لدى عودته إلى البيت صار الضوء المتسلل من شباك بيته الواسع يؤلم عينيه، تمامًا كأنه يحدّق بالشمس. وكان قد تعوّد على شرائح الضوء الطولية وقضبان النافذة التي تنعكس ظلالها على الأرضية، فضيّق من مساحة الشباك في غرفته،وثبّت به قضبانًا شبيهة، لا لأنه يحنّ إلى سجنه المؤلم ولكنه تعوّد على ذلك كما أنه صار يخاف -هو اللصّ- أن يفتح أحد الشباك عليه ورأى في تلك القضبان حماية له! وهناك الكثير من البيوت يمكنك أن ترى فيها شبابيك من هذا النوع.

"الدنيا كلها شبابيك"، هذه العبارة البليغة التي تغنّى بها محمد منير ذات يوم في أغنية مشهورة، تبدو بإضفاء طابع الواقعية عليها حقيقية تمامًا. لكل شخص شبّاكه الخاص الذي يفصل، ويصل في الوقت ذاته، بينه وبين دنيا الناس الآخرين.حلم أي ممثل أن يصبح "نجم شبّاك"، شباك التذاكر هو نافذة أخرى.. حلم.. شباك ضيق تمدّ إليه يدك بثمن تذكرة دخول صالة السينما، حصّالة يذهب مردودها لنجمك المفضل.

 جرّب أن تسأل نفسك مرة -إن لم تكن فعلت من قبل- أي إحباط ينتابك حين تأخذ مقعدك في سيارة أجرة أو قطار ولا تجده ملاصقًا لنافذة؟ أي حرمان تستشعره وأي حسد لرفيقك الذي يلصق وجهه بشبّاكه -غنيمته- ليقطع الطريق مستمتعًا، بل إنك مع توفر بعض الجرأة قد تستأذنه في استبدال الأماكن أو تجادله في التذكرة مؤكدًا أن مقعدك هو الملاصق للشبّاك. واسأل نفسك: كم وجهًا جميلًا أطلّ عليك ذات مرة من شبّاك مفتوح، ترك بداخلك أثرًا واختفى بسرعة كشهاب؟ وهل صُمّمت مقاعد المترو بحيث يكون ظهر الجالسين للنوافذ لإدراكٍ ما بأن أحدًا يبحث عن نوافذ تطلّ على ما تحت الأرض؟ هو الشبّاك إذًا، صديقك الشخصي شبيهك الصغير وحلمك المطلّ على ما تريد، فتحة صغيرة تخون الحوائط لكي يتسلّل صخب العالم ويحيا في صمت الجدران.

اقرأ/ي أيضًا:

ما هي أبرز أحداث مصر في العام 2016؟

سجون مصر.. إهمال وتكديس وتقتيل