12-يوليو-2023
فولتير وديدرو

فولتير وديدرو

يبرز اسما فولتير (1694 ـ 1778) ودنيس ديدرو (1713 ـ 1784) كنجمين لـ"عصر الأنوار العظيم". ومن الكلام المرسخ أن الاثنين كانا ضمن كوكبة العقول اللامعة التي صنعت الثورة الفرنسية، أو على الأقل: التي زرعت بذورها..

ديدرو عُرف كفيلسوف ومنظر سياسي ورئيس تحرير لأول موسوعة حديثة (إنسيكلوپيديا)، وفولتير كان فيلسوفًا وكاتبًا ساخرًا ومعلمًا ومرشدًا.. ولكن اللافت أكثر أن كليهما كان روائيًا أيضًا، وكليهما ساهم الفن الروائي في تخليد اسمه، بالقدر نفسه (وربما أكثر) الذي ساهمت فيه آثارهما في المجالات المعرفية الأخرى.

يقول ميلان كونديرا: "يمكن أن نفهم تاريخ الفلسفة بدون معرفة محاولات ديدرو كموسوعي كبير، لكني ألح: قد يبقى تاريخ الرواية غير مفهوم وغير كامل بدون رواية جاك القدري، بل أكثر من ذلك أقول بأن هذه الرواية يلحقها الضرر عندما يتم التعرض لها فقط في إطار مجموع كتابات ديدرو، وليس في سياق تاريخ الرواية العالمية".

ميلان كونديرا: "يمكن أن نفهم تاريخ الفلسفة بدون معرفة محاولات ديدرو كموسوعي كبير، لكني ألح: قد يبقى تاريخ الرواية غير مفهوم وغير كامل بدون رواية جاك القدري"

في "جاك القدري" (أو جاك المؤمن بالقدر) يقدم ديدرو نموذجًا لما ينطوي عليه الفن الروائي من إمكانات هائلة، وللحرية الشاسعة التي يتمتع بها، ولقدرته الكبيرة على دمج فنون وأنواع كتابية مختلفة: سرد حكائي، أمثولة، مقال فلسفي، نوادر، تأملات حرة.. وكذلك لقدرته على الجمع بين الخفة والرشاقة والغرض البهيج.. من جهة، وبين العمق الفكري وجدية المضمون من جهة أخرى.. وربما الأهم هو أن رواية ديدرو تثبت أن التجريب كان سمة رافقت هذا الفن منذ ولادته.

ثمة رجلان (السيد وخادمه جاك) يرتحلان على حصانين بلا هدف واضح، لا نعرف من أين قدما ولا إلى أين يذهبان. والراوي يقمع أسئلتنا عن الرجلين وعن رحلتهما، مؤكدًا أن هذا ليس من شأننا ولا يعنينا في شيء! المهم فقط هو الوقائع الدالة التي تحف بهما، والحكايات التي يرويانها، والشخصيات المنثورة على طريقهما، والحوارات المسهبة التي لا يكفان عن خوضها..

وفيم يتناقشان؟ في كل شيء تقريبًا، في القضاء والقدر، الحب، الحرب، الزواج، الموت، الصداقة، الخيانة، العلم، الأدب، معنى الحياة..

والراوي طريف وشقي، يطل برأسه بين الفينة والأخرى ليكسر "الإيهام" ويذكرنا بأنه سيد الرواية ومالك الأمر فيها، فلو أراد لجعل بطليه يقعان في حفرة، أو يموتان على أيدي قطاع طرق، أو يفترقان بلا رجعة.. ولو أراد أن يكمل الحكاية فهو يستطيع.. وهو يستطيع أيضًا أن يقطعها متى شاء، بل وأن يكف تمامًا عن سردها..

والواقع ان أسلوب الراوي هذا لم يكن للهو فقط، وكذلك لم يكن من أجل التجديد وحسب. لقد أضاف إلى الرواية نكهة خاصة، بل أنه كان هويتها وجوهرها، فهو الذي جعلها على هذا القدر من الرشاقة والمرح، وهو الذي جعلها تقفز بين الحكايات والشخصيات والأمكنة بسلاسة متناهية.. كما أنه استطاع تبرير الوقفات التأملية والنقاشات الفلسفية التي احتلت صفحات كثيرة دون أن تبدو مقحمة ودون أثر للإملال.

وجاك شخصية لا تقل طرافة، هو نصف فيلسوف، ويسعى طوال الرحلة لسرد حكاية غرامياته لمعلمه، إلا أنه يقاطع على الدوام بشخصيات تظهر لهما على الطريق، رجال ونساء لديهم حكاياتهم أيضًا.. وهكذا تبدو حكاية جاك وكأنها واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة.. بلا نهاية ومفتوحة على ألف حكاية وحكاية.

الرشاقة والخفة والسرعة والرحابة والانفتاح على التجريب.. كانت أيضًا سمات رواية فولتير "كانديد أو التفاؤل"، والتي يقال أن الفيلسوف الفرنسي كتبها في بضعة أيام (عام 1759)، لتغدو، مع ذلك، واحدة من كلاسيكيات الرواية العالمية.

الرشاقة والخفة والسرعة والرحابة والانفتاح على التجريب.. كانت سمات رواية فولتير "كانديد أو التفاؤل"، والتي يقال أن الفيلسوف الفرنسي كتبها في بضعة أيام لتغدو، مع ذلك، واحدة من كلاسيكيات الرواية العالمية

كانديد ورفاقه يجوبون العالم في مغامرات لا تنتهي، يشهدون حروبًا طاحنة، ويقعون في الأسر، ويعملون في البحر، ويصبحون لفترة عبيدًا، ثم ملاكًا أثرياء.. حتى أن بعضهم يتعرض للشنق أو لطعنة قاتلة أو لمرض مميت، ثم بقدرة قادر يعود إلى الحياة وينضم إلى ثلة الأصدقاء ليتابع تفلسفه وتأملاته الميتافيزيقية..  

وفولتير يحقن أبسط الشؤون الدنيوية وأكثر النقاشات ابتذالًا بجرعة عالية من الفلسفة. وأنت معه، وبعدوى منه، تتفلسف فيما تتسلى، أو بالأدق: تتسلى بالفلسفة.. ما يذكر بقول أناتول فرانس عن الرواية: "لقد كان القلم يجري ويضحك بين أصابع فولتير". وقلم فولتير الضاحك نجح في جعلنا نضحك، وأين يمكن للفلسفة أن تفعل ذلك إلا في رواية.

يحيط التجهم بالرواية اليوم، وهناك من يستعد لكتابة نعيها. ويقال إن الفن الروائي قد استنفد طاقته وإمكاناته، وإنه أغلق الدوائر على نفسه.. وربما نظرة إلى الوراء، إلى القرن الثامن عشر، زمن ديدرو وفولتير، تدحض هذا التشاؤم، وتؤكد أن الوعود التي بشر بها الرواد لا تزال ماثلة في الأفق، وأن الإمكانات الهائلة التي كشفوا عن جزء منها هي أبعد ما يكون عن النضوب.