16-مارس-2023
غرافتي لـ فولتير في ميزون الفرنسية

غرافتي لـ فولتير في ميزون الفرنسية

استُقبل فولتير، عندما عاد أواخر أيامه إلى باريس، كواحد من الأباطرة العظام. وقد أثارت مظاهر الحفاوة والتكريم غيرة الملك الفرنسي، لويس السادس عشر، وحركت أحقاده. 

وفي طريقه إلى الأكاديمية الفرنسية، احتشد الآلاف وعلت الهتافات وأُسبغت الألقاب العفوية على فيلسوف التنوير العائد، بل إن العشرات امتطوا العربة ومزقوا عباءته (كانت هدية ثمينة من كاترين ملكة روسيا) لكي يحتفظ كل منهم بقطعة منها، للذكرى والتبرك.

كان فولتير (1694 ـ 1778) عنوانًا عريضًا لعصر بأكمله، وكانت حياته وفلسفته ومؤلفاته وأقواله المأثورة تكثيفًا لقرن الأنوار، القرن الثامن عشر. وكان هو وعدد من معاصريه ذوي الأسماء العظيمة (ديدرو، مونتسيكيو، كوندرسيه، روسو..) من مهدوا الأرض التي لا تزال أفكارنا ومخيلتنا تعيش عليها وتتغذى من نبتها.

فولتير كان فيلسوفًا وكاتبًا ساخرًا ومعلمًا ومرشدًا.. وكان روائيًا أيضًا. ففي يوم من عام 1759 جلس إلى مكتبه ليؤلف رواية، فكانت "كانديد أو التفاؤل"، والتي يقال أنه أنجزها في ثلاثة أيام وحسب

فولتير كان فيلسوفًا وكاتبًا ساخرًا ومعلمًا ومرشدًا.. وكان روائيًا أيضًا. ففي يوم من عام 1759 جلس إلى مكتبه ليؤلف رواية، فكانت "كانديد أو التفاؤل"، والتي يقال أنه أنجزها في ثلاثة أيام وحسب، لتغدو، مع ذلك، واحدة من كلاسيكيات الرواية العالمية. 

كانديد شاب وسيم وطيب القلب، نشأ في قصر قريبه البارون دي تندرين ترنخ، في فستفاليا بألمانيا، ومبكرًا صار قلبه البريء ينبض بحب ابنة البارون الفاتنة، كينجوند، كما صار عقله الساذج أسيرًا لفيلسوف وستفاليا والمرشد الفكري والروحي لسكان القصر، الحكيم بانجلوس، والذي كان يسهب في شرح نظريته المتفائلة عن هذا العالم الرائع، مكررًا أنه ليس عالمًا حسنًا فقط، بل أنه أحسن العوالم الممكنة، إذ أن كل شيء في مكانه الصحيح، وكل شيء يحدث إنما يحدث لغاية عظيمة. وكان يقول: "لقد ثبت بالبرهان أن الأشياء لا يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه. لأنه ما دام كل شيء قد أعد لغاية فقد أعد حتما لأحسن غاية. لاحظ مثلًا أن الأنف أعد ليحمل نظارة ولذلك وجدت النظارة، وواضح أن السيقان صورت على هذا الشكل لنلبسها سراويل ومن ثم كانت لنا السراويل..".

ولقد آمن كانديد بفلسفة أستاذه المتفائلة، وربما كان ليحملها معه حتى آخر يوم في حياته، لولا أن القدر أجبر الفتى على اختبار أفكار الفيلسوف على محك الواقع القاسي والذي لا يعبأ كثيرًا بالأفكار المسبقة الطيبة.

طُرد كانديد من القصر بعد أن ضبطه البارون يقبل ابنته الجميلة، وهام على وجهه متنقلًا من مدينة إلى مدينة، بل من قارة إلى قارة، إذ جال أوروبا وبلدانًا في أمريكا اللاتينية وأراض في السلطنة العثمانية.. وفي رحلته الطويلة هذه اختبر كل أنواع الشرور في العالم: الحرب والعبودية والخيانة والغدر والقرصنة والطغيان.. ووسط كل ذلك كان صوت بانجلوس لا يني يردد: "كل هذا لغاية رائعة وإن كانت خفية.. كل ما يحدث حسن حتى ولو بدا شرًا.."، أما كانديد فلا يتوقف عن مواجهة كل ما يدحض هذه العبارات المتفائلة ويحولها إلى مثار للسخرية.

ولكن هل انتهى كانديد إلى التشاؤم بعد أن نفض يديه من تفاؤل معلمه الساذج؟ هل هذا ما أراده فولتير: التبشير بالتشاؤم؟.

في نهاية الرواية يلتم شمل كانديد وحبيبته كينجوند وأستاذه بانجلوس، ويستقرون، مع آخرين، في مزرعة صغيرة بالقرب من القسطنطينية. وهناك يقضون أيامهم بالاسترخاء الكسول والخوض في نقاشات ميتافيزيقية عن لغز الكون ومعنى الحياة وأصل الشر.. ثرثرة بلا نهاية تفضي بهم إلى السأم الشديد، فتتساءل الخادمة العجوز: أيهما أسوأ، أن نقاسي كل الشرور التي قاسيناها أو أن نجلس هنا بلا عمل يشغلنا؟. فيرد أحد رفاق كانديد واسمه مارتن: "إن الانسان ولد ليعيش في رجفات من القلق أو في خدر وثبات من الملل".

وفي يوم ينزلون ضيوفًا على شيخ تركي صاحب مزرعة في الجوار، فيغدق عليهم بسخاء من ثمار مزرعته. يسأله كانديد: "لا بد أن لك أرضًا خصبة فسيحة". يجيب التركي: "لا أمتلك إلا قطعة أرض تبلغ نحو قيراطين ونصف قيراط أزرعها بمعونة أولادي. فالعمل يجنبنا ثلاثة شرور عظيمة: الملل، والرذيلة، والفاقة".

يعتبر كانديد ورفاقه أن هذا درسًا لهم، فيقول مارتن: "هيا بنا نعمل دون نقاش، فالعمل هو الوسيلة الوحيدة لجعل الحياة محتملة". وهذا ما كان بالفعل، اذ توزع الرفاق العمل فيما بينهم، فازدهرت المزرعة وصارت تنتج غلالًا وفيرة. وعندما عاد بانجلوس ليكرر حكمته عن العلة والمعلول وأفضل العوالم الممكنة.. رد كانديد بالقول: ربما تكون على حق "ولكن يجب أن نزرع حديقتنا".

إيتالو كالفينو: "أكثر ما يبهجنا اليوم في رواية كانديد ليس كونها "قصة فلسفية"، ولا هزليتها، ولا ظهور القيم الأخلاقية ورؤية العالم، بل يبهجنا إيقاعها، التسارع والخفة، وتعاقب النوائب والعقوبات والمجازر في صفحة"

هذه العبارة، والتي كتب لها الخلود، ربما هي العنوان الأبرز للرواية، ولعلها تصلح لأن تكون الخلاصة الفلسفية المكثفة لما أراد فولتير قوله. إن العالم أكثر تعقيدًا من أن تختزله حكمة أو فلسفة أو مذهب.. وقد نقضي أعمارنا نبحث سدى عن معنى الحياة ولغز الكون وهدف الخلق.. ولكن الأجدى أن نعيش الآن وهنا، أن نعمل ونعمل ونعمل فنحسن من أنفسنا ونساهم في تحسين العالم.

يقول ول ديورانت، في كتابه "قصة الفلسفة"، إن فولتير كتب هذه الرواية متأثرًا بحدث كبير هو زلزال لشبونة الذي وقع سنة 1755 وأودى بحياة ثلاثين ألفًا من السكان، وقد استفز الفيلسوف الفرنسي يومها ما ذهب إليه المتدينون من أن الزلزال هو عقاب إلهي على خطايا البشر. فكتب قصيدة يسخر فيها من هؤلاء، متحدثًا عن هذا العالم المليء بالألم والمعاناة، والمسكون بالشقاء. ولقد رد جان جاك روسو في مقالة، مفندًا شكوى فولتير وواضعًا اللوم على الناس، فلو "عشنا في الحقول خارج المدن، ولم نعش في المدن، لما بلغت الخسارة في القتلى هذه النسبة العالية، ولو كنا نعيش تحت السماء، لا في البيوت، لما سقطت البيوت علينا". وحققت مقالة روسو القاسية والساخرة انتشارًا واسعًا، ما جعل فولتير في موقف محرج، فجاء رده عبر رواية "كانديد".

كذلك ثمة إجماع بين الدارسين على أن المقصود بشخصية بانجلوس هو الفيلسوف الألماني لايبنتز (1646 ـ 1716) والذي قال بنظرية (أفضل العوالم)، وبالتالي فرحلة كانديد ما هي إلا اختبار روائي لهذه النظرية.

هذا عن المضمون الفلسفي، فماذا عن الرواية نفسها، عن الفن الروائي؟

يقول الروائي الفرنسي الشهير، أناتول فرانس، عن الرواية: "لقد كان القلم يجري ويضحك بين أصابع فولتير".

وفي كتابه "لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي" يقول إيتالو كالفينو: "أكثر ما يبهجنا اليوم في رواية كانديد ليس كونها "قصة فلسفية"، ولا هزليتها، ولا ظهور القيم الأخلاقية ورؤية العالم، بل يبهجنا إيقاعها، التسارع والخفة، وتعاقب النوائب والعقوبات والمجازر في صفحة، ووثبها من فصل إلى آخر، وتشعبها وتضاعفها دون استدرار عاطفة القارئ، وفيما سبق أهمية أولية تبعث السرور في النفس".