16-نوفمبر-2015

غرافيتي في شارع الفن، في مصر الجديدة

* هذا المقال يستطيع أن يعد بشيء واحد: أنه سيتحدث عن المثقف دون أن يذكر إدوارد سعيد أو جرامشي.

في الأوقات التي تتحدّث فيها السلطة عن ضرورة تحلي الفقراء والمتضورين جوعًا بالصبر؛ لأنه ليس بالإمكان الآن أن تُحل مشاكلهم بضغطة زر، يمكنك أن تأخذ جولة سريعة جدًا داخل الفنادق المطلة على النيل في القاهرة ببناياتها العملاقة الشاذة عن المشهد، لن يكون الغرض من الجولة بكل تأكيد هو مطالعة حياة الأثرياء الأغبياء المسرفين القاطنين بتلك الفنادق والتأسف على التناقض الكوميدي بينهم وبين الفقراء المطالَبين بالصبر في الخارج، وإنما سيكون هدف الجولة هو متابعة القاعات المخصصة لعقد المؤتمرات في تلك الفنادق. 

لأسباب سلطوية وجد المثقف نفسه مُبرزًا، وقد أُثقل كاهله بصورة سحرية تتعلق بدوره الذي لا يعرف أحد كيف يصفه بالتحديد

يوميًا سيجد المرء تلك القاعات محجوزة لمؤتمرات يُدعى إليها "المثقفون" ليناقشوا أمورًا عدة لا تخلو من ذكر هؤلاء الكادحين القاطنين خارج قاعة مؤتمرات الفندق، مؤتمرات تحت عناوين من قبيل "العدالة الاجتماعية" و"العدالة الانتقالية" و"مصر بين ثورتين" و"آمال المرأة العربية" و"محدود الدخل إلى أين".. إلخ. يقوم كل مثقف من المثقفين المتحدثين الذين يتواجدون في تلك القاعات بشكل شبه يومي بإلقاء كلمة مملة، وربما لو كان المقابل المادي أكبر يكتبون ورقة يجمعون فيها عدة عبارات من أبحاث سخيفة كانوا قد كتبوها قبل ذلك بسنوات، ومن ثم يجلس مجموعة من الطامحين في "الصعود الاجتماعي على سلم الثقافة" يستمعون ويقاومون الملل إلى أن يأتي الموعد المقدس "موعد البوفيه".

لأسباب سلطوية عديدة وجد المثقف نفسه مُبرزًا، وقد أُثقل كاهله بصورة سحرية تتعلق بدوره الذي لا يعرف أحد كيف يصفه بالتحديد أو يعرف كنهه، ولأنه دور سحري؛ كان بالإمكان أن يُضاف إليه كل ما يفيد السلطة والمثقف في آن واحد بالتواطؤ مع بعضهما البعض، ورغم أن المثقف نفسه أكثر من أي شخص آخر يعرف مدى ضآلة دوره الذي تقام المؤتمرات من أجل معرفته والكشف عن كنهه، إلا أنه يستمتع بتلك الصبغة السحرية التي تصبغ دوره، ورغم أنه أكثر العارفين بالدرس الكانتي – نسبة إلى كانت- الذي يعلمنا أننا لا نعرف الأشياء في ذاتها أبدًا وإنما هي الظواهر فقط، لكن المثقف لن يكف عن الادعاء بحيله اللغوية أنه نبيًا يرى الأشياء على النحو الحقيقي الوحيد.

بعد هزيمة عام 1967، وجد المثقف العربي الذي لم يسائل الدور السحري المنسوب إليه نفسه بين خيارين، إما جني أكبر كم ممكن من الأرباح عبر أسطورة الثقافة ومن ثم لا غضاضة في أن تنطبق عليه المقولة الشهيرة المتداولة في الأوساط الثقافية: "المثقفون العرب عدد الذين يكتبون لهم كتبهم لتخرج بأسمائهم أكبر من عدد الذين يقرؤون لهم"، وفي سبيل ذلك فلا غضاضة أيضًا من تحويل الهم المعرفي بأكمله إلى السياقات الثقافوية حتى يتماشى مع رغبات دافعي أجور المفكرين وعاقدي المؤتمرات وممولي المشاريع الثقافية الهابطة.

دور المثقف الأساسي هو مؤانسة المهزومين والتائهين الذين دُفعوا مجبرين إلى التفكير، والتفكير فعل عنيف ندفع إليه مُرغمين

أو الخيار الثاني وهو جلد الذات وتحميلها مسئولية "النكسة"؛ أي نكسة ومن ثم اعتزال البشر ورهبنة المعرفة كما حدث في حالة أستاذ الجغرافيا البشري المصري جمال حمدان، الذي اعتزل المؤسسة السياسية والزواج والأسرة والأصدقاء والمجتمع كله، وانقطع للكتابة محرومًا من معاشه ورافضًا أي معاش استثنائي أو أي عمل شكلي، بعد زيارة السادات للقدس عام 1978، وفي نهاية المطاف وجدت جثته بجوار دولابه المتهالك وصورة حبيبته الشقراء التي كان يحبها أثناء بعثته في إنجلترا.

بعيدًا عن كل المبالغات والأساطير التي تحاك حول الدور المسيحوي للمثقف، على المثقف نفسه أن يعرف دوره الحقيقي المهم جدًا رغم ضآلته ورغم أنه لا ينطوي على تغيير للعالم أو محاولة الوصول إلى يقين ما بشأنه، هذا الدور الذي يقتصر في الأساس على مؤانسة المهزومين والتائهين الذين دُفعوا مجبرين إلى التفكير، والتفكير فعل عنيف ندفع إليه مُرغمين. على المثقف إذن أن يعي الحقيقة المبدئية التي تقول أنه يخاطب في كتاباته أشخاصًا لم يستطيعوا أن يلجوا الحياة فلم يعد عندهم مفر من التفكير فيها بجدية وتأسٍ، لكن مع ذلك لن يتوفر لهذا المثقف الحالم أن يقود تلك الجموع من الضعفاء والمنكسرين في حرب ضروس ضد الضعف وخيبات الأمل، لأن المعرفة بطبيعتها تكبل الشجاعة، والفيلسوف لا يقود الجيوش، وهذا هو الدرس الأهم الذي ينبغي أن يتعلمه المثقف.

اقرأ/ي أيضًا:

مؤسسة كارهي فلسطين

موسم الارتداد عن الحب