10-مايو-2021

مواجهات قرب قبة الصخرة (Getty)

لم يكن مطلوبًا من غورد ليوبولد موتسارت أن يقدم لنوعنا أي إنجاز عظيم. لم نكن نريد منه اختراعًا، ولا معزوفة ولا لوحة، كنّا نحتاج فقط أن يمرّر جيناته إلى ولده يوهان ليمرّرها بدوره إلى ولده فولفانغ أماديوس. وشكرًا لهما لأجل ذلك.

عمليات التهجير القسري التي تجري في أحياء القدس، وجرائم قوات الاحتلال أيقظت عند الكثيرين ذلك الجزء من وجدانهم

لم نكن نريد منه أكثر، كنّا نريد الوصول لذاك الفتى الذي نسميه موزارت، والذي قدّم لنا 626 عملًا، رفع فيها ذائقة النوع البشري بأكمله، ومنح مليارات البشر تلك اللذة السامية، وترك بصمة إلزامية في كل من تلاه، حتى صحّ أن نقول بعد قرنين ونصف من وفاته: موزارت ليس موسيقيًا، بل هو الموسيقى.

اقرأ/ي أيضًا: القدس كما تبدو من بيروت

من يفهم الزمن (وطبعًا لا أحد منّا يفعلها كما يجب)، يفهم أن بعض الأشياء تحتاج فقط أن نبقيها حيّة، أن نمررها ونحشوها في الزمن، ونبقي لها مكانًا في الجزء القادم منه، ونترك له المهمّة.

في الأسابيع الأخيرة ارتفعت أصوات هنا وهناك، عبّرت عن نفسها بعد أن ظلّت خافتةً لزمن طويل، وقالت بطرائق متعددة: اذهبوا أنتم وفلسطين إلى الجحيم، أقلقتم راحتي.

عمليات التهجير القسري التي تجري في أحياء القدس، وما تقوم به قوات الاحتلال من جرائم، وهجوم متكرر على بيوت العرب وعلى الأقصى أيقظت عند الكثيرين ذلك الجزء من وجدانهم، والذي يعتبر فلسطين قضيته الأولى، ولا فرق إن كانت قضيته الوطنية أو القومية أو الشخصية أو الإنسانية. وعبروا عن ذلك بالطرق متاحة لهم، فكتب البعض شعرًا، ورفع البعض شعارات، وذهب تسعون ألفًا للصلاة في المسجد الأقصى، وصلّى مئات آلاف آخرين في مساجد وكنائس في انحاء متفرقة من العالم، واكتفى البعض بالتعبير البسيط: قالوا كلمة، أو وضعوا صورة لفلسطين حيث أتيح لهم.

ما من جديد حتى هذه النقطة، وما من شيء غامض فيه. لكن ارتفاع الأصوات المقابلة هو ما يستحق القراءة. والقراءة تعني محاولة الفهم، لا الهجوم ولا التخوين ولا رشق الاتهامات.

هناك جيل جديد يولد، ولديه وجهة نظر أخرى في القضية برمّتها، ولا نعرف تمامًا إن كان مولّد وجهة النظر هذه هو الجيل الجديد ونوع اهتماماته وثقافته، أو الخطاب الذي رافق القضية والتصق بها وعبّر عنها طيلة عقود، أم في القضية نفسها.

في المجتمعات العربية الآن جيل تلقّى فلسطين عبر إعلام الأنظمة ومناهجها المدرسية، وخطابات منابرها، وبالتالي نفر من القضية بقدر نفوره من الأنظمة التي تتحدث عنها، وتحاول التماهي معها. ربط بينهما بشكل تلقائي، فأدار ظهره وهو يكاد يقول: يُمَل.

ولأن لا أمضى من الضجر سببًا. فقد دمّر تكرار الخطاب المتهافت تلك العلاقة الحميمة بين شاب عربي والقدس، كما يدّمر الزيجات والأعمال الفنية والأفكار والإيديولوجيات، وربما بعض الإمبراطوريات. فتعامل البعض مع فلسطين على أنها مسلسل تلفزيوني طالت حلقاته، أو أغنية تكرر بثّها أكثر مما يجب، فأخذوا موقفهم لذاك السبب الذي يبدو بسيطًا للغاية، ضجروا فنفروا.

اتّخذَ البعض الآخر موقفهم مما يجري في حي الجراح، وفق المعيار الذي يقيسون عليه أي شيء آخر: الإيمان بقضية فلسطين صار موضة قديمة، غير عصرية وغير منفتحة، وهي تليق بالريفيين وأبناء الأحياء الشعبية، ومحدودي الأفق، وناقصي الثقافة العصرية.

هؤلاء يعتبرون القضايا السياسية الكبرى كلها علامة تخلّف، وهذا مفهوم وقابل للنقاش، لو لم يتعاملوا مع فلسطين على أنها مجرّد قضية سياسية.

ويظنون القدرة على الاستمتاع بأغاني الليدي غاغا أو جاستين بيبر يتناقضان ثقافيًا مع الالتفات قليلًا لجريمة اسرائيل المستمرة منذ ثلاثة وسبعين عامًا، لأن أحدًا لم يخبرهم بمسار تطور المنظومة الأخلاقية للنوع البشري، والذي سيعني (رياضيًا) وصوله في لحظة ما لتلك اللحظة الفاصلة، حيث سيقرر النوع بكامله أن عليه قضاء قرنٍ وهو يعتذر للفلسطينيين.

ما دمنا غير قادرين على ابتداع فلسطين في جيلنا، فلنبقها حيّة، لنذّكر أنفسنا بها، فقبل أن تكون قضية سياسية أو أخلاقية أو إنسانية، هي جينة

يذهب بعض هؤلاء وبعض أولئك للتعبير عن موقفهم بطريقة غير مباشرة، فيحرجون المتحمسين ويحشرونهم في زاوية المنطق، عبر توجيه أسئلة من قبيل: "ما معنى أن تغير صورة بروفايلك على وسائل التواصل الاجتماعي؟ بماذا سيفيد ذلك؟" أو "ومتى ستزحفون إلى القدس لتحريرها؟"

اقرأ/ي أيضًا: فدائي ترمسعيا والعودة إلى المسألة الفلسطينية

لا نستطيع الزحف الآن. أنتم محقّون، لكنّنا على أقل الأقل، نستطيع أن نقول لأنفسنا: نحن أصحاب دمها. وما دمنا غير قادرين على ابتداع فلسطين في جيلنا، فلنبقها حيّة، لنذّكر أنفسنا بها، فقبل أن تكون قضية سياسية أو أخلاقية أو إنسانية، هي جينة، ولا أقل من أن نمرّرها لعل جيلًا قادمًا يؤلفها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل حان الوقت لمحاسبة إسرائيل؟

مكتبة فلسطين: القدس.. التاريخ الحقيقي