05-أبريل-2020

وفر تفشي فيروس كورونا بيئة خصبة لنظرية المؤامرة (Getty)

يعتقد هنري كسنجر أن العالم بعد كورونا سيكون في خطر. وما يقصده كسنجر، طبعًا، هو أن مصالح الولايات الأمريكية في العالم ستكون في خطر. بالنسبة للبعض قد يكون تأويل مخاوف وزير الخارجية السابق على هذا النحو، أقرب إلى نظرية المؤامرة، من الحقيقة. وبالنسبة لآخرين، قد يكون نتيجة فهم أدق لمقاصد كسنجر، إن كان ذلك من خلال العودة إلى عمله السياسي عندما كان ناشطًا في الحكومة، أو إن كان عبر مؤلفاته عن النظام العالمي. بعد تأنٍ بسيط، يمكن موافقة كسنجر ـ بحذر ـ على أن هناك تغيرات قطعية الحدوث. لكن ما نعرفه هو أن تحديد التغيرات في العالم، بعد كورونا، سيستدعي أبحاثًا طويلة. بعض المعلّقين والمحللين وممن يسمّون أنفسهم باحثين، وفروا على أنفسهم كل هذا التعب. "مؤامرة"، قالوا.

بالدرجة الأولى، المؤامرات محببة ربما لأنها تنطلق من حدث حقيقي. ليست خيالًا تامًا. ثانيًا، لأن المؤامرات تحدث فعلًا. ولكن، ثمة فارق كبير بين "المؤامرة" وبين "نظرية المؤامرة"

مؤامرتان حول قصة واحدة

لهواة النوع، كما يقال، كل شروط "التآمر" الدسمة موجودة في مسألة تفشي فيروس كورونا. في المرحلة الأولى، كانت البداية في الصين ــ العالم "يتعاطف" مع ووهان. الصين وحدها. التفشي في إيران. مفاجأة في مدينة قُم. موت على الأرصفة. عدد الضحايا الإيرانيين من دائرة ضيقة قريبة من المرشد يرتفع فجأة. الفيروس يصل إلى العراق ولبنان. لا ضحايا في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم وجود "شايناتاون" و"ليتل ايتالي". كان هذا كافيًا، بالنسبة لكثيرين لبناء سردية تقول إن الولايات المتحدة اخترعت الفيروس، ونقلته في "باصات" إلى الصين، ثم استغلت الانتخابات في إيران لكي تنشره هناك بالتزامن مع فرضها للعقوبات. واستدل هؤلاء إلى هذا الرأي بعدم وجود إصابات في أمركا. لا يمكن أن يجد هؤلاء شروطًا أفضل من هذه.

اقرأ/ي أيضًا: حرب عالمية على الإمدادات الطبية؟

في المرحلة الثانية، اختفى الفيروس من الصين. الرئيس يحتفل فجأة في مدينة ووهان. عدد الوفيات في إيطاليا هو الأكبر. الأشباح تستوطن لومبارديا. ألمانيا تغلق حدودها وفرنسا تفعل مثلها. الاتحاد الأوروبي يهتزّ. بوريس جونسون مصاب بكورونا. المصابون في الولايات المتحدة هم الأكثر في العالم. سيصلون إلى المليون. وهذا صار كافيًا، ليس لتأكيد سذاجة "المؤامرة" الأولى وحسب، بل لما هو أسوأ، أي لبناء فرضية عن مؤامرة جديدة، لكن بالمقلوب. التفكير بالمقلوب ممكن أيضًا. لا يستدعي البحث في معطيات اقتصادية، وفي حسابات جدية، بل يتيح الاكتفاء بالخيال، وبناء السرديات. المؤامرة مسألة "محببة". لماذا؟

الحقيقة والخيال، الخيال والحقيقة

بالدرجة الأولى، المؤامرات محببة ربما لأنها تنطلق من حدث حقيقي. ليست خيالًا تامًا. ثانيًا، لأن المؤامرات تحدث فعلًا. ولكن، ثمة فارق كبير بين "المؤامرة" وبين "نظرية المؤامرة". المؤامرة هي حادثة يمكن الإشارة إليها بوضوح، أي أن مساحة الحقيقة فيها أكبر من مساحة الخيال. أما إعادة صياغتها كنظرية، فهو نتاج لجمع تصورات اتهامية تطغى فيها مساحة الخيال على مساحة الحقيقة. وإن كان عدد كثير من الباحثين قد ناقش فعلًا نقاط الاختلاف بين المؤامرة كحادثة وبين المؤامرة كنظرية، فإن التمييز بين المسألتين يبقى شائكًا وملتبسًا. فغالبًا، الذين يؤمنون باختراع مؤامرة، هم يؤمنون بقدرتهم على الاختراع، أكثر من ايمانهم بالمؤامرة نفسها. المؤامرة المُنتجة ليست مهمة بحد ذاتها، بقدر ذلك الشعور بالتفوق الذي يوفره شعور المخترِّع. إلى ذلك، أحيانًا يكون الفاصل مجرد خيط رفيع.

شريط مايكل مور عن أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر هو أحد أبرز هذه الأمثلة على ذلك. للرجل مواقف محقة في قضايا كثيرة، وهو ما لم يخترع في فيلمه. استعاد أحداثًا، وعرض لقطات من الأرشيف. لكنه اخترع كل شيء أيضًا. اخترع المؤامرة. شريط مايكل مور، هو مثال على "شهية" المؤمنين بالمؤامرة، ليس للتصديق، بل لإقناع الآخرين بأنهم يجب أن يصدّقوا هم أيضًا. الاكتفاء بالعرض والتحليل، يمكن أن يقود في نهاية المطاف إلى افتراض وجود مؤامرات، ويبقى في هذه الحدود مسألة صحية، طالما أن النُبل في السياسة مسألة رومنسية.

 إذًا، الإصرار على المؤامرة، يعكس اصرارًا على الخلاصات التي لم تتحول إلى حقيقة بعد. أوليفر ستون اتخذ منحى مختلفًا عن ذلك الذي اتخذه مور، ورتّب مؤامرة لكشف نظرية المؤامرة. في فيلمه الشهير، قدّم ادعاءات وقرائن ونظريات عن اغتيال جون كينيدي. كانت حججًا قوية، ثم استطاع دحضها بقوة عبر الفيلم ذاته. هل يصح هذا في مسألة كورونا؟  يكفي العودة إلى مرحلتي انتشار الفيروس. الأولى في الصين وإيران، والثانية في أوروبا وأمريكا.

بالعودة إلى سينما الماينستريم في أمريكا، سنجد دائمًا وبطريقة غير مفهومة، عددًا كبيرًا من الكائنات الفضائية التي تهاجم كوكبنا. مع أن هذه الفكرة صارت مملة ولم تعد مسلية، إلا أنها ما زالت تلقى قبولًا من صانعي السينما، وتجد جمهورًا عريضًا أيضًا. من ضمن السلة، سنجد أبطالًا يتصدون للكائنات التي تهاجم الكوكب، ويكون معهم أو خلفهم دائمًا، أشخاص يفهمون "الحقيقة" قبل غيرهم، أو أكثر من غيرهم. ليس معقولًا أن يكون كل هذا القلق هو مجرد "ابداع" في عرض اللقطات من الفضاء. ربما يكون تمرينًا لإخضاع رأي عام عريض، لكيفية الاستجابة مع الأخطار الآتية من الخارج. وفي وقت تنغلق فيه كل دولة على نفسها، وتنسحب إلى داخل حدودها، يصير كل شيء آتيًا من الخارج.

العار المجاني

غالبًا، الذين يروجون ضد نظرية المؤامرة، يستخدمون نظرية المؤامرة للترويج ضدها. ودحض نظرية المؤامرة، لا يعني عدم وجود مؤامرة فعلية. وهناك صراع بين البشر على تسجيل نقاط في معارك الفهم، وضمن عملية اعتراض على منظومة العلاقات داخل المجتمع، فيما يخص التلقي والتفسير. وبسبب عدم الوضوح في صورة الوباء، وطفرة التحليلات غير العلمية لتفسيره، يشعر كثيرون بالحاجة إلى تفسير الحدث الجلل، بتحليل على ذات الدرجة. وبينهم، من سيشعر بالعار، لمجرد الإصابة بفيروس. في لبنان، وفي بلدان عربية أخرى (وغالبًا هناك حالات مشابهة في جميع دول العالم)، شعر كثيرون بالعار، أو بالخجل، لالتقاطهم الفيروس. هناك أشخاص هربوا رفضًا لإجراء الفحوصات. وإن كان الشعور بالخوف من مرض مجهول أمرًا مفهومًا في البداية، إلا أن تفسير الشعور بالخجل يحتاج إلى أدوات سيكولوجية خاصة.

مثل أي سلوك، يحدد مفهوم العار وفقًا لأبعاد تاريخية واجتماعية. وفي أيامنا المعاصرة، ما زالت هذه القاعدة شائعة، حتى أن قوة العار أحيانًا تُضخم في بعض الثقافات لتحدد طبيعة السلوك. لكن هناك أيضًا ميل واضح في العالم لتقليص حضور العار والخجل، وتناقض آثاره، في مواقع مختلفة. رغم ذلك، هناك من يخجل من التقاط فيروس. أحيانًا، لا يعود العار مقبولًا، على نحو يجعل التكيف معه أمرًا مستحيلًا، تمامًا مثل حالة مرضى نقص المناعة المكتسبة (إيدز) في بلداننا العربية حيث يخضع هؤلاء لتصورات خاطئة غالبًا، وفي جميع الحالات يلازمهم شعور بالعار عن وقوعهم في خطيئة "اكتساب" المرض، وليس في "خطيئة" جنسية بحد ذاتها. يشبه هذا، العلاقة بين الكورونا والمؤامرة، بحيث يروج بعض المروجين لنظرية مؤامرة، لصرف النظر عن أن مسألة العدالة الاجتماعية تقتضي حصول جميع الناس على رعاية صحية.

في حالة الشعور بالعار، عمومًا، يمكن أن تكون العزلة الذاتية التي يذهب إليها المصابون عاملًا في تعزيز الشعور بالعار، لأنها ستغذي ذلك التصور عن النقص وعن الضعف، وتاليًا عن كل ما هو "عيب". وهي ليست كذلك فعلًا. وعلى ما يبدو، في مسألة كورونا، الشعور الغريب بالعار، نتيجة التقاط فيروس بالخطأ، مثل الشعور المبالغ فيه بالمؤامرة. أمر يصعب اقناع حامليه بالتخلي عنه بسهولة، لأنه قد يولد لديهم إصرارًا على نظرياتهم، والتمسك بها، بدلًا من التركيز على الاستفادة من الحادثة، لإعادة إنتاج خطاب جديد عن العدالة الاجتماعية ولأجلها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ما وراء المساعدات الروسية لإيطاليا.. كيف تستثمر موسكو جائحة كورونا؟