15-أبريل-2020

ميغيل فيلالبا سانشيز/ إسبانيا

"جسدك متيبس باستقامة، يداك مضغوطتان بشدة إلى ركبتيك، وألم الاحشاء والارهاق تفتكان بنفسك المثكلة". - لا، ليست هذه شهادة لأحد مصابي كورونا - "وعيناك تغشيان تقريبًا وانت تُحدق بالجدار المُصفرّ لـ بيت السجن". إنها شهادةُ معتقلٍ شيوعي في سجون إحدى الدول "المتحضرةِ" في الأربعينات.

الصدمة هي تلك الحالة التي تساور الشعوب حينما تفقد لغتها، أي سرديتها للماضي القريب والقادم البعيد. هي حين يفقد الفرد أو الجمع تاريخه

من هونج كونج وكاشمير وإيران حتى تشيلي وكولومبيا، مرورًا بفرنسا والحدود التركية الأوروبية وعالمنا العربي. شهد عام 2019 أعظم تزامن في الهبّات الشعبية منذ التسعينيات. تتباين كل منها في تفصيلاتها إلا أنها كُلها أخذت لنفسها خطابًا يصدح ضد النيوليبرالية، مُستحضرةً تاريخ النضال ضدّ الرأسمالية وتجلياتها، ومعلنةً لمّ شمل صيرورة الشعوب مُقطّعة الأوصال في الحرب ضدّ "دول الأمر الواقع". فتحولت بيوتُ الناسِ المقهورةِ والمُستَغلة إلى ملاجئ للثوار متجاوزةً بذلك دورها الوظيفي كمساكن مأجورةٍ ومُستأجرة.

اقرأ/ي أيضًا: المؤامرة والعار في زمن كورونا.. نظريات أم فيروسات؟

في لُبناننا، كانت حركيّة الشارع تعيد خطّ ذاكرة النضال وتجديده بكل تأنٍّ وبكل إقدام، وإن لم نستطع التماس الذروة المرجوّة بعد. فبدأ عامنا بحراك المخيمات الفلسطينية، حراك أخذ على عاتقه تعريةَ منطق القانون اللبناني الذي يفوق في أنماط استغلاله للعمال أنماط الاستباحة التي اشتهرت بها دول مثل ألمانيا في الأربعينيات، وإسبانيا في العشرينيات.. وغيرها من أنظمة الحكم التي جاهرت بمنطق الأعراق. فضح حراك المخيمات منطق العمالة في لبنان، ممهدًا لحرب على منظومة الاستغلال التي تحيا عليها الطبقة الحاكمة اللبنانية. وأثناء هذا المخاض انفجرت الجامعة اللبنانية، بقيادة جسدها الطلابي ضدّ سياسات التهميش والعَزل الذي تعيشه الجامعة الوطنية بموجب سياسات الخصخصة والمحاصصة. ثار الطلابُ مع الأساتذة ضدّ مستغِليهم من السلطة الحاكمة. وبعدها ثار الطلاب عينهم ضدّ تخاذل الجسد التعليمي وسياساته المساومة، فكان نفي النفي مسلكهم المنطقي نحو حماية سيادةِ الطلاب على مصير ومسار جامعة الفقراء. وقُبيل تبلور حوار بين هذا الحراك وذاك، كانت الثورة اللبنانية قد اندلعت في جميع أرجاء لبنان، وجلست تعيد حياكة أنماط التفاعل الشعبي. فترى سمات التضامن تتفتح مُمهدةً بذلك لنهضة في الحس الطبقي. فتحولت بيوت سكان لبنان إلى ملاجئ للثوار ومراكز لاجتماعاتهم ومشاف لإصاباتهم، متجاوزةً بذلك دورها الوظيفي كمساكن مأجورة ومُستأجرة.

وهذا ما كان يحدث في مُعظم الأصقاع المنتفضة في العالم تمهيد متواضع، ولكن صادق لعملية التفكك عن بنيان النظام الرأسمالي المالي، نحو تنظيم في أوساط الطبقات المستَغَلة التي إن تحركت ستُجهز على وجود الدولة الرأسمالية. كشّرت الدول في كل العالم عن أنيابها، معلنة "الحرب على الشغب" بمؤسسات قمعها من عسكر وإعلام. ولكنها لم تنجح في اخماد الغُلّ الذي يُحرر مدن العالم من نير برجوازياتها والمصارف. وفجأة وبين عشيةٍ وضحاها قبل أن يجف العرق عن كوفياتنا، ظهرت علينا كورونا! وأتى معها القرار مُشرَّعًا باسم العلم: تباعدوا! لكي ننقذكم. فتباعد منّا من له مساحةً يرسم فيها بُعدًا. وعاد المُخيم الفلسطيني لاكتظاظه ووحدته والمخيم السوري إلى برده وعرائه وعامل النظافة إلى الباصات المكتظة مع زملائه من عمال الشركات الخاصة، والسجناء بقوا في سجونهم والمشردون إلى وحدة أرصفتهم تحت الجسور يسامرون ظل الكنائس المغلقة.

تفرقوا! فتفرقنا وبقي عمال العمار يصقلون الحجارة من فجر إلى فجر واللاجئات السودانيات مع أطفالهنّ أمام مكاتب الأمم يُنكّل بهنّ من عناصر أمن الدولة. فيما أبناء أحياء التنك ما زالوا يتأملون فيما يتنفسون، هواءً من ملح الدمع يُعزّي مع كل أنين موت الأوطان. وتباعدنا، وها هو البُعد يطول. وفي البُعد والخوف، تتشتت ذاكرة الإنسان، فتبدو ابتسامات الرفاق في الساحات فعلًا بعيدًا والعناقات وإيقاع التصفيق والقافية في الأناشيد والهتافات تبدو كلها متلعثمة. تباعدوا! قالوا لنا، وليذهب من لا مكان له إلى الجحيم. وليذهب من لا مكان له في هذا العبث المنظم لمساحات الفراغ إلى الجحيم. ولمن يُريد الثورة لأجل كرامة أولئك، فلتفتك به الكورونا. ولشريعة الوقت أن تُنظف من بيوتكم معالم الثورة وتُحولها إلى زنازين.

ليذهب من لا مكان له في هذا العبث المنظم لمساحات الفراغ إلى الجحيم. ولمن يُريد الثورة لأجل كرامة أولئك، فلتفتك به الكورونا

عودوا إلى زنازينكم المُستَأجرة. عودوا إلى أزمانكم الساكنة، الى أحلامكم المقطعة. واقتلوا الحركة في جغرافياتكم المستَعمرة، اقتلوها بكفين راجفتين وبطواعية على مهلٍ دونما جنازة ولا أجراس ولا قرائين ولا كؤوس. واتركوا الذاكرة للماضي، خدروا بها الحاضر المشؤوم. وارتجفوا! ارتجفوا جوعًا وعطشًا ومهانةً، بصبرٍ موتوا وبرضى امضوا. فها هي أسواقُنا لتستهلكوا.. وها هي شركاتُنا ومعاملُنا لتموتوا تعبًا ومللًا ووحدةً بين جدران ضيائها الباهت. وها هو إعلامنُا ليُنظّم لكم وقت البُكاء والضحك. يُساعدكم على تطبيع المَهانة والعجز وتبرير اليأس بالخوف. إن عُدتم إلى منازلكم وسكتّم لعرائكم فعين السلطة ترعاكم، وإن رقصتم في شوارعكم دونما إذن، فعين القناص لن تشفع لدمعة آلام في ذكراكم. وها هي حُروبنا تأتيكم على ظهر الدبابة، والدبابة بأسهم البنوك تشيَّد، والأخيرة بغبرة البارود تَصوغُ عقودنا الاجتماعية، فتبدو أوروبا اتحادًا فيما تتشظى قنابل غازها فوق لاجئينا المشرذمين على حدودها بداعي الإرهاب وهدر مقدرات الدول. عودوا إلى زنازينكم وانغمسوا في خوفكم، وليعود حُكم الطاعة وثقافة الاستلاب إلى عرش الزمان. ولتنسوا أنكم بدأتم قصة جديدة، فالكارثة البيئية هذه أكبر من أحلامكم الثورية. ونحن، آلة البطش والاستغلال المنظم المدعوة بالدولة، نحن خلاصكم من هذه الصدمة.

اقرأ/ي أيضًا: رئيس الحكومة اللبنانية الجديد.. خطاب بعِدة التسعينات

ليست الصدمة تلك الحالة التي يغرق فيها الإنسان حين يباغته حدث غير متوقع بذاته. الصدمة هي تلك الحالة التي تساور الشعوب حينما تفقد لغتها، أي سرديتها للماضي القريب والقادم البعيد. هي حين يفقد الفرد أو الجمع تاريخه، أو تتكسر معالم تاريخه في نسيان يصيب الجمع بسبب شقاء الأيام. ذاك الشقاء الذي لا يترُك وقتًا للتفكر بربط الذاكرة بالحاضر عبر رؤية نحو المستقبل. فنصبح أسرى الحاضر والرعب الذي يُسيطر عليه. ويمسي التاريخ مقطعا بدلًا من أن يكون صيرورة، فننسى من نحن وننسى حجة وجودنا التي نستقي منها قوة الموقف. فالدول الرأسمالية تُدرك أرجحية تخلي الشعب تحت طائل التمسك بالحياة عن نفسه المتمردة، وسيهجُر إرادة الفعل السياسي في زنزانته. أي أنه وبعد أن تنقشع الجائحة سيتوانى عن الاحتجاج على المُنتظم الاستغلالي، الذي تتكئ عليه الدولة لإعادة انتاج مصالح برجوازيتها. وسيستكين دون تكاليف للمصير الذليل. سيعدُل عن مواجهة خطاب الحُكم ولن يكترث لأي عملية خصخصة أو بيع لمرافق البلاد وثرواتها. سيكتفي السجين في بيته بأي إصلاح يضمن له قدرته على التنفس حرفيًّا. هكذا يُستلب الجسد ويصادر. هذه هي رأسمالية الكوارث: استغلال الدولة لكارثة ما، سواء كانت هجومًا إرهابيًا أم زلزالًا أم وباء، لإعادة إنتاج الهيمنة (hegemony) السياسية والثقافية في البلاد التي تصون فعل الخنوع والانعزالية والمطاوعة لدى الجماهير.

لا ليست حربًا بيولوجية، وسيان إن كانت أم لم تكن، فالحرب ضدّ أجسادنا رافقت فكرة الدّولة منذ مهدها الأوروبي الأول. الحرب على أجسادنا بدأت مع هندسة الزنازين وأصفاد الحديد وهدير ناقلات الجند، بدأت مع طباعة العملة الأولى، بدأت حين فُرض المال علينا مرجعًا لقيمة الإنسان ونوعية غذائه ودفء مسكنه وسعر دوائه وكلفة الورود على نعشه. فأصبح المال إلهًا نتصومع إليه في بنوك البرجوازية الحاكمة والمتحكمة. نترك لهذا الإله أن يُحدد لنا قيمة شقائنا والمصير في مجهولنا. والمجهول لا يُصيب إلا غد الفقراء. إذًا تباعدوا اجتماعيًا – يقولون لنا - واتركوا الفقراء لعزلتهم. اتركوا عمال النظافة والعمارة وحراس المباني. اتركوا المياومين ليشاركوا اللاجئين كفنًا أو شاهدًا. موتوا أيها الفقراء بصمت وببطء مدروس. ليحتسِ الباحث – بعد أُفول ثورتنا التي أتت جائحة على السلطة - قهوة في بيروت مُعدّةً من بُنٍّ مسروق من فلاح آسيويّ. وليفرش الباحث كتبه وحاسوبه على مائدة في مقهى اشترته أموالٌ انتُزعت من شقاء فلاحي آسيا والقارة السمراء. فينسى المرء أن شارع المقهى اكتنف هتافات الحركة الطلابية في الستينيات، وحفيف نعل الفدائيين في السبعينيات. يُمحى التاريخ قسرًا ليحتسي الباحث القهوة، قبل أن يبيع قصة نازحي عرسال إلى جامعة فرنسية تنقب عن شجر الكاكاو في أفريقيا، فتبيعُها لجيوش تشيلي قُبيل إعدام فلاح مختبئ بين قرى الكاريبي الجائعة، قبل إكماله رسالة حبّه لعاملة منزل في بيت لبناني فاخر. أليست دوامة رأس المال تلك حربًا على الجسد والنفَس والارادة؟

الحرب على أجسادنا بدأت مع هندسة الزنازين وأصفاد الحديد وهدير ناقلات الجند، بدأت مع طباعة العملة الأولى

اقرأ/ي أيضًا: الحكومة اللبنانية تأخذ الثقة وسط قنابل الدخان

"جسدك متيبس باستقامة يداك مضغوطتان بشدة إلى ركبتيك، وألم الاحشاء والارهاق تفتكان بنفسك المُثكلة".. لا، أيها القارئ ليست هذه شهادة لأحد مصابي كورونا، "وعيناك تغشيان تقريبًا وانت تُحدق بالجدار المُصفرّ لـ بيت السجن ". إنها شهادة مُعتقل شيوعي في سجون الاستعمار في الأربعينيات. كان يكتب في مذكراته "بيت السجن"، لأنه اعتقد أن البيوت، إن نام الخوف طويلًا بين جدرانها صارت سجونًا لقاطنيها وللمشردين من حولها.

لن يبقى لدينا الآن ما نعطيه سوى الوعد بالمواجهة.

 

  • العنوان من قصيدة محمود درويش "نشيد الموتى".

 

اقرأ/ي أيضًا:

في زمن كورونا: إجراءات جديدة لمصرف لبنان تهدد الليرة

اليوروبوندز على الأبواب.. لبنان يدفع، لا يدفع؟