29-سبتمبر-2015

قبر فولتير في باريس (Getty)

أسكن في بلدة فرنسية صغيرة على أطراف مدينة جنيف السويسرية، وعلى بعد نحو خمس دقائق فقط بالسيارة من بحيرة جنيف، أو بحيرة ليمان كما يفضل الفرنسيون تسميتها. ولقد كنت محظوظاً بهذه البلدة، إذ لديها ما يميزها عن مئات القرى الفرنسية المغمورة الأخرى، ولعل أنسب ما أبدأ به الحكاية اسم القرية وهو: "فيرني ــ فولتير". هل يبدو الإسم مألوفًا؟ الإجابة ستكون قطعًا بالإيجاب إن كنت قد سمعت من قبل بالفيلسوف والأديب والكاتب الفرنسي فرانسوا ماري أرويه الشهير باسم "فولتير".

في فيرني انتقل فولتير للسكن إلى جانب خصمه جان جاك روسو

اكتسبت "فيرني" لاحقًا اسمها "فولتير" لسبب بسيط، وهو أن فولتير جاءها يومًا ما من جنيف المجاورة لأسباب ستُذكر لاحقًا، ليقيم فيها مدة قاربت العشرين عامًا، مخلفًا لنا قصرًا جميلًا شاهدًا على حياته وعزلته شبه الكاملة، والتي احتاج لها أديب بإسهاماته ومؤلفاته الكثيرة. ولقد كان الوجود في هذه البلدة فرصة ذهبية لزيارة قصر فولتير، الذي يحتل اليوم مكانًا مهمًا على خارطة جنيف السياحية كواحد من المعالم القريبة للمدينة. ولقد أجلت زيارتي له سنة كاملة بعد أن فاتني وقت الجولات التي يكون مرافقها متحدثًا بالإنجليزية العام الفائت، فآثرت الانتظار عامًا كاملًا في سبيل الحظو بمتعة غير منقوصة عند زيارة القصر، وللتأكد من كونها أكثر من مجرد فُرجة على بعض قطع الأثاث القديم. 

قصر فولتير
قصر فولتير

 

ما إن تدخل قصر فولتير حتى تشاهد في بهو المدخل تمثالين متقابلين، أحدهما لفولتير والآخر لأحد أهم معاصيره من الكتاب، وهو الكاتب الجنيفي (نسبة إلى جنيف) جان جاك روسو. يمكن للزائر المطلع على سيرة فولتير أن يدرك بسهولة أن هذه التمثالين، أو على الأقل الخاص بروسو، قد وُضعا بعد وفاة فولتير في القصر، وذلك لأن علاقة فولتير بروسو كانت أشبه بالعداوة المستحكمة. فعلى ذمة مرشدتنا الفرنسية، فإن جان جاك روسو كان في شبابه من المُعجبين بكتابات فولتير، وقد دفعه إعجابه هذا إلى إرسال رسائل عديدة لفولتير راجيًا أن يتجاوب هذا الأخير معها، إلا أن فولتير استمر في تجاهله فترة كافية لجعل روسو يبعث برسالة أخيرة ببعض الشتائم على أمل استرداد شيء من كرامته التي أهدرها تجاهل فولتير له، ومن هنا بدأت عداوة الرجلين، والتي ازدادت تأججًا بانتقال فولتير إلى جنيف، أي إلى ساحة روسو الطبيعية ومنطقة "نفوذه" الثقافي. لربما في الأمر عبرة وهو أن تجاهل بعض الرسائل في بريدك الإلكتروني اليوم، قد يكون مكلفًا أكثر مما تتصور. 

لم يكن فولتير ملحداً ولم يكن "مؤمنًا" وفق أي طريقة تقليدية في عصره

في قصره الكبير الذي يعكس حياة مترفة حظي بها ووفرها له ما يقارب العشرين من الخدم، أمضى فولتير وقته بين كتب مكتبته التي تجاوزت السبعة آلاف كتاب، وفي استقبال الضيوف من النخب المثقفة، واللهو مع ابنة أخيه التي اتخذها كخليلة، بالإضافة إلى لعب الشطرنج، والاستمتاع بدفء الشمس تارة وبدفء مدافئ قصره الكثيرة تارة أخرى، فضلاً عن مكابدة آلامه النفسية والروحية سواء بكرهه لمنافسيه كجان جاك روسو أو ببحثه عن المعنى والجدوى لكل هذا العالم، هنا كان فولتير يظن نفسه إلهًا كما أظهرت لوحته المفضلة التي تصدرت إحدى غرف القصر.

فولتير عجوزا
فولتير عجوزا

 

كل شيء داخل قصر فولتير يشي بنرجسية عالية لدى الرجل، وهو ما قد يبدو طبيعيًا للوهلة الأولى إذ إن بيت أي إنسان هو مملكته التي يتربع على عرشها، فضلاً عن عبقرية فولتير التي آتته نصيبه الطبيعي من الشعور بالأنا العليا، لكن الأمر ذهب أبعد من ذلك -على ما يبدو- كنتيجة لإيمان الرجل بما حسبه "حرية" الإنسان في وجه كل أشكال التعصب التي من أهمها "التعصب الديني".

لم يكن فولتير ملحداً ولم يكن "مؤمنًا" وفق أي طريقة تقليدية في عصره، ولطالما تصادم في حياته مع المذاهب الدينية المختلفة، فقد هجر جنيف لمنع مذهب بروتستانتي للمسرح فيها، كما انتقد بشدة الكنيسة الكاثوليكية. يبدو أن فولتير كان مؤمنًا بدين خلقه لنفسه من مجموع ما اعتنقه من أفكار، رغم أنه للمفارقة قام ببناء كنيسة تقليدية لأهل بلدة فيرني.

يعتبر فولتير اليوم من روّاد المدافعين عن "الحقوق المدنية"، وكانت قضية عائلة "كِلِس" واحدة من أهم الأسباب الدافعة لذلك، وهي قضية تبناها فولتير -كمحامٍ- وفاز بها لإعادة الاعتبار لعائلة فرنسية بروتستانتية، أُعدم الأب فيها بعد أن اتهم بقتل ابنه -الذي مات منتحرًا كما تنقل بعض الروايات- لنيته اعتناق الكاثوليكية، وهو الدين الرسمي لفرنسا وأكثرية سكانها آنذاك. وقد كان فولتير مزهوًا جدًا بإنجازه في هذه القضية إلى حد أنه كان يضع صورة عائلة كِلِس وهي حبيسة الدير قبل تحقيق "العدالة" ورد الإعتبار إليهم، كان يضعها فوق سريره مباشرة كما تُظهر إحدى الصور المرفقة، وهو المكان الذي يضع فيه المسيحيون عادة صليبًا، في إشارة ربما لمعتنقه الأهم وهو مواجهة "التعصب الديني"، في حين لم ينس أن يُرضي قلبه بصورة لحب عمره الماركيزة دو شاتولييه قبالة سريره، كي يكون وجهها آخر وأول شيء يراه قبل وبعد النوم!

خلق فولتير كتابه المقدس الخاص به من مجموع الصفحات التي كان يعجب بمحتواها من مختلف قراءاته الأدبية والفلسفية، إذ كان يمزقها ويجمعها معاً ويعود إليها كلما شعر بالضيق والخواء الروحي أو النقص في منسوب "الإلهام". ولعل اللوحة التي وجدتُ اسم "يوم القيامة" جيداً لوصفها، تمثل ذروة التمظهر الفرعوني الطبيعي لدى كل إنسان، إذ وصل الاعتزاز "الإلهي" بفولتير إلى تصوير مشهد يوم القيامة كما تشتهي نفسه، فاختار إطارًا مختلفًا للوحة من النوع الذي لا يشتت إنتباه الناظر عنها، ثم جعل من نفسه في قلبها بوجهين يمثلان شبابه وكهولته، وقد توجه إليه "إله" إغريقي لتكريمه على إنجازاته الفكرية التي كان فولتير واثقًا جدًا من عبورها للأجيال القادمة وخلود ذكره في العالمين بسببها! ولم يفت فولتير أن يضع على يمين اللوحة الجحيم التي وضع فيها كل خصومه الفكريين مميزًا إياهم بأهم مؤلفاتهم، وفي الجهة المقابلة وضع أصدقاءه في جنة الفردوس، والمفارقة أن من بينهم ملكة روسيا آنذاك وملك فرنسا لويس السادس عشر زوج ماري أنطوانيت!

خلق فولتير كتابه المقدس الخاص به من مجموع الصفحات التي كان يعجب بمحتواها

من المثير أن فولتير جعل جنة عدن كمصير أخروي للويس السادس عشر، وهو المبغوض من عامة الشعب، لأنه -على الأرجح- كان يرغب في السماح له بالعودة إلى باريس التي نفي منها سابقًا، على الأقل على ذمة مرشدتنا الفرنسية! كم هو مثير للدهشة أن يتملق فولتير للويس السادس عشر الذي فصل الثوار الفرنسيون رأسه بالمقصلة إبان الثورة، في حين أن الفرنسيين يعدونه اليوم أحد أهم من نظّر لثورتهم على الملكيّة! كم هو ملفت أن تعرف أن هذا المنظر الثوري -مآلاً على الأقل- كان يعيش عيشة أقرب للملوك منها للمسحوقين ممن اقتحموا الباستيل في ذاك اليوم المشهود! 

مكتبة فوتير
مكتبة فولتير

 

كل هذه الخواطر مرت في ذهني وأنا أتجول في القصر، دون عقد نية مسبقة لاستحضارها، فقد كنت فعلًا خالي الذهن من كل شيء سوى الرغبة بتمضية وقت ممتع والاستمتاع بشمس عصر ذاك اليوم، ووجدتني بشكل تلقائي أرى في فولتير نموذجًا للإنسان، سواء أكان مثقفًا أم لم يكن، الإنسان الذي يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، فولتير الذي "استحل" مساكنة ابنة أخيه وجعل من نفسه إلهًا يرسم خطة اليوم الآخر ونافق السلطة بوصولية لدى حاجته لذلك، هو مثال كلاسيكي للإنسان الخطاء الذي يستطيع أن يطغى حتى لو أظهر أكثر المشاعر والمواقف نُبلاً في ما وافق هواه ومبتغاه. فولتير، أحد وجوه "عصر الأنوار"، أراني إلى أين يمكن أن يصل الإنسان حين يعتمد على عقله فقط ناشدًا الحرية، فلا يجد نفسه إلا أسير شهواته وطموحاته والأنا الفرعونية التي تأبى الإنكسار للإله الأسمى -الذي آمن بوجوده فولتير- إلا عند الإضطرار لمكابدة مياه يمّ هذه الحياة.

سرير فولتير
سرير فولتير

 

حديقة قصر فولتير
حديقة القصر

 

أمام قصر فولتير
أمام القصر