15-مايو-2020

الذكرى 72 للنكبة

ليست النكبة حدثًا تاريخيًا انقضى، كما أنها ليست حدثًا نعيش آثاره، وإنما واقع ما زلنا نحن الفلسطينيون نمر فيه، ونختبره كتجربة مستمرة، وكواقع لم ينته. إنها كما في كل مشروع استعمار استيطاني، ليست حدثًا، وإنما بنية مستمرة.

ليست النكبة حدثًا تاريخيًا انقضى، كما أنها ليست حدثًا نعيش آثاره، وإنما واقعًا ما زلنا نحن الفلسطينيون نمر فيه، ونختبره كتجربة مستمرة، وكواقع لم ينته

بعد أكثر من 72 سنة، تواصل إسرائيل اقتلاع وتهجير الفلسطينيين بشكل منظم، كجزء من المشروع المنهجي لمحو الوجود الفلسطيني على الأرض، واستبداله بالوجود الاستيطاني اليهودي. وفي حين كان التهجير خيارًا بديلًا للإبادة الكاملة، فإن فشل التهجير الكامل، يتم التعبير عنه اليوم ومنذ عشرات السنين في إسرائيل، من خلال أنماط من الضم والاستيلاء على الأراضي وهدم البيوت واعتقال الفلسطينيين وتصنيفهم وجمع المعلومات عنهم وفصلهم، وتمثيلهم باعتبارهم خطرًا وجوديًا، وفي تحول من بقي منا في أرضه، كقضية سياسية، تصطف على يمينها ويسارها الأحزاب الإسرائيلية، وتصبح آليات التعامل معها، أساسًا للتصورات الأمنية الإسرائيلية.

إن كان لا بد من حديث عن فشل لمشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وهذا من وجهة نظر أصحابه، فإن الأمر سيتعلق بوجودنا على الأرض، كفلسطينيين، لأن وجود السكان الأصليين كسكان أصليين، لم يتم تهجيرهم أو قتلهم أو تفكيكهم ثقافيًا وقوميًا، طالما كان بمثابة تعطل لمخططات المحو الاستيطانية

ليست النكبة حدثًا انقضى، فمن خلالها يرى الفلسطينيون أنفسهم، وواقعهم ومستقبلهم، وفي الرغبة بمقاومتها والحنين إلى ما تمت خسارته فيها، نشأت فلسطين، كهوية وكفضاء تنتمي إليه التطلعات، والآمال بالمساواة والديمقراطية والتحرير. ليست النكبة حدثًا انتهى، ففيه بُترت الحداثة الفلسطينية، وفيه قُطعت الطريق أمام المدينة الفلسطينية الحديثة، بكل ما كانت تحوز عليه، أو ستحوز عليه، من طبقات وسطى وأحزاب ومقاهي مثقفين وعمال ونقابات ودور سينيما، وبعدها انتهى الفلسطينيون يعيشون في قرى كبيرة، وفي ريف/ هامش مغترب عن المركز/المدينة الإسرائيلية الحديثة،  أو في مخيمات لجوء، يصارعون من أجل حقوق أولية، أو في معازل كبرى، ضمن ظروف غير صالحة للحياة.

لم تنته النكبة، لأن صورة المعول أو الثوب الفلسطيني أو مشاهد قرانا المسلوبة، المعلقة على جدران بيوتنا، أو في غرف ضيوفنا، لم تصبح رموزًا نزورها فقط كل بضع سنوات في متاحف مغلقة، ونطلع عليها الزوار، وإنما لا تزال في بالنا شيئًا نعيشه، ونتوق ربما إلى التحرر منه، أو التحرر من الحنين إليه، نتوق للحظة التي سنتذكره فيها لننساه، ونؤرخه لنمر عنه، ونضعه في أراشيف ضخمة ومغلقة، لأنه لم يعد يتعلق بحياتنا المعاصرة.

لم تتوقف النكبة، لأن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين لم يتوقف، ولأن جزءًا من الفلسطينيين ما زال على الأرض التي يريدها هذا المشروع خالية منهم. ولأن مصير الأرض الفلسطينية، وسيادتها، لا يزال موضوعًا للاستقطاب السياسي الإسرائيلي الداخلي، بين من يريد ضمها، لأن ذلك هو الخيار الأنجع أمنيًا، وبين من يرى أن هناك ضرورة أمنية للانفصال عنها، والتخلص من "الوحش الفلسطيني".

لم يُغلق الستار على النكبة، لأن فلسطينيين هُجروا أو هُجرت عائلاتهم قبل عشرات السنوات، لا زالوا يعيشون تهجيرًا وهجرانًا مركبًا، بعد أن طاردتهم أشباح "الهاغناه" في دمشق وبيروت وفي عواصم ومدن عربية عديدة، من أنظمة حملت فلسطين كقضية مجردة، لا تمس بمن هم أهلها، ولا تتعلق بالفلسطينيين أنفسهم. لم تتوقف، لأن هناك نكبات مورست وتُمارس باسم الضحايا، ضد شعوب عربية تتوق إلى الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية.

لم تنته النكبة، لأن حكومات وأنظمة عربية انتصرت للرواية الإسرائيلية، بعد أكثر من سبعة عقود على المجزرة، وتجاوزت تطبيع العلاقة مع إسرائيل ضمن حسابات الأمر الواقع، لتصل إلى تشكيل محور أو حلف معها، ثم إلى إعادة قراءة التاريخ، والمسار الطويل لمحو الفلسطيني، وإنكاره. لم تنته النكبة لأن بعض الأنظمة العربية، ترى في الفلسطيني وفلسطين مشكلة، بدلًا من أن ترى المشكلة في مشروع محوه.

لم تنته النكبة، لأن الفلسطيني غاب في رواية تلك الأنظمة، وفي سردياتها الجديدة، ويراد له أن يُقتلع من الذاكرة الجمعية العربية، كما اُقتلع قبل حوالي 72 عامًا من مدنه وقراه.