13-ديسمبر-2019

آغي بخشياهي/ إيران

 

على هامش أحد أيام الدوام والعمل الرسمي يدور حديث حول الشعر والكتابة، زميلة فاضلة تحدثني عن تجربتها في الكتابة وهي طالبة على مقاعد المدرسة، وكيف كانت معلمة اللغة العربية قاسية معها وتعاملت معها ببرود وسخرية عندما عرضت عليها ما اعتقدت أنه قصيدة. من المؤكد أنها لم تكن قصيدة كاملة الأركان، ولكنها لا شك في أنها كانت حاملة لبذرة الشعر.

هناك معاجم أصلًا ألفها أصحابها خدمة للشعراء وتوفير القوافي، مثل "القاموس المحيط" و"لسان العرب"

اقتصر دور المعلمة على قتل الموهبة، عدا ما سببته في نفس طالبة من حزن وانكسار. هذه الحالة من الإحباط وتكسير المجاديف موجودة في المدرسة وفي الجامعة وفي الأسرة وعند محرري الصحف. وربما قتل هؤلاء الكثير من المواهب، وفرصة ولادة شاعر جيد أو كاتب مهم.

اقرأ/ي أيضًا: هل الرواية مرض الثقافة المعاصرة؟

يمتد الحديث بيننا لأحدثها عن تجارب الشعر الأولى في حياتي، التجربة الأولى حيث كنت طالبا في المرحلة الإعدادية، وكتبتُ ديوان شعر كل ما ركزت عليه هو القافية، فجاءت كلمات بمعنى وأخرى كثيرة بغير معنى. هذا (الديوان) ضاع، وهم بحجم 32 ورقة دفتر مدرسي من النوعية الشائعة في الثمانينيات (دفتر الطالب). كتبت هذا الديوان متأثرًا بمختارات من شعر الرصافي، وهو كتاب استعرته من مكتبة المدرسة، نسخت قصائد الكتاب وكتبت على منوالها ما كتبت. وكنت حريصًا على أن أكتبه سرًا، وخشيت أن يطلع عليه أحد.

وأما التجربة الثانية فكنت طالبًا في الجامعة. كتبت ديوان وأسميته "أوتار على أنغام مقطعة". كنت أود نشره، استمر حلم إصداره يراودني طويلًا. وعندما زرت الشاعرة فدوى طوقان في أيار عام 1996 أسمعتها منه قصيدة فاكتفت بالتعليق: "فيها شعر". أعجبتني الإجابة من شاعرة كبيرة. ودار الحديث بيننا، وكنا ثلاثة زملاء، مع الشاعرة وأخبرتها أنني أنوي إصدار ديوان، فأجابت كلامًا لم يشجعني على ذلك، وقالت إن الشباب يستعجلون النشر. أو كلامًا بهذا المعنى. هذا الديوان أعدمته أنا بيديّ ولم ينشر منه شيء لا في أي ديوان ولا في أي موقع أو صحيفة حتى تلك القصيدة التي قالت عنها الشاعرة فدوى طوقان "فيها شعر" لم أعرف ما هي، ولم أجهد ذاكرتي لتذكرها.

كل ذلك أخبرته لزميلتي التي قصفت معلمة اللغة العربية نبتة الشعر الطرية في داخلها. كما حدثتها عن لعبة طريفة كنت ألعبها وأنا فتى مع نفسي تدرّبًا على القافية واستحضارها، إذ كنت أكتب مجموعة من الكلمات المتشابهة في نهاياتها على باب منزلنا مستخدما الطباشير القروية، قطع صغيرة من حجر الجير كنت أحصل عليها من صخرة جيرية موجودة في حديقة منزلنا الخلفية، كنت أجمع الكثير من الكلمات فإذا امتلأ سطح الباب أعود وأمسح ما كتبت؛ لأعيد جمع الكلمات من جديد وهكذا... حتى تشكّل وعي أوليّ لعلاقتي بالمفردات اللغوية واستشعار ما فيها من وزن وإيقاع.

خلال هذا الحوار سألتني زميلتي إن كنت أستعين بالمعجم للبحث عن القافية اللازمة، وطلبت مني الإجابة الصريحة إن كنت فعلًا أستعين بالمعجم. فأجبتها أن هناك معاجم أصلًا ألفها أصحابها خدمة للشعراء وتوفير القوافي، كالفيروزي أبادي وقاموسه المحيط، ولسان العرب لابن منظور اللذين كانا يهتمان بترتيب كلمات المعجم حسب القافية؛ خدمة للشعراء والناثرين الذين يستخدمون السجع. وأن هذه المدرسة في صناعة المعجم كانت بالفعل تنظر إلى حاجة الشعراء وكتاب السجع لمثل هذه الألفاظ، وحدثتها عن ضرورة الثروة اللغوية للشاعر وما قاله الشاعر مالارميه في ذلك، وما كان ينتهجه الشاعر محمود درويش وقراءاته في معجم لسان العرب بشكل متواصل. وما قاله أوكتافيو باث بضرورة صحبة القاموس للشاعر.

لكنني لم أكن أعود للمعجم إن احتجت قافية واستعصت عليّ، بل أعود لدواوين الشعراء والبحث في قصائدهم عن القوافي التي تتوافق كلماتها مع ما أحتاج إليه من مفردات، وخاصة المتنبي والبحتري وابن الرومي. ومع تطور الكتابة أقلعت عن هذه العادة، وذلك لأنني لم أكتب قصائد مطولة عمودية تضطرني لتنوع القافية حتى لا أقع في عيب "الإيطاء". وكذلك لم أعد بحاجة للقافية في كتابة قصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر الحديثة، ولكنني ما زلت أقرأ في دواوين الشعر للتزود بالألفاظ وزيادة الثروة اللغوية التي يحتاجها الشاعر والمحافظة على سلامة الإيقاع في لغتي حتى وأنا أكتب القصيدة الحديثة، لما في الثروة اللغوية من أهمية في اكتناز لغة الشاعر وتنوع معجمه اللفظي، هذا الجانب الذي اهتمت به بعض الدراسات وتتبعت المعجم اللغوي في دواوين الشعراء، وملاحظة تلك المفردات التي تتكرر في أشعارهم، وكشفت تلك الدراسات عن طبيعة لغة الشاعر وتمددها وتنوعها أو محدوديتها وفقرها، وهذا ما لاحظه بعض الدارسين أن لغة درويش ذات ألفاظ محددة، ولكنه يحتال للأمر بإعطاء تلك المفردات معاني سياقية غير معجمية، وهذا ما عملت عليه أيضًا في تتبع مفردة "القمر" في شعره في بحث قديم كنت قد تقدمت به منذ أيام الجامعة في مرحلة البكالوريوس استكمالًا لمساق "البحث العلمي".

الشعر موجود في كل شيء في هذه الحياة، وليس في القصائد وحدها، بل ربما افتقرت كثير من القصائد إلى الشعر

اقرأ/ي أيضًا: الشِّتاء وقت العلامة

كان هذا الحوار مع الزميلة الفاضلة قصيرًا، ولكنه كان نافعًا، وذا شجون وقدحة زناد للكتابة حول تجربة الكتابة الشعرية، على الرغم من أن تلك المعلمة كانت قاسية جدًا في تعاملها الفظ، لكنّ زميلتنا ما زلت تحب الشعر وقراءته، وتحرص على استدعاء أبياته في مناسبات كثيرة، وما زالت أيضًا تتذكر موقف تلك المعلمة التي سخرت منها ومن طموحها في أن تصبح شاعرة. وربما غدت شاعرة في مجال تخصصها، بالمعنى العميق للشعر الذي يُعنى بالأناقة والتنوع والحيوية والإتقان ورهافة الأسلوب وإيقاع الحياة الموزون والمتزن، فالشعر موجود في كل شيء في هذه الحياة، وليس في القصائد وحدها، بل ربما افتقرت كثير من القصائد إلى الشعر، لتجده في اللوحة والقطعة النثرية والقصة القصيرة، وفي مناحي الحياة المعيشة من مأكل وملبس وبيت وحديقة مزدانة بأنواع متعددة من الورود والأشجار، وقد تجده في الرياضيات والتاريخ والدين والجغرافيا في الوقت الذي تطلبه في مبحث اللغة العربية فلا تجد سوى قشور القصائد الميتة التي لا شعر فيها، ولا لغةٌ ولا إيقاع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السنوات الأخيرة في حياة تشارلز بوكوفسكي

رسائل همنغواي.. المواد الخام لأدب عظيم