03-أبريل-2024
صلاح الدين الأيوبي

صورة متخيلة للقائد العادل صلاح الدين الأيوبي في ساحة الجهاد

يذكر المؤرخ والمحقق الإسلامي الدكتور علي الصلابي في كتابه (صلاح الدين الأيوبي) أن الحرب الصليبية ضد الإسلام سابقة على تأريخ مرحلة معينة بتلك التسمية، فقد تبدى هذا العداء منذ عهد الرسالة، لتخوف البيزنطيين من الدولة الإسلامية الوليدة، فخاض المسلمون معارك ضد الروم في مؤتة وتبوك، وحتى الفتوحات المدافعة عن حدود الدولة الإسلامية المتاخمة لمناطق الإمبراطورية البيزنطية. فاستمرت المناوشات في عهد الامويين حتى خلت بلاد الشمال الإفريقي من الوجود البيزنطي وانحسرت الصراعات في الأراضي الفراتية والأناضول بمعقل الدولة البيزنطية آنذاك القسطنطينية. وعلى صعيد آخر دارت رحى العداء الصليبي-الإسلامي بين الإسبان وحلفائهم ضد العرب المسلمين في الأندلس.

والحملات الصليبية الممتدة تتحرك بدوافع دينية وأطماع سياسية واقتصادية. وكانت الدولة الإسلامية في العصر العباسي المتأخر في حالة وهن وضعف وتفكك وصراع بين الخلافتين العباسية في العراق والفاطمية في مصر، فظهرت الغلبة للصليبيين على المسلمين وكان أبرزها احتلالهم لبيت المقدس وتدنيسهم لقدسيته. حتى جاء محررها صلاح الدين الأيوبي. فمن هو هذا القائد الذي صلحت بقيادته أحوال المسلمين في دينهم ودنياهم؟ في المقال محاولة متواضعة للإحاطة بسيرة القائد الجليل وإلقاء الضوء على المرحلة التي عاش فيها.

 

صلاح الدين الأيوبي والدولة الأيوبية

كانت الدولة الإسلامية في حالة وهن وتفكك، ولكن أبت أرحام المسلمات إلا أن تلد رجالًا أحرارًا ليشبوا على معاني الجهاد والأنفة والحرية، فلم تخلُ الساحات من المجاهدين من قادة وولاة وفقهاء وعوام الجند والناس. وقد تولى السلاجقة الأتراك الدفاع عن حياض الإسلام، وقد خاضوا نزاعات طويلة مع الصليبين، حتى أمسك عماد الدين زنكي زمام الجهاد وحرر الرها (التي كانت أولى الإمارات الصليبية عند نهر الفرات) وكانت ثغرًا هامًا للصليبين في الدفاع عن وجودهم في عمق الدولة الإسلامية، وكان الصليبيون يعدونها أشرف المدن بعد بيت المقدس والقسطنطينية. فتعالت روح الجهاد بين المسلمين وعلا شأن عماد الدين كقائد عسكري محنك ومجاهد مشهود له بالصلاح والغيرة على الأمة، ومضى في هدفه لتحرير بيت المقدس وديار الإسلام، وكان عليه أن يبذل الغالي والنفيس في سبيل توحيد كلمة الأمة والتخلص من عوامل الضعف والتفكك.

 تمركز الوجود الزنكي في حلب، وخلف نور الدين محمود أباه عماد الدين، وأكمل مسيرة أبيه في الحكم والجهاد ضد الصليبيين. ومن أبرز ما حققه على صعيد الوضع الداخلي إنهاء حكم الدولة الفاطمية في مصر التي أفسدت على المسلمين شأن دينهم ودنياهم. وجعل الخطبة للخليفة العباسي في العراق، وبذلك توحد جناحا الأمة واشتد عودها، خاصة بعدما تولى صلاح الدين حكم مصر بأمر من نور الدين زنكي بعد أن كان وزيرها لدى الفاطميين، ورحب فيه أهل مصر لما وجدوا على يده من العدل والإنصاف، كما يوثق تلك الحقبة الرحالة المسلم ابن جبير.

عرف صلاح الدين بورعه وتقواه وحرصه على الصلاة والزكاة وكرمه وبسالته وحبه للجهاد

نسب صلاح الدين الأيوبي

ولد صلاح الدين الأيوبي  عام 1137 مـ في قلعة تكريت قرب بغداد، و يعود نسبه إلى أسرة كردية من أشراف الكرد ويعدهم ابن الاثير المؤرخ الإسلامي المشهور في كتابه (التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية) من أشرف الأكراد لأنه لم يجر على أحد منهم رق أبدا. أبوه نجم الدين أيوب، وعمه أسد الدين شيركوه أحد جنرالات عماد الدين وابنه نور الدين من بعده. كانا حاكمين على قلعة تكريت.

هاجر أبوه وعمه إلى الموصل والتحقا بعماد الدين زنكي، ودعما حكم نور الدين بعد أبيه، وضم دمشق إلى إمارة حلب، فنشأ صلاح الدين في دمشق، وتلقى علومه الشرعية والفروسية فيها. ونشأ في كنف نور الدين وأبيه وعمه ومنهم أخذ غيرته على الدين وصفات المروءة والفروسية. فولاه نور الدين منصب رئاسة الشرطة.

لازم عمه أسد الدين شيركوه في حملاته الثلاثة على مصر الفاطمية، وأبدى فطنة وحنكة في تسيير الأمور بالحكمة وحسن المشورة، حتى ضُمت مصر إلى إمارة الدولة النورية وخُلصت من حكم الفاطميين الرافضيين.

وكان صلاح الدين خير تحقيق لاسمه، فقد عرف بورعه وتقواه وحرصه على الصلاة والزكاة وكرمه وبسالته وحبه للجهاد ومروءته وتعظيمه لشعائر الدين، وعدله وحلمه.

الوزارة في الدولة الفاطمية

تولى صلاح الدين الوزارة في الدولة الفاطمية قبل إسقاطها وكان يأمر بأمر السلطان. فعمل على تكوين نواة جيش أيوبي ليدافع عن مصر ضد الغزو الصليبي، واستعان بالقاضي الفاضل وزير الإنشاء (الخارجية اليوم) وخبرته في أحوال القوات الفاطمية، فأشرف على شؤون قوات صلاح الدين، حتى استتب له حكم مصر حكمًا مطلقًا وبدل نظامها الإداري إلى نظام أيوبي سني.

تأسيس الدولة الأيوبية

يمكن اعتبار اللحظة التي توفي فيها نور الدين وانتقلت روحه إلى جوار رب هي بداية الدولة الأيوبية، ولن أقول نهاية الدولة النوريةـ ذاك أن صلاح الدين إنما كان حاكمًا مجاهدًا تربى في كنف نور الدين على التقوى وأداء الأمانة وبذل النفس في سبيل الجهاد، وبذلك تكون الدولة الأويوبية امتدادًا للدولة النورية وتكليلًا لها. 

بعد تمكين حكمه في مصر أمر ببناء المدارس مثل المدرسة الشافعية التي عرفت بالمدرسة الإصلاحية، والمدرسة الحنفية، وغيرها من المدارس السنية ليصحح عقيدة أهل البلاد من انحرافات الرافضة، كما حارب التشيع في الشام واليمن التي تعد من أقوى معاقل الدولة الفاطمية.

وتولى كذلك حماية طرق الحج فصار حامي الحرمين الشريفين فأسقط الضرائب عن الحجاج بل وأمر ببناء استراحات وأوقفها في سبيل خدمة حجيج بيت الله الحرام وأمن سبل الحماية للقوافل، وكان حريصًا على على إبداء الاحترام للخليفة العباسي واقتناعه بوجوب الطاعة والولاء للخلافة العباسية. وقد بلغ من محبة الناس له وقبولهم لحكمه وثقتهم بعدله أنه ما كان خطيب على المنبر يدعو للخليفة إلا ألحقه بالدعاء لصلاح الدين.

سببت وفاة نور الدين فراغًا في الساحة السياسية لعدم وجود من يخلفه، فابنه كان صغيرًا، ولم يثر هذا الفراغ مطامع الفرنجة وحسب حتى بدؤوا تحركاتهم ، بل أثار أطماع الولاة في الولايات المجاورة لحلب والشام.
ووصل الخبر إلى صلاح الدين وهو في مصر، وبقي يراقب الأحوال في الشام حتى اجتمع أمراء الشام ضده خشية من توليه حكم الشام واستبعادهم من مناصبهم، وهو لما رأى منهم العداء والسعي لهدم ما بناه نور الدين بدمائه ودماء المسلمين، قرر مغادرة مصر وضم الشام ومن بعدها حلب. وهكذا اضطر صلاح الدين إلى إعادة توحيد بلاد الإسلام من جديد في الشام وحلب والموصل، وهناك خطر الصليبيين يترصد به، وعينه على بيت المقدس يروم تحريرها. وخطر الاغتيال يلوح في الأفق.

تمثال صلاح الدين
تمثال لصلاح الدين في دمشق القديمة

محاولات اغتيال صلاح الدين

كانت فرقة الحشاشين الباطنية الشيعية حاقدة على صلاح الدين لإنهائه حكم الدولة الفاطمية في مصر، فتعاون الزنكيون والصليبيون والحشاشون لاغتيال صلاح الدين وتسلل القتلة إلى خيمته في إحدى معسكراته وفشلت المحاولة. مما دفعهم للتخطيط لاغتيال ثان، فتنكر القتلة بزي الجند ودخلوا المعسكر وكادوا يتمكنون من صلاح الدين لولا وجود بعض القادة الذين استطاعوا حمايته.
هذا كان دافعًا لصلاح الدين لغربلة الجند واستبعاد من يثير الريبة واتخاذ تدابير صارمة في تجنيد الشباب. وجعل من أولوياته القضاء على فرقة الحشاشين، وقد بادر إلى التخلص منهم حتى طالبوه بالصلح، وهدأت نار فتنتهم وكفوا أذاهم.

معركة حطين وتحرير بيت المقدس

لم يكن انتصار المسلمين في حطين وليد صدفة أو محض حظ، بل جاء تتويجًا لمرحلة من الإعداد المسبق والتخطيط المحكم. فبعد أن توحدت كلمة المسلمين وتكونت جبهة إسلامية قادرة على التصدي للصليبيين المتمركزين في عدد من المدن الساحلية، والمحتمين في حصني الشوبك والكرك في الأردن. كان من الضروري تحرير هذه البقاع لأن الوجود الصليبي فيها عائق أمام الوحدة بين مصر والشام، نظرًا لأهمية المدن الساحلية استراتيجيًا للصليبين؛ فهي بوابتهم للاتصال ببلادهم واستمداد العدد والعتاد منها. فما كان من صلاح الدين  إلا أن نظم غارات تضعف الوجود الصليبي وتربكه.

معركة صفورية

كانت أحوال الصليبيين في بيت المقدس متضعضعة في تلك الفترة مع موت الملك بلدوين الخامس بسبب الصراع على الحكم فآل الحكم إلى جاي لوزينان زوج الملكة اللاحقة ووجد الملك ريموند ملك طرابلس نفسه أحق بالملك فقرر التحالف مع صلاح الدين ضد حاكم بيت المقدس، فنصره صلاح الدين بغية إشعال فتيل جبهتهم الداخلية، وعقد معهم هدنة تقتضي فتح الطريق لصلاح الدين لدخول الأردن وفلسطين.

هدنة أخرى كانت معقودة مع رينولد شاتيون المعروف بـ (أرناط) حاكم حصن الكرك الذي اعترض قوافل الحجيج وسلبها وقتل حاميتها وأسر من فيها رغم الهدنة. ولما طالب صلاح الدين ماللك جاي لويزنان ملك القدس بالتدخل فشل الأخير في أن يقنع أرناط باحترام الهدنة مما نتج عنه شرخ في الثقة بين الحاكمين. وهكذا زادت الفرقة بين الصليبيين.

حرك صلاح الدين جيشًا إسلاميًا من مصر والشام والموصل باتجاه الكرك 1187 م لتأديب أرناط وتمويه أهدافه في التوجه إلى بيت المقدس محررًا. وحماية للحجاج المسلمين من اعتداءات الصليبيين. وأمر سرية منتخبة منهم بالإغارة ليلًا على حصن الصليبيين في صفورية وانتصر المسلمون نصرًا مبينًا. هذا دفع الصليبيين للاتحاد في مواجهة صلاح الدين في صفورية. 

 

معركة طبريا وحطين

اختار صلاح الدين التوجه نحو طبريا والإغارة على الصليبيين فيها لقطع الطرق عن الصليبيين والتحكم في إمدادات المياه وقطعها عنهم. ولإجبارهم على ترك صفورية وملاقاته في موضع يختاره هو. ووقع الصليبيون في فخ صلاح الدين وتوجهوا نحو طبريا وصفوفهم منشقة وجندهم مرهق وأمرهم متفرق.
واجتمع الجيشان في حطين ولما بدا تفوق المسلمين في العتاد والإعداد اضطربت صفوف الصليبيين وأدركوا تحقق الهزيمة، فاختار ريموند حاكم أنطاكية الهرب وأمّن له المسلمون الطريق بموافقة صلاح الدين، وهذا طبعًا زاد أسباب الوهن والضعف لبقية الجيش الصليبي، بعد حين من الاشتباكات بين الجيشين خسر الصليبيون وقتل جندهم وأسر الملك جاي لوزينان وأرناط.

ولعل معركة حطين مفتاح تحرير بيت المقدس؛ لأهمية نتائجها التي انعكست على المسلمين والصليبيين على حد سواء، فالصليبييون ضعفوا وتساقطت حصونهم وقلاعهم في المدن الساحلية ووهنت كلمتهم وزادوا فرقة، بينما العكس للمسلمين الذين التفوا بمزيد من العز حول صلاح الدين واستمسكوا بالجهاد واستشعروا قرب النصر ونيل شرف تحرير بيت المقدس.

تحرير القدس حلم طال الإعداد لتحقيقه

خطط صلاح الدين لتحرير مدن الشام الساحلية قبل التوجه إلى بيت المقدس ليضمن استقرار الأوضاع التام في القدس بعد تحريرها، وليمنع الفرصة عن الصليبيين في الحصول على امدادات من أوروبا. وعندما توجه نحو بيت المقدس أعلن النفير العام في كل البلاد يستحث المسلمين على الجهاد، فوصله المتطوعون والعلماء والفقهاء من كل مكان. كما استدعى الجند المصري ليقطع عن الصليبيين وصول مدد إليهم من الجنوب. وجهز جيشه لحصار بيت المقدس الذي تحصن فيه الصليبيون أشد تحصين لمكانته في نفوسهم.

ابتدأ جيش الصليبيين في الهجوم ورد المسلمون عليهم في معركة امتدت حوالي 3 أيام (من شهر أيلول) ضربًا بالمجانيق ورميًا للسهام، حتى أحدثوا بعض الثغرات في الأسوار، وتمكن جند المسلمين من اختراق السور ووجدوا صدًا مستميتًا من الصليبيين، كمن يحاول الدفاع حتى الرمق الأخير رغم يقينه بهزيمته!
قرر الصليبيون لما وجدوا الهزيمة محققة إرسال وفد إلى صلاح الدين يطالبون بالأمان مقابل تسليم المدينة، فلم يلب صلاح الدين الطلب، ولكنهم أعادوا عليه وأصر هو على فتح المدينة بالسيف ثأرًا للمدينة على كل ما تعرضت له من تدنيس، فحاول المفاوض استثارة حمية صلاح الدين بقوله إن الصليبيين سيقتلون من في القدس؛ من أنفسهم ومن رعايا المسلمين؛ وأنهم سيحرقونها ويخربونها بما فيها من مقدسات إن لم يعطهم صلاح الدين الأمان. فاستشار صلاح الدين قادته وأشاروا عليه بإعطاء الأمان ضمن شروط الفدية وكأن من في المدينة أسرى حرب يجب أن يفتدوا أنفسهم. وقد كان ذلك في 12 شهر تشرين الأول 1187. وقد أخلى الناس بيوتهم وافتدوا أنفسهم ما استطاعوا.

رفعت الأعلام الإسلامية بعد حصار القدس 12 يومًا، وشاء الله أن يكون الفتح في 27 رجب ذكرى الإسراء والمعراج، ودخل صلاح الدين وجنده إلى المدينة وجاسوا خلال الديار ، وأمر صلاح الدين بترميم المدينة وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الغزو الصليبي، وأمر بتطهير المساجد وساحات الأقصى ومصلياته، وأرسل وفوده حاملين البشرى إلى أصقاع العالم الإسلامي.

على أن الحكاية لم تنته بالنصر المظفر فقط، فقد كتب على هذه البقعة من أرض الله أن تظل هدفًا للمستعمرين والطامعين، كل يدعي نسبة شرفها وجلال قدرها إليه، فما لبث الصليبيون أن لملموا شعث نفسهم تحت إمرة ريتشارد قلب الأسد محاولين استعادة ماء وجوههم في حملة ثالثة، فهاجموا عكا ويافا بغية استعادة بيت المقدس، ولكنهم لم يتمكنوا منها بل اضطروا بعد نزاع طويل مع المسلمين إلى التفاوض على مدار أشهر ترتب عليه توقيع العديد من العهود والمواثيق وابتعاد ريتشارد قلب الأسد عن القدس، وفشل الحملة الصليبية الثالثة.

 

بعدما رجع صلاح الدين إلى دمشق، مرض فيها واشتد عليه المرض والحمى حتى فاضت روحه إلى بارئها في 1193م، وعمره بحدود 55 عاما قضى جُلها مجاهدًا صابرًا، فاضت روحه الزكية التي بذلت في سبيل الله والمقدسات كل جهد وما هدأت إلا بتحرير أقدس المقدسات وتطهيره من دنس الصليبيين.