03-أكتوبر-2015

ميلان كونديرا

يستند ميلان كونديرا إلى رؤية هيرمان بروخ حول مبرر الرواية، كي يؤسس انطلاقًا منها رؤيته حول مستقبل هذا الفن، إذ يشاركه عناده في كون مبرر الرواية: هو ما يمكن للرواية، وحدها، دون سواها أن تكتشفه، أي بتعبير أكثر وضوحًا، الرواية هي اكتشاف الوجود. ويؤلف "تتالي الاكتشافات" ما يمكن أن نسميه تاريخ الرواية. 

الرواية هي نموذج العالم، تقوم على نسبية وغموض الأشياء الإنسانية

يتشكل تاريخ هذا المنتج الأوروبي، كتاريخ موازٍ للأزمنة الحديثة، أي أنّ الرواية، هي نموذج العالم، تقوم على نسبية وغموض الأشياء الإنسانية. وبالتالي، إن وضعنا هذا الفن في مواجهة الحياة في الأنظمة الشمولية، على أية حقيقة سوداء سوف نقع؟

يخبرنا كونديرا بناء على تجربته، بأنّ كلًا من العالم القائم على الحقيقة الوحيدة، أي عالم الأنظمة الشمولية، وعالم الرواية النسبي والغامض، كلاهما معجون من مادة مختلفة اختلافًا كليًّا، فالحقيقة الشمولية تستبعد النسبية، والشك، والتساؤل، ولا يسعها أن تتصالح مع "روح الرواية". وعلى هذا النحو، من الطبيعي أن نجد الروايات في ظلّ الأنظمة الشمولية، وهي تواجه المنع والرقابة والضغط الإيدلوجي، تتوقف عن المساهمة في تتالي الاكتشافات، حيث نجد مئات الروايات، ما هي إلا تكرار لما قيل سابقًا، دون إضافات لا على صعيد الشكل، ولا على صعيد المحتوى. لا بل، أحيانًا لا تكتفي الرواية بأن تقول ما قيل فحسب، بل تقول ما يجب قوله، وما يفرض عليها. عند ذلك فإنّها تعيش خارج تاريخها، تموت ببطء وهدوء. وبوصف كونديرا فإنّها تعيش "ما بعد تاريخ الرواية".
 
مجددًا، يضع كونديرا الرواية في مواجهة، غير عادلة، مع الحلم الإنساني، بتوحيد تاريخ الكوكب الأرضي، والذي ترافق مع عملية "تقليص مدوخّة" بحيث تُقلَص قصص الحب إلى ذكريات هزيلة، وحياة الشعوب إلى عدد من الأحداث التاريخية، تُقلَص بدورها إلى تفسير متحزب، في ظلّ تَقلُص الحياة الاجتماعية إلى صراع سياسي، والإنسان إلى وظيفة اجتماعية، أي أنّ الحلم الإنساني بتوحيد تاريخ الكوكب، لم يُقلِص، فقط، معنى العالم وإنّما معنى المبدعات أيضًا، إذ تتواجد الرواية في وسائط الإعلام الحديثة، والتي تخدم فكرة توحيد تاريخ الكرة الأرضية، وتوزع في العالم نفس التبسيطات والصيغ الجاهزة، التي تعيش على "روح مشتركة" هي روح عصرنا، وهي روح مضادة لروح الرواية القائمة على التعقيد، والاستمرار، بحيث "كل مبدع هو جواب عن المبدَعات السابقة".

لكن روح عصرنا هي من الاتساع والضخامة، بحيث باتت تقلص الزمان إلى الهنيهة الراهنة وحدها. إن الرواية وقد تضمنتها هذه المنظومة لم تعد مبدعاً، وإنما حدث من الأحداث اليومية، و"إشارة بلا غد".

بعد تلك النظرة المتشائمة لمستقبل هذا الفن، لا سيما وأن انتظارنا إنصاف المستقبل هو امتثال الجبان للقوي، يسأل كونديرا نفسه، بمن أربط نفسي؟ بالإله؟ بالوطن؟ بالشعب؟ بالفرد؟ يذكر جوابه "الصادق والسخيف"، على حد تعبيره، بأنّه لا يرتبط سوى بميراث ثيربانتس، والذي يعتبره ميلان كونديرا، مؤسس الأزمنة الحديثة.