25-يونيو-2023
lojo

رحلات المغامرات الخطيرة تجذب الأثرياء بشكل خاص. (GETTY)

تقترن فكرة السياحة، لمعظمنا على الأقل، بإجازةٍ فيها القليل من الجهد والكثير من الراحة، أو ربما برحلة بعيدًا عن ضجيج المدينة ننسل فيها من بين هموم حياتنا اليومية، دون أن نستبدلها قطعًا بمجابهة أسئلة الخوف من الفناء، أو تعريض أنفسنا لموتٍ محدق يجعلنا، بتناقضٍ لطيف، نشتاق إلى جحيم حياتنا اليومية.

ولكن نعم، هناك وجهٌ آخر للسياحة، أو ربما الوصف الأدق هو المغامرة. فهذا الكلام لا ينفي  حبّ الإنسان للمغامرة أو رغبته في مواجهة الطبيعة، ولا هو يحاول تفنيد مجافاة قطعة من أرواحنا لنا  بعدما جافيناها في جفاء العمران، وليس لنا أن نجدها إلا في نقاء الطبيعة.

ونحن عند حديثنا عن غواصة تايتن،  لا نحكي عن مجموعةٍ من السياح الذين يبحثون عن مغامرةٍ يجدون فيها الحياة بالتقرّب من الموت، وإنما عن جزءٍ من ظاهرةٍ ترتبط بسوقٍ خاصٍّ جدًا، حصريٍّ جدًا يضمّ فقط أثرى الأثرياء، وأغرب الرحلات والرغبات.

يرتبط هذا النوع من السياحة، ولنسمّه سياحة الأثرياء، بالمال الكثير والفراغ القاتل الذي يدفع فاحشي الثراء إلى دفع مبالغ طائلة تصل إلى مئات آلاف الدولارات في رحلاتٍ سياحية فريدةٍ من نوعها، ربما يكون ذلك للتباهي بخوضهم لتجربةٍ لم يخضها أحدٌ من قبل، أو ربما لأنّ مزيج المال والفراغ غير المتناهي يولّد فضولًا لا يألفه معظمنا.

يرتبط هذا النوع من السياحة، ولنسمّه سياحة الأثرياء، بالمال الكثير والفراغ القاتل الذي يدفع فاحشي الثراء إلى دفع مبالغ طائلة تصل إلى مئات آلاف الدولارات في رحلاتٍ سياحية فريدةٍ من نوعها، ربما يكون ذلك للتباهي بخوضهم لتجربةٍ لم يخضها أحدٌ من قبل، أو ربما لأنّ مزيج المال والفراغ غير المتناهي يولّد فضولًا لا يألفه معظمنا.

سياحة المخاطر

فكرة حبّ مواجهة المخاطر، كما قلنا، ليست فكرةً مستغربةً بالكامل، فهناك من ينجذب إلى مواجهة الأهوال والتغلّب عليها. وأشكال ذلك كثيرة، فهناك في الولايات المتحدة مثلًا من يحبّ مطاردة الأعاصير والعواصف، بل لديه الاستعداد ليدفع المال لوكالاتٍ مختصّةٍ بذلك عبر ما يُعرف بـ"زقاق الأعاصير"، وهي منطقةٌ في وسط أمريكا تكثر فيها الأعاصير، وبالمناسبة فقد زادت شعبية ذلك بشكلٍ كبير في التسعينات بعد صدور فيلم Twister عن هذه الظاهرة تحديدًا. وهناك من يذهب إلى أقاصي الأرض لمواجهة ظروفٍ جغرافيةٍ قاسية ومن ذلك مثلاً الغوص الجليدي، أو ربما قد تكون ممن يحبّون مشاهدة بركانٍ يثور في نيكارغوا.

يُلحق كل ذلك بما يُعرف بسياحة المخاطر (Extreme Tourism/Adventure Tourism)، وكما يُوحي الاسم، فهذا النوع من السياحة هو الذي ينطوي على مخاطر عالية في أماكن خطيرةٍ وغالبًا ما يكون بحثًا عن تجربةٍ مثيرةٍ وفريدة، أو اختبارًا لقدراتك الجسدية والنفسية، كما يعرّفها "آرون أوبنجيا"، عميد كلية إدارة الضيافة في جامعة بوسطن.

سياحة الأثرياء

مرةً أخرى، يجب التمييز بين حبّ مواجهة المخاطر، وسياحة الأثرياء، فالفرق الأول والأهم هو أن سياحة الأثرياء  سوقٌ يدفع فيه المرء، مثلًا، 250 ألف دولار لشراء مقعدٍ على متن غواصةٍ تغوص مسافة 2.5 ميل والغاية من ذلك هو مشاهدة حطام سفينة تايتنك.

تجذب هذه الرحلات الفريدة الأثرياء بشكلٍ خاص، ومنهم طبعًا المليونير شاهزاده وابنه سليمان داود، وهما من إحدى أثرى العائلات في باكستان.

أمثال شاهزاده وسليمان هم القاعدة لهذه الرحلات الاستثنائية التي تكلّف مئات آلاف الدولارات، أو حتى الملايين، مثلهم في ذلك مثل رجال الأعمال الثلاثة الذين دفع كلٌّ منهم 55 مليون دولار للسفر في سفينة فضاء تابعةٍ لشركة SpaceX إلى محطة الفضاء الدولية.

كما يدفع بعض الأثرياء مبلغًا قيمته 100 ألف دولار للذهاب في رحلةٍ، تشمل جميع النفقات، إلى القطب الجنوبي، وإذا أردت فتستطيع أن تدفع 165 ألف دولار تكلفة رحلةٍ تطوف بها مختلف سفاري الكرة الأرضية على طائرةٍ خاصّةٍ، وهذا هو حرفيًا اسم الرحلة "Wildlife Safari: Around the World by Private Jet 2024".

خت
ركاب غواصة تايتان التي أعلن عن انفجارها وموت ركابها الخمس الأسبوع الماضي. (AP)

تحوّلت سياحة الأثرياء إلى سوقٍ له شركاته الخاصة، منها شركة Abercrombie and Kent، التي تنظّم رحلة السفاري تلك، وطبعاً شركة OceanGate (التي اكتسبت شهرةً كانت في غنى عنها)، كما أن هنالك شركة The Expeditionist  التي تُتيح لك الفرصة للانضمام إلى رحلةٍ شيقةٍ تمرّ فيها بكيب تاون في جنوب أفريقيا والقارة القطبية الجنوبية وأمريكا الجنوبية نظير 250 ألف دولار.

وبالعودة إلى الفضاء، فإن السياحة الفضائية تحديدًا هي قطاعٍ متنامٍ يشهد اليوم منافسةً ثلاثيةً محتدمة بين المليارديرية الثلاثة جيف بيزوز وإيلون ماسك وريتشارد برانسون الذي أسّس شركةً للسياحة الفضائية تحت اسم Virgin Galactic. والمفارقة هو أن الشركة قد أعلنت أنها ستطلق أولى رحلاتها تحت اسم Galactic 01، نهاية هذا الشهر، إذ يبلغ ثمن التذكرة 250-400 ألف دولار في رحلةٍ فضائيةٍ مدتها 90 دقيقة، مع وجود أكثر من 800 زبون على قائمة الانتظار.

أما ماسك، فقد وجد ربما مليارديرًا يفوقه غرابة، إذ دفع مليارديرٌ ياباني ثمن كل المقاعد على صاروخ Starship، في رحلةٍ تنظّمها شركة إيلون ماسك تبلغ مدتها ثلاثة أيام، يدور فيها الصاروخ حول القمر ومن ثم يعود إلى الأرض. وفي المقابل نجد شركة Blue Origin، التي يملكها جيف بيزو، والتي تنظّم رحلاتٍ إلى الفضاء وقد بيع ثمن رحلتها الأولى بمبلغٍ وصل إلى 28 مليون دولار في حزيران/يونيو 2021.

سياحة الأثرياء، أو هذا المزيج بين المغامرة ودفع أموالٍ باهظة، يتنامى بشكلٍ ملحوظ. ومن الأمثلة المباشرة أن حكومة النيبال أصدرت رقمًا قياسيًا من تصاريح السفر إلى قمة إيفرست في موسم التسلّق الأخير، بحسب صحيفة الوول ستريت جورنال، ويتسق ذلك مع تقريرٍ أصدرته مجموعة Grand View Research الذي يتنبّأ أن حجم سياحة المخاطر (والمصطلح المستخدم لها هو سياحة المغامرة Adventure Tourism)، العالمي سينمو من 322 مليار دولار عام 2022 إلى أكثر من تريليون دولار عام 2023، ويُشير التقرير إلى أن ما أسماه "المغامرة القاسية" (Hard Adventure) شكّل عام 2021 ما نسبته 20% من هذا السوق. وتذهب شركة Global Rescue، المختصة بتوفير الخدمات الطبية والأمنية ومواجهة المخاطر للمسافرين، إلى نفس النتيجة، إذ يقول "دان ريتشاردز" المدير التنفيذي للشركة أن قسمي السفر المرفّه والمغامرات هما أسرع الفئات نموًا في قطاع السياحة، مضيفًا أن السيّاح يميلون اليوم إلى الرغبة بأشياء أكثر خطورة.

وحتى حادثة الغوّاصة الأخيرة وما لاقته من اهتمامٍ عالمي كبير، فإنها لن تؤثّر كثيرًا على هذا السوق كما ترى الدكتورة "أديل دوران" التي تدرّس مواضيع مثل سياحة المخاطر والترفيه في جامعة شيفيلد هالم في إنجلترا. فبحسب دوران، هناك دائمًا أثرياء لديهم المال والرغبة بخوض هذه الرحلات الباهظة حتى لو أدّت حوادث كهذه إلى صدّ بعضهم.

"جيمس ويلكوكس"، مؤسّس شركة Untamed Borders التي تنظم رحلات إلى أفغانستان، يقول إن هذا السوق قد ظهر ونما في الأعوام العشرين الأخيرة، ويضيف أنه قبل ذلك كان السيّاح يعتمدون على دليل مكتوب، أو ربما يخططون بأنفسهم لرحلاتهم، ولكنك تجد اليوم شركاتٍ تختص بتسهيل مثل هذه الرحلات.

لا قوانين تنظم سياحة المخاطر

بالإضافة إلى برنامج الرحلة، تتكفل الشركة المنظمة أيضًا بالجوانب اللوجستية والقانونية المتعلّقة بأذونات السفر وما إلى ذلك. وتوفّر الشركات أيضًا تدريبًا جسديًا للسياح مع مدرّبين مختصين لضمان أهلية السيّاح البدنية لخوض هذه الرحلات الخطرة. وهناك أيضًا الرفاهية العالية، فتوفّر العديد من الشركات، طائراتٍ خاصة بالإضافة إلى أماكن مبيت مجهّزة.

وتنطوي هذه الرحلات أيضًا على جانبٍ قانوني يستحق الاهتمام، فتطلب الشركات المنظمة، ومنها شركة OceanGate التي نظّمت رحلة غواصة تايتن، من السيّاح توقيع عقود إخلاء ذمةٍ تفصّل جميع المخاطر الممكنة، وأنهم مدركون لجميع هذه المخاطر، ومنها الموت، الذي ذُكر ثلاث مرات في الصفحة الأولى من عقد رحلة الغوّاصة، كما يطلب من المنظّمين ذكر كامل المخاطر للسيّاح.

ولكن مما يزيد الحيرة هو عدم وجود منظومة قانونية واضحة تنظّم هذه الرحلات الطويلة الخطيرة، أي أنها تعتمد بشكلٍ كاملٍ على العلاقة بين الشركة المنظّمة والسائح دون وجود إطارٍ حكومي يمكن العودة إليه، أو قانون يُلزم الشركات المنظّمة لهذه الرحلات بتحصيل شهادة ما، كما يكشف "سكوت سميث" بروفيسور السياحة في جامعة ساوث كارولينا.

الجانب المظلم لسياحة الأثرياء

تسلّط مأساة غوّاصة تايتن الضوء على الجانب المظلم من هذا النوع من السياحة. فوفقًا لورقةٍ أصدرتها الباحثة "كالي ريد" في جامعة بولنغ جرين ستيت في أوهايو، فإن عدد الوفيات في رحلاتٍ سياحية في الفترة بين 2013-2015 بلغ 3121 حالة وفاة، والمفارقة أن النسبة الأكبر من هذه الوفيات حدثت في رحلاتٍ مائية بنسبةٍ تصل إلى 33.2%، ومعظمها يحدث في موسم السياحة، وتحديدًا في شهر حزيران/يونيو.

فصحيحٌ أن التطوّر التكنولوجي هو أحد أهم الأسباب وراء وجود مثل هذا السوق الذي يمكّن الأثرياء من خوض هذه الرحلات مع الحفاظ على أعلى مستوى الرفاهية، إلا أنّ البعض يبالغ في الاعتماد على الضمانات التكنولوجية، فيصعب مثلًا وصول طائرة هيلكوبتر إلى بعض الأماكن في أمريكا الجنوبية لو وقع خطبٌ ما لمجموعةٌ من السياح، كما تقول دوران.

الجانب المظلم يتجلى أيضًا في الأسباب الأخرى وراء تنامي هذا السوق الغريب، إذ يبدو أن كثيرًا من السيّاح يرغبون بتعويض الوقت الذي فاتهم خلال جائحة كورونا من خلال خوض رحلاتٍ كهذه، وفقًا للوري كريبس، بروفيسورة الجغرافيا والاستدامة في جامعة "سالم ستيت". كما أن الجائحة أيقظت في الكثيرين الرغبة بالتمتّع بالحياة قبل حلول الأجل فجأة، كما تقول "كورتني إيانوتشي"، المسؤولة عن التسويق في شركة Active Adventures.

تغيّر المناخ سبب آخر لازدهار هذا النوع من السياحة، فبعض الأثرياء يريد أن يكون آخر من يرى بعض الأماكن الطبيعية كالكتل الجليدية أو الجزر الموجودة في أماكن منخفضة قبل أن تصبح زيارتها مستحيلة بسبب تغيّر المناخ.

نه

والتباهي بشكلٍ عامٍ هو سببٌ آخر يفسّر رغبة إنسانٍ ثريٍّ برؤية هذه الأماكن. ولعل هذا الاقتباس لإيانتسوكا يلخّص ذلك تلخيصًا وافيًا، إذ يقول: "كثيرٌ من الناس يحبّون جمع هذا الشيء أو ذاك. نحن نحبّ جمع القارات." فلربما يصبح المال سلعةً باليةً عندما تملك أنت وأصدقاؤك الملايين، ولكنك لا تزال تملك حظوة الذهاب إلى مكانٍ لم يذهب له غيرك أو رؤية شيءٍ لم يره غيرك، ولك أن تتخيل أن الانتشار الهائل لشبكات التواصل الاجتماعي سيُغري أي إنسان بالتباهي برحلاته الفريدة والخطيرة.

على ذكر الاقتباسات وشبكات التواصل، يبيّن اقتباسٌ آخر لـ"هارنيش هاردنغ"، أحد ضحايا غواصة تايتن، جانبًا آخر يفسّر ولع الأثرياء بهذه الرحلات. ففي شهر آذار/مارس 2021، نشر هاردنغ صورة لتكريمه بعد كسره الرقم القياسي لأسرع وقتٍ للسفر في طائرةٍ فوق القطبين الشمالي والجنوبي، إذ استطاع هاردنغ فعل ذلك بزمنٍ لم يتجاوز 46 ساعة و40 دقيقة و22 ثانية.

وقال هاردنغ وقتها إن الفضول "إدمانٌ يستحوذ عليك"، وأن هدفه هو "استكشاف الأرض كلها وما وراءها".

فالفضول، على النقيض من حبّ التباهي أو حبّ المغامرة، هو ما قد يدفع بإنسانٍ يملك فائضًا من الوقت والمال لخوض رحلةٍ كهذه. ينطبق ذلك على "مايك ريس"، أحد كتاب مسلسل سيمبسونز الذي سافر في غواصة تايتن قبل عامين. يصف ريس نفسه بأنه لا يحبّ الإثارة، بل "كل ما يريدونه [من هم مثله] هو رؤية الأشياء... لن أقفز من طائرةٍ، ولكنني أرغب بالسفر إلى إيران أو العراق أو التايتنك لأراها."

وهذا ما يذكره أيضًا بعض منظّمي هذه الرحلات مثل باميلا ليزرس، مديرة العلاقات الإعلامية، في شركة أبيركرومبي آند كنت التي تصف زبائن الشركة بأنهم "زبائن من مستوىً راقٍ فعلوا كلَّ شيءٍ بحياتهم." وهنا يستعين هؤلاء الأشخاص بمثل هذه الشركات من أجل تجربة مغامرةٍ مثيرةٍ لعلها تشفي هذا الفضول والسأم الذي لا شفاء منه، وتمنحه شيئًا من الرصيد الاجتماعي والغرور على حساب أقرانه.

وسببٌ آخر يذكره سكوت سميث هو"رغبتنا بخوض تجارب حقيقية، بدلًا من التجارب المصطنعة. والفرق بين هذا وذاك هو مثلًا ذهابك إلى حديقة الحيوان مقابل ذهابك إلى السفاري لرؤية الحيوانات على طبيعتها."