15-مايو-2021

73 عامًا: فلسطين ثورة.. فلسطين ربيع

فلسطين كانت وعدًا، فلسطين ما تزال وعدًا.

هي وعد الحرية والعدالة والتقدّم، وعد انتهاء عصر الاستبداد وبِدء عصر الناس. وعد الحق الطبيعي بالحياة الحرّة وزوال باطل الأباطيل: الاستعمار الاستيطاني.

لا شك أن القصة بدأت من الأرض، الأرض التي طُرد منها قرابة 800 ألف إنسان في حرب النكبة بين أواخر 1947 وبدايات 1949

تلك هي الخلاصة التي قامت عليها تضحيات الفلسطينيين منذ العقد الثاني من القرن العشرين، حين بدأت تتضح أمامهم معالم الخطة التي بُيّتت ضدهم في ليلٍ، واتضحت مع ذلك معاني الوعود الكامنة في نضالهم الوطني.

لم تكن قصة هذا البلد صعبة على الفهم، لكنّ ما فعله أقوياء العالم المتحالفون مع المحتلين أنهم جعلوها قصة تكاد لا تُصدّق، بين من يُنكر وجود سكّان أصليين، ومن يقول بأن اللاجئين خرجوا من تلقاء أنفسهم أو انصياعًا لأوامر عربية، وبين من يفتري على الحق وحقائق التاريخ معًا ويقول إن هؤلاء باعوا أرضهم.

ليست قصة صعبة على الإطلاق، لكن ثمّة من يريد لها لا أن تبدو صعبة وحسب، بل معقدة وغامضة حتى لا تجد من يفهمها لكي يصدّقها، وبالتالي كي لا تجد من يناصرها ويدافع عنها.

لا نقول إن أرض فلسطين فردوس، ولا نزعم أن شعبها شعب مختار من السماوات العُلا، أو ينتمي إلى جنس الملائكة. لكن ما جرى طوال السنوات الماضية في الإعلام العربي الذي انهوسَ بِشيطنة الشعب الفلسطيني، في سبيل تبرير إقدام أصحابه على التطبيع مع إسرائيل، إنما كان ذلك نوعًا من محاولة سَلبِ هذا الشعب أية صفة إنسانية تجعله يقبل تضامن الآخرين، ومن ثم وَصمهِ بالعار من أجل جعله شعبًا منبوذًا ملعونًا، لكي يُبرّر للاحتلال جريمته الكبرى المستمرة منذ 73 سنة، وفي الوقت ذاته كي يتبرّأ هؤلاء المطبّعون من كل الأعباء الأخلاقية التي يُمليها الواجب أو الانتماء.

لا شك أن القصة بدأت من الأرض، الأرض التي طُرد منها قرابة 800 ألف إنسان في حرب النكبة بين أواخر 1947 وبدايات 1949، ونجَمَ عنها تشرّد ومخيمات وضياع شعب، ولهذا فالقصة بالنسبة للفلسطيني هي قصة استعادة أرض مسلوبة، لكن هذه الفكرة تطوّرت كثيرًا، خصوصًا في السنوات الأخيرة، فباتَ الفلسطينيون يرون الأرض مكانًا قابلًا للتشارك، فالوقائع التي جلبت مُحتلين إلى هذه الأرض من مختلف أنحاء العالم تقول إن من ولد وعاش على هذه الأرض، في فترة غياب السكان الأصليين، هم أيضًا سكّان أصليون، فالبشر ينتمون إلى الأرض بألف طريقة وطريقة، منها الولادة فيها.

صحيح أن هؤلاء وُلدوا بعد حدوث جريمة تطهير عرقي كبرى، لكنّ الصحيح أنه لا يمكن تحميل الأجيال اللاحقة أوزار الأجيال السابقة، ولأجل هذا فنحن ندعوا من صاروا سكانًا مثلنا على هذه الأرض أن يعيدوا معنا الموقف من المشروع الصهيوني الذي حاول قادته، منذ البدايات الأولى، الاستيلاء على فلسطين واعتبار سُكانها عقبة كبرى أمام تحقيق هذا المشروع، ومن أجل هذا قاموا بالتخطيط للتطهير العرقي الذي أفضى إلى تدمير مدن فلسطين الكبرى، وحوالي الـ 500 قرية. صحيح أن الصراع في فلسطين بين المستَعمِر والمُستعمَر على الأرض، لكن المستَعمِر حين عمل على اقتلاع المواطن الأصلي عن أرضه فَصلهُ عن التاريخ.

عاش الفلسطيني منذ عام 1948 في المخيم، خارج الزمان والمكان، ومن بقي في الأرض المحتلة حكم عليه بالصمت وأن يغدو لا مرئيًّا تحت قوانين الحكم العسكري وآليات توطيد الاستعمار

عاش الفلسطيني منذ عام 1948 في المخيم، خارج الزمان والمكان، ومن بقي في الأرض المحتلة حكم عليه بالصمت وأن يغدو لا مرئيًّا تحت قوانين الحكم العسكري وآليات توطيد الاستعمار، أما الأجزاء الباقي، الضفة الغربية وقطاع غزة، فتم ضمها إلى الدول العربية المجاورة، ليعيش هذا الشعب عقودًا طويلةً مُنقطعًا عن التواصل مع بعضه البعض على أرض التاريخية، ولأن محاولات المحو مستحيلة وُلدت المقاومة والثورة، وبدأ إنسان اللجوء ليكتب تاريخًا آخر.

على المقلب الآخر، كانت إسرائيل على الرغم من كلّ ادعاءاتها للديمقراطية غير ديمقراطية، حيث راحت تمارس التمييز ضد المواطنين غير اليهود، ولم تستطع أن تكون علمانية، ولن تكون ما دامت عقيدتها الأساسية تقوم على يهودية الدولة. أما منطقها الصهيوني فظل كما هو منطقًا استيطانيًّا لا هدف له إلا السيطرة على أرض فلسطين كلها، من دون اعتراف بالسكان الأصليين أو بحقوقهم، والأسوأ أن هذا يحدث في القرن الحادي والعشرين.

من جانب آخر، على الرغم من الجنون الذي وصلت إليه إسرائيل في نبش التاريخ بحثًا عن آثار تُثبِت أحقيتها في الأرض، فإن كل الحفريات لم تُقدّم أي دليل يدعم قصص العهد القديم، ولا السرديات الأخرى، لأننا ببساطة أمام اختراعات لا حقائق.

حملت فلسطين في قصتها الطويلة بدايات ونهايات كثيرة، ففي كل مرحلة من مراحلها هناك بداية ونهاية، وعلى هذا لدينا من البدايات والنهايات ما يكفي لنوقن أنه على الرغم من كل الهزائم والانكسارات كان الفلسطينيون قادرون على هزيمة الهزيمة، وإنهاء النهاية، بالبدء من جديد. ألم يقل محمود درويش في وصف فلسطين: "أم البدايات.. أم النهايات؟".

أنهت النكبة عمليًّا قيادة الحاج أمين الحسيني للشعب الفلسطيني. قبل ذلك عاش المفتي الحسيني نهايات الثورة الفلسطينية الكبرى، ونهايات "الجهاد المقدس"، وصولًا إلى نهاياته شخصيًّا كقائد حين رأى جيلًا جديدًا يصعد إلى المشهد ويتسلّم قيادة الشعب الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي.

لدى ياسر عرفات نهاياته الكثيرة أيضًا. نهايات مرحلة الأردن، والخروج من لبنان، ونهاية رحلة المنفى بعد أوسلو، ثم نهايته الفعلية في 2004 مع أنه رآها بعينه قبل هذا التاريخ، حين أدرك أنهم سيقتلونه.

كانت إسرائيل على الرغم من كلّ ادعاءاتها للديمقراطية غير ديمقراطية، حيث راحت تمارس التمييز ضد المواطنين غير اليهود

ثم جاءت النهاية التي رسمها محمود عباس منذ رسم الخطوط الأولى من مشروع الدويلة، غير مبالٍ بتاريخ نضال شعبه أو كرامتهم الإنسانية، إلا أنه سرعان ما انتهى على يد من راهن عليهم بالذات، وكم هو منصف أنه عاش لكي يشهد كيف انقضّ عليه شركاؤه ونهشوا لحمه ولحم مشروعه، مُسجلين بذلك نهاية النهايات عبر إعلان صفقة القرن؛ القدس عاصمة أبدية، وإطلاق يد إسرائيل في ضم ما ترغب، ومحو عبء الوجود الفلسطيني.

الآن حين تكتب القدس بداية جديدة، ونرى كيف أن غزة ومدن الداخل المحتلة لا تقبل إلا أن تكون شريكة في صنع هذه البداية، فهذا يعني ببساطة شديدة: فلسطين لا تموت.

لنعد قليلًا خطوة إلى الخلف، إلى أوائل عهد الربيع العربي الذي جاء لينهي مسارًا تعيسًا مليئًا بالتبعية والانكسار، إذ جلبت الميادين الثورية الكبرى أملًا ببدء صفحة عربية جديدة، تسود فيها الديمقراطية والعدالة والشفافية، وتغيب فيها ظاهرة الدولة الأمنية، وشبكات الفساد، والارتهان للقوى الخارجية.

ضمن هذا الإطار، وحّد 2011 آمّال أناس العالم العربي بالتغيير، كما منحهم شعورًا حقيقيًّا بالانتماء إلى شوارع وميادين مدن الثورات، وإلى بناتها وأبنائها، دون أن يُداخل ذلك نزوع قومي أيديولوجي أو فئوي، وأخذ الانتماء إلى الحقوق والمطالبين بها منحى عالميًّا، وصل إلى حدّ التأثير في إشعال احتجاجات حركة "احتلوا وول ستريت" التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية وقتها، ثم عمّت مدنًا عالمية عديدة.

وثقّت أحداث 2011 أن أعداء الثورات هم ذاتهم في كل البلدان، إنهم أولئك اللصوص والكاذبون، مُكرّسو فساد السياسة والأخلاق والذمم، ومديرو بلدانهم إدارةَ الغزاة نهبًا واستباحةً.

في تلك الأجواء، بَدَت المنظومة البوليسية العربية التي اجتهد كل نظام في تشييدها على طريقته واحدة، وظهرت شبكاتُ ناهبي المال العام واحدة، وتوحدّت الأدوات الإعلامية المختلفة لتشكّل من خلال اتفاقها على سردية المؤامرة الخارجية شاشة واحدة. التقى كلّ شيء تقريبًا: التوريث والقمع والقتل والتعذيب والفقر والنهب والتجهيل والتهميش والبطالة والتمييز والعجز وتراكم الديون والمحسوبية.. وفلسطين بالطبع.

حين تدخل القدس إلى الخط فإنها تدخل إلى ساحة الربيع العربي، لكي تقول إن في العالم العربي عدوَيْن رئيسين: الاستعمار والاستبداد

تلتقي الأشياء مع بعضها البعض لتشكل مطلبَ البلد الواحد، وتلتقي مطالب البلدان بالآلية ذاتها لتشكّل فلسطين، ففي حريتها وحق شعبها في تقرير مصيره مصلحة عربية، لأن ذلك يُعطّل المهمة الاستعمارية التي تؤديها إسرائيل، وفي الوقت نفسه تنتهي صلاحية تلك الذريعة التي ساعدت أنظمة الاستبداد على طغيانها. فلسطين، بعبارة واحدة، عودة إلى إنجاز كلّ ما لم ينجز في مرحلة الاستقلال: حرية كاملة، عمل وخبز وحرية، وقطع طريق العودة على القوى الاستعمارية، لو بأشكال أخرى.

ضمن هذا المشهد المليء بأحاسيس مفعمةٍ تقدمت فلسطين، ورسمت الخريطة التي تُعيدها إلى بدئها، قضيةً وقيمةً ومعنى، في المكان الذي يجب أن تبدأ منه، في الشوارع، لا قاعات القصور أو أروقة المؤتمرات، مع الناس لا مع الأنظمة، لأن الناس من خاضوا كل الحروب، وهم الذين لم يُهزموا فيها بل هُزمت الأنظمة الكاذبة، فإذا كانت هذه الطاقات البشرية جاهزة ومستعدة طوال الوقت، فإن ذلك يعني أن أولئك الذين أساؤوا استعمالها إلى درجة التبذير والهدر والاستخفاف هم المهزومون.

ولأنّ القوى الكبرى التي تعرف أن خريطة الربيع العربي ستوصل إلى فلسطين، هجمت لتبقي النظام القديم ثابتًا يدافع عن الحصن الاستعماري فمات الربيع، وتحول إلى حروب أهلية ومجازر وشتات.

الآن حين تدخل القدس إلى الخط فإنها تدخل إلى ساحة الربيع العربي، لكي تقول إن في العالم العربي عدوَيْن رئيسين، وكل الأعداء الآخرِيْن متفرعون عنهما: الاستعمار والاستبداد.

لا شك أن نضال القدس والمقدسيين كنضال الفلسطينيين قديم وراسخ، إلا أنه يأتي الآن، في هذه البداية الجديدة، لكي يقول إن حرية فلسطين من حرية العالم العربي، وحرية العالم العربي من حرية العالم، ولهذا نرى تغييرًا كبيرًا في طبيعة التضامن، ذلك لأن كفة عدالة العالم المختلة من صعود الشعبوية والشعبويين، صارت تعبر عن تغيّرٍ كبير في الفترات الأخيرة، إذا رجّح العالم كفة ميزانه المائلة بسبب صعود موجات اليمين عبر الصعود الكاسح لموجات المطالبة بالعدالة، ومنذ قضية جورج فلويد رأينا تغييرًا في التعاطي مع قضية السود في أمريكا، وها نحن نشهد تغيرًا عالميًا في مقاربات مختلفة وجديدة لفلسطين التي ترغم الجميع على ذلك.

إلى جانب هذا وذاك، ثمة لغة جديدة في تناول القضية الفلسطينية في هذه البداية، مع الشباب الجديد، فيها الكثير من المفاهيم القانونية والحقوقية التي يفهمها العالم. لغة تخاطب عقول الناس الأحرار، تريد أن تُوقّف نبرة الخطابة الفارغة، فبعد ثلاثة أرباع قرن من خطابات التي لم تُجدِ نفعًا. الخطابات عن الصمود التي يطلقها أول من يطعن الصامدين، والخطابات الحالمة بثأر الذي لا يأتي.. الخطابات التي لم تكن سوى عواطفَ بعواطف. بينما على الجانب الإسرائيلي هناك من يحكون بهدوء ويقدمون أرقامًا. كفى هبلًا. من ليس لديه فكرة مدعومة بمعلومات أو فاهمة لقاموس القانون فليدعْ غيره يتكلم.

لا شك أن نضال القدس والمقدسيين كنضال الفلسطينيين قديم وراسخ، إلا أنه يأتي الآن، في هذه البداية الجديدة، لكي يقول إن حرية فلسطين من حرية العالم العربي

كنت أظن أن الكتابة عن فلسطين في ذكرى النكبة ستكون محاولة يائسة للتذكير بالقضية في زحمة الذل والهزيمة، لكن الأحداث رفضت إلا أن تأخذنا إلى تفكير آخر ومشاعر مختلفة، إلى رؤية فلسطين بلد واحد، وإلى مشاهدة سقوط أقنعة الدولة الاستعمارية العنصريّة المريضة بالحقد والكره، التي راحت تبدو على حقيقتها أخيرًا: مستعمرة جمعت مجرمين مسعورين وراحت تحميهم بقوانين البطش والأمر الواقع. وها هي صورهم يركضون في الشوارع وهم يحملون السلاح وكأنهم في فيلم خيالي يريدون تدمير العالم، وهو بالضبط ما جاؤوا من أجله. دون أن ننسى طبعًا بأن هؤلاء هم حلفاء نتنياهو في حكمه، أي أنهم أركان أساسية في المعادلة السياسية الحالية.

ترسم فلسطين صورة جديدة، إنها وهي توحّد الفلسطينيين الذين فرضت عليهم التفرقة، فإنها أيضًا توحّد العرب وشعوب المنطقة من المؤمنين بالحريات والحقوق والعدالة، وتضعهم كلهم في سياق عالمي، مع السود في أمريكا، وغيرها من حركات العدالة التي تتعالى أصواتها في عالم لم يعد يقبل بهؤلاء الذين يدمرون كل شيء: البشر والثقافات والحياة والمناخ.

إلى جانب ذلك ترسم فلسطين بؤرة تجمع الهويات الجريحة، المُحمَّلة بمعاني القهر والاضطهاد والظلم، حين تفتحها على بعضها البعض، وتجعل من فعل اكتشاف الذات فعلًا موازيًا لاكتشاف الآخر من خلال آلامه ومعاناته، وبهذا يصبح السّعي وراء تحقيق الحقوق تحقيقًا للذات نفسها، فهذه الذات التي لا يُمكن أن ترى نفسها خارج شروط العدالة والكرامة والحرية هي ذات إنسان هذا القرن.