08-فبراير-2018

تصميم بنان شكارنة

يعدّ الجاحظ أديب العربية الأكبر في العصر العباسي الأول من دون منازع، لأنّه تمثّل ثقافة عصره، بل إنّ هناك من يقول إنه تمثّل ثقافات عصره، ومثّلها في كتبه الكثيرة المتنوعة. قديمًا قالوا إن كتب الجاحظ تعلّم الإنسان أن يكون إنسانًا، وقد روى صاحب "وفيّات الأعيان": حدّث أبو القاسم السيرافي قال: حضرنا مجلس الأستاذ الرئيس أبي الفضل (ابن العميد) فقصّر رجل بالجاحظ وأزرى عليه، وحلم الأستاذ عنه، فلما خرج قلت له: سكتَّ أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله، مع عادتك بالردّ على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينتُ له النظر في كتبه صار إنسانًا، يا أبا القاسم كتب الجاحظ تعلم العقل أولًا، والأدب ثانيًّا، ولم أستصلحه لذلك".

قلّ من وجد في عصر الجاحظ وداناه في سعة الاطلاع، ودقة الملاحظة، وعمق المنطق. كتب في كل مواضيع علوم عصره، وأجاد في ذلك كله لأنه صاغه بلغة جزلة واضحة في آن، ومزج المزاح بالجد، والنظرية بالتطبيق. يقول المستعرب الفرنسي شارل بيلّا: "تطرّق الجاحظ إلى كل شيء، وعبّر عن أفكار شخصية أو مستعارة في كل شيء، طبقًا لمفهومه عن الأدب الذي يعتمد على الأخذ من كل شيء بشيء". في دراسة له، يشير الباحث التونسي إلى أن الجاحظ مفكر اجتماعي، ذلك أن مؤلفاته تمكن من تقدير القيمة الإخبارية لبعض الوثائق ذات الصبغة العلمية الاجتماعية. انتبه الجاحظ إلى أشياء كثيرة أقرها لاحقًا علم الاجتماع، مثل نظرية التوتر، وأثر البيئة في الكائن وسواها.

توضّح عناوين الكتب والرسائل التي تركها مدى تأثره بالحياة الاجتماعية التي عاشها. قال المسعودي عن "البيان والتبيين": جمع فيه من المنثور والمنظوم وغرر الأشعار ومستحين الأخبار وبليغ الخطب، ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى به".

كان للجاحظ ولعًا بالصنعة، أي بالفن في تعبيرنا المعاصر. يوضح ذلك تعليقه النقدي على بيتين من الشعر، يرد في كتابه "الحيوان": "سمعت أبا عمرو الشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة أن كلف رجلًا حتى أحضره قرطاسًا ودواة حتى كتبهما، وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدًا، ولولا أن أدخل في بعض القيل لزعمت أن ابنه أشعر منه، وهما قوله: لا تحسبن الموت موت البلى/ وإنما الموت سؤال الرجال/ كلاهما موت ولكن ذا/ أشد من ذاك على كل حال. ذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك. وإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير".


مختارات

لم أر قطّ في رجل وامرأة إلّا وقد رأيت مثله في الذّكر والأنثى من الحمام: رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها، كالمرأة لا تريد إلّا زوجها وسيّدها، ورأيت حمامة لا تمنع شيئًا من الذّكورة، ورأيت امرأة لا تمنع يد لامس، ورأيت الحمامة لا تزيف إلا بعد طرد شديد وشدة طلب، ورأيتها تزيف لأوّل ذكر يريدها ساعة يقصد إليها، ورأيت من النساء كذلك، ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن ذكرًا آخر لا تعدوه، ورأيت مثل ذلك من النساء، ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيتها لا تفعل ذلك إلّا وذكرها يطير أو يحضن، ورأيت الحمامة تقمط الحمام الذكور، ورأيت الحمامة تقمط الحمامة، ورأيت أنثى كانت لي لا تقمط إلا الإناث، ورأيت أخرى تقمط الإناث فقط، ولا تدع أنثى تقمطها.

*

 

والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم إن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقًا منه بأدنى حبل لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعات ليلهم، نظر في كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد في تجربة، وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين، وتثمير مال، ورب صنيعة، وابتداء إنعام. ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهالتهم المذمومة، لكان في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى، واعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما تشتهيه، لقد كان له في ذلك على صاحبه اسبغ النعم، وأعظم المنة.

*

واليونان يعرفون الفلك، لأن أولئك حكماء وهؤلاء فعلة. وكذلك العرب، لم يكونوا تجارًا ولا صناعًا، ولا أطباء ولا حسابًا، ولا أصحاب فلاحة فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم من صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغني الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الفرَّة، ولم يحتملوا ذُلاً قط فيميت قلوبهم ويصغر عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فيافٍ وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلط ولا العفن، ولا التخم. أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم لقول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرُّف الأنوار، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: حيواناتٌ في محميّات الكتب

ركن الورّاقين: تاريخ الأدب العربي كما رواه كارل بروكلمان