05-ديسمبر-2016

الجامعة الأردنية في عمان (موقع الجامعة)

اشتريت قبل مدّة قصيرة كتاب "فلسفة اللغة العربية" لجبر ضومط المعلّم الفذّ واللغوي الممتع الذي أضعه دومًا في مرتبة أدباء العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من أمثال الرافعيّ والمنفلوطي والنشاشيبي والطهطاوي وطه حسين وجبران وغيرهم، وبدأت بقراءته حينها ثم شغلت بأمورٍ طويلة حتّى أنا مللت من إخبار الأصدقاء من حولي بخبرها لشدّة ما طالت عليّ وقطعتني عنهم وعن الكتب التي ما زال عليّ الانتهاء من كثيرٍ والنظر فيها. ولكنّي ما استطعت رغم الانشغالات التي توالت عليّ من ترك كتاب الرجل والنظر في آرائه في اللغة والجديد والقديم ومكانة العربيّة بين اللغات الحديثة وما حازته من قيمة في عهد العثمانيين، بالإضافة إلى ما طرقه في الكتاب من أمور تتعلّق بالترجمة والتعريب وفلسفة اللغة العربيّة.

إن كان التقصير بحقّ الأموات معيب، فالتقصير بحقّ الأحياء أشدّ عيبًا

ولكنّي لن أشرع هنا في عرض ما جاء في هذا الكتاب الهامّ ولا مراجعته ولا ذكر ما أفدته منه، فليس هذا مكانه. ولكنّي حين أقرأ كتابًا فيعجبني، لا سيّما من كتب أجدادنا علماء اللغة وأرباب الأدب الذين حفظوا لنا هذا اللسان وعلّموه لجيل واسع ممّن قامت عليهم النهضة الأدبية مطلع القرن العشرين، أجدني أذهب فورًا إلى محرّك البحث في غوغل لأرى ما أجد فيه عن المؤلّف. وهذه عادة قد تكون من أقبح ما لديّ، إذ كثيرًا ما تصرفني عن القراءة إلى الكتابة، فإن لم أجد مثلًا أية معلومة وافية عن المؤلّف في الإنترنت أجد نفسي وقد بدأت بكتابة مادّة قصيرة عنه ممّا توفّر لديّ من معلومات. وبالفعل، ما وجدت عن ضومط سوى القليل ممّا لا يفي الرجل حقّه من مادّة موضوعيّة عنه وعن حياته وقررت جمع معلومات عنه لأكتب مادّة في ويكيبيديا أو غيرها من الموسوعات العربيّة المفتوحة.

اقرأ/ي أيضًا: سليم البيك.. في مخيمات العالم

لكن إن كان التقصير بحقّ الأموات معيب، فالتقصير بحقّ الأحياء أشدّ عيبًا. فقد تتلمذت في الجامعة الأردنيّة على يد أساتذة كبار في قسم اللغة الإنجليزيّة، يشكّلون بالإضافة إلى إنجازاتهم الأكاديميّة الهامّة، تاريخًا حيًّا (حتّى الآن) للحياة الأكاديميّة في الأردنّ وفلسطين، وتشكّل علاقاتهم وتجاربهم مع الأدباء والمفكّرين العرب وغيرهم ثروة عظيمة ولكنّها معرّضة للضياع والاندثار إن ابتلانا الزمان بفقدهم قبل تدوين شهاداتهم وحفظ صوتهم.

وهذه الأخيرة، حفظ الصوت، من أشدّ ما يخيفني ويؤلمني. فهنالك أساتذة شارفوا على الثمانين، ولهم أسفارٌ في التأليف والترجمة والنقد، ولا تجد لهم محاضرة مسجّلة ولا صوتًا مسموعًا. أحاول منذ سنوات مثلًا أن أرتّب لأمر مثل هذا مع عدد من كبار الأساتذة من أمثال محمّد شاهين، والذي كان رفيقًا لمحمود درويش وإدوارد سعيد وترجم درويش إلى الإنجليزيّة وأشرف على رئاسة تحرير المجلّة الثقافيّة في الجامعة الأردنيّة سنوات عديدة، أو محمّد عصفور تلميذ جبرا إبراهيم جبرا ورفيقه ومترجم أعماله، وغيرهم من أساتذة الرعيل الأوّل في الجامعة الأردنيّة الذين لا تجد لهم محاضرة مسجّلة ولا صوتًا مسموعًا في عصر التقنية الذي نحن فيه.

هنالك أساتذة بجامعة الأردن شارفوا على الثمانين، ولهم أسفار في التأليف والترجمة والنقد، ولا تجد لهم محاضرة مسجلة ولا صوتًا مسموعًا

وقد رحت من باب الفضول يومًا أسأل طلابًا في مرحلة البكالوريوس في الجامعة الأردنيّة عن هؤلاء الأساتذة الكبار، وإن كان أحد منهم قد سمع بهم أو قرأ لهم، فلم أتعجّب حين لم أعثر على أحدٍ يعرف هؤلاء الأساتذة، ولكنّي أصبت بخيبة أمل وانتابتني حسرة شديدة.

وكنت مرّة قد أتيحت لي فرصة مرافقة رئيس الجامعة الأردنيّة السابق أثناء زيارة له للجامعة التي عملت بها في تركيا، وقد طرحتُ هذا الأمر في حضوره، وذكرت له أنّه حريّ برئاسة الجامعة أن تولي اهتمامًا أكبر بحفظ ذكر هذه النخبة من الأساتذة المخضرمين، وأن تعقد لهم محاضرات تكريميّة ولقاءات مصوّرة وأن تحفظ ذاكرتهم من النّسيان، قبل أن تنسى كأنّها لم تكن. ولكنّي أعرف أنّ الرئيس لم يصغِ لما قلت، لأنّ الجامعة حينها كانت مشغولة في افتتاح سوق تجاريّ كبير ومطاعم داخل حرمها لزيادة مداخيلها الماليّة.

صحيحٌ أنّ ما كتبه هؤلاء الأساتذة كفيلٌ بتخليد ذكرهم، وهيهات أن يُمحى، لكن إن كنّا قد قصّرنا قديمًا في حقّ ما قضى منهم فما زالت لدينا الفرصة لتجاوز هذا التقصير مع من يزالون بيننا منهم. وإنّ ضياع ذاكرة أيّ إنسان هي خسارة كبيرة للبشريّة، فكيف بخسارة ذاكرة أدباء ومفكّرين أفنوا حياتهم في الدرس والأدب والكتابة.

اقرأ/ي أيضًا:
موديانو والنافذة التي تشبه المقصلة
 8 أعمال روائية من أدب السجون العربي
رواية المُدمن.. صورة بانورامية للعالم السفلي