27-فبراير-2024
لسان العرب

معجم لسان العرب لابن منظور يعد موسوعة لغوية شاملة

في كل عصر يُهيأ للعلوم من يقف عليها دراسة وشرحًا وتفصيلًا واكتشافًا وإشباعًا في التأليف، وبطبيعة الحال فإن من أبرز العلوم التي حظيت بالاهتمام في الحضارة الإسلامية علوم اللغة بفروعها من النحو والبيان والبلاغة والصرف وكذلك المعاجم، ولعل من أبرز ما جاد به علماء الأمة الإسلامية من مؤلفات كان معجم لسان العرب للإمام والعالم ابن منظور الأنصاري، الذي اتبع فيه منهجًا للبحث والتدوين والتبويب وأصّل له بكل أمانة، حتى صار  موسوعة لغوية شاملة لكل مريد. وفي هذا المقال نبذه تعريفية بالمعجم والإمام ابن منظور.

كل العلم الغزير والمواهب التي حُبي بها الإمام ابن منظور، كرّسها في تأليف المعجم الأضخم بين معاجم اللغة

من هو ابن منظور

شهد القرن الـ7 هـ/ الـ14 م. ولادة أبرز علماء اللغة العربية وصاحب الفضل في تدوين معجم لسان العرب، العالم الجليل (محمد بن جلال الدين مكرم بن نجيب الدين الرويفعي الأنصاري،) الذي يعود نسبه إلى جده الأكبر الصحابي رويفع بن ثابت الأنصاري، وهو ما أورده  ابن منظور نفسه في تقدمته للمعجم. نشأ ابن منظور في مصر، لأسرة ذات مكانة وتهتم بالعلم؛ فتعلم اللغة والأدب والتاريخ على يد علماء أجلاء أمثال ابن يوسف المخيلي وعبد الرحمن بن طفيل.

وقد تميز ابن منظور بالقدرة على الحفظ والنبوغ في الفهم، وامتاز بقدرته على الإلمام بمحتوى المؤلفات الموسوعية والقدرة على اختصارها، كما فعل مثلاً في تاريخ دمشق لابن عساكر، الذي اختصره من 48 مجلدًا ضخمًا في الأصل إلى 29جزءًا.

عرف مؤلف معجم لسان العرب بتقواه وورعه وفقهه، فعمل في دار الإنشاء في القاهرة، ثم عُيّن قاضيًا في طرابلس الغرب. ومن مؤلفاته إضافة إلى معجم لسان العرب: لطائف الذخيرة في محاسن الجزيرة، وكتاب سرور النفس بمدارك الحواس، وكتاب مُختار الأغاني والأخبار والتهاني، وتهذيب الخواص من درة الغواص، وكلها مختصرات لمؤلفات ضخمة، هذّبها واستخلص زبدتها في مجلدات أقل.

 

معجم لسان العرب

كل العلم الغزير والمواهب التي حُبي بها الإمام ابن منظور، كرّسها في تأليف المعجم الأضخم بين معاجم اللغة آنذاك، والذي ما يزال إلى الآن من أهم المعاجم لموسوعيته وطريقة تبويبه ومنهج تأليفه.

منهج المعجم

فرغ ابن منظور من تأليف معجم لسان العرب في 689هـ، وكان في عمر الـ60 تقريبًا، ويضم 15 جزءًا في طبعته الحديثة، وأورد في مقدمة المجلد الأول استهلالًا بآيات من القرآن، وتعريفًا بنسبه وبالكتاب ومنهجه، وأورد أبوابًا للتفصيل في ألقاب الحروف وخصائصها.

يذكر ابن منظور سبب تأليفه للسان العرب، وأوضح أن قصده ومبتغاه منه "حفظ أصول اللغة النبوية" وأنه راجَع المعاجم لمن سبقوه فوجدها إما حسنة الجمع (جمع المادة اللغوية) سيئة الوضع (الترتيب) أو سيئة الجمع حسنة الوضع. وهو أراد لمعجمه أن يضم الميزتين (حسن الجمع وحسن الوضع) وهذا ما كان فعلًا.

أخذ ابن منظور مادة معجمه واستقاها من 5 معاجم هي:

  • تهذيب اللغة للأزهري
  •  المحكم لابن سيده
  •  الصحاح للجوهري 
  • حاشية الصحاح لابن بري
  • والنهاية في غريب الحديث لعز الدين بن الأثير.

ولكي يكون المعجم حسن الترتيب كما أراده، سار ابن منظور على منهج الإمام الجوهري في صحاحه، فقسم المجلد بأبواب وفصول، فبعد أن يجرّد المفردة من حروف الزيادة ويأخذ جذرها الثلاثي، يُدرجها في باب حسب الحرف الأخير، فيه الكلمات مرتبة في فصول حسب الحرف الأول، والهدف من ذلك تسهيل العثور على القوافي عند البحث عن الشواهد الشعرية المضمنة في كل باب، فمثلًا كلمة (شرب) أوردها في باب حرف الباب، وففي فصل حرف الشين،. أما حروف العلة فأفرد لها فصلًا مستقلًا. وقد أثرى منهجه محتوى المعجم باستعمالات الألفاظ وأساليب ورودها، وجمع بين معاني اللغة حسب المناطق الجغرافية كذلك.

توظيف الشواهد الشعرية في لسان العرب

ضمّن ابن منظور معجمه من شواهد اللغة ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، والأمثال، إلا أن ما يغلب على الشواهد في معجم لسان العرب كان ما أورده من أبيات للشعراء من مختلف العصور، وكان ينسب الأبيات إلى أصحابها، فكان المعجم غنيًا بالشواهد الشعرية وزاخرًا بها، ومن أبرز ما ورد فيه:

  • شعراء الجاهلية ومنهم امرؤ القيس والأعشى وزهير بن سُلمى وعنترة بن شداد وطرفة والنابغة الذبياني.
  • الشعراء المخضرمون  الذين عاشوا في الجاهلية وتمكنوا من إدراك الإسلام كالخنساء والحطيئة وأبو ذؤيب الهذلي وحسان بن ثابت. وكذلك الشعراء، وغيرهم. ويلحقهم شعراء صدر الإسلام كالفرزدق وجرير وقيس بن ذريح والكميت.
  • شعراء الطبقة الثالثة كالمتنبي وبشار بن برد وأبو نواس. وهؤلاء كانت شواهدهم أقل ورودًا.

ولم يقتصر ابن منظور في أخذ الشواهد الشعرية عن الشعراء منفردين وإثبات نسبتها إليهم، بل قد استشهد كذلك بأبيات تُعزى إلى القبيلة كأن يقول (جاء في شعر هُذيل) ويذكر البيت، أو بيتًا ينسب لمجهول فردًا أو جماعة (أنشد أعرابي)، (أنشد أهل اللغة)، (قال الشاعر).

 

علم الصوتيات في لسان العرب

لعل مما يميز معجم لسان العرب ومن أسباب موسوعيته، هو سعة علم ابن منظور كما سبق القول، فكان يعد رائدًا في علم الصوتيات؛ وهذا ما يتضح عند الاطلاع على مقدمة لسان العرب وسائر المعجم، فقد تضمنت المقدمة بابًا بعنوان (ألقاب الحروف وطبائعها وخواصها) فيه تفصيل لتعريف الصوت، وذكرٌ لصفات الحروف وأجناسها من حيث الهمس والجهر. كما وضع في استهلال كل باب من أبواب المعجم  تفصيلًا لمخارج الحروف فيه (كالحروف الحلقية) ويشرح سبب التسمية ويذكر جميع الأصوات في المخرج، وصفاتها كالشدة والرخاوة، والاستعلاء والاستفال، والقلقة والصفير وغيرها. كما كان يوضح التغيرات الصوتية التي طرأت على المفردة عبر الاستخدام، كإدغام الحروف وإبدالها.

وبغض النظر إن كان ابن منظور قد أخذ هذه المعلومات ممن قبله أو أورد فيها جديدًا من لدنه، فإن ذلك لا يقلل من وزنها ولا من الجهد المبذول فيها، خاصة أنه استقى الأمثلة الشارحة للظواهر الصوتية من بيئته التي عايشها أي أنها أمثلة من لغة حية، وهذا يزيدها قيمة إلى قيمتها. 

 

توفي ابن منظور رحمه الله عن عمر الـ80، وقد ترك إرثا لغويا غزيرًا، يشهد له بجهده الذي لم يَضنُ به على هذه اللغة الواسعة، فهو في منهجه واستقائه مادة معجمه قد جمع شمل اللغة وساهم في حفظها كما كانت بغيته حتى وصلت مواد المعجم إلى 80 ألف مادة، وإن كان بعض العلماء يأخذ عليه اكتفاءه بتلك المراجع الـ5 دون غيرها، فلأنه بذلك لم يورد كثيرًا من الشواهد والمعاني في المعاجم الأخرى، وكذلك لم يُضمن معجمه أي أبيات وشواهد من أشعار من عاصروه من شعراء.

ورغم ذلك، يظل معجم لسان العرب من أفضل ما قدّمته يد عالم لحفظ اللغة وتوثيقها، جمعًا وترتيبًا وشرحًا، فقد سخر فيه ابن منظور كل ما أوتيه من نباهة وعلم غزير وملكة في الكتابة والتأليف والجمع والاختصار، بل إن منهجه الذي تبدى في المقدمة من إثبات المراجع التي استمد منها مادة مؤلّفه، لتدل على صدقه وتواضعه، فقد حفظ لأصحاب الحقوق حقوقهم، فلم ينسب لنفسه المعلومات أو الجهد المبذول في جمعها ولم يعط نفسه الفضل في شيء ليس له فيه جهد، بل أخذ من كل مرجع فيها ما يخدم هدفه من المعجم ليجعله فرعًا ضخمًا شاملًا للأصل وكل ما فيه من علم مفيد للدارسين.