01-فبراير-2017

القدس أثناء الحروب الصليبية لـ جيسون أسكي/ جنوب أفريقيا

مرت العلاقة بين حضارتي شمال وجنوب المتوسط بتعقيد شديد، منذ بداية اختلاطهما. فبعد أن كانت سيادة العالم قبل القروسطي محلّ نزاع بين إمبراطورية فارس، ذات العقيدة الزرداشتية، أو كما تعرف تحقيرًا بالمجوسية، وجناحا العالم المسيحي؛ بيزنطة شرقًا بمذهبها الأرثوذكسي، وروما غربًا بمذهبها الكاثيوليكي، بدأتْ ملامح تشكل دولة أتباع الدين التوحيدي الجديد، في منطقة لطالما أُهملت من قبل الإمبراطوريات الكبرى لقحالة أرضها وبدوية أهلها، وإن لم يمتنع أهلها بالاتصال التجاري بتلك الإمبراطوريات والتأثر بثقافتهم في ممارساتهم وتعاملاتهم.

مرت العلاقة بين حضارتي شمال وجنوب المتوسط بتعقيد شديد، منذ بداية اختلاطهما

لكن صعود دولة الخلافة الراشدة، وإن لازمه بعض الاهتزازات، التي كان من الممكن أن تُنهي طفرتها التاريخية نتيجة للصراعات الداخلية، أو كما يمكن تسميتها بالحروب الأهلية، وفق قواميس الحاضر؛ كحروب المُرتدين وأزمة عثمان وحروب ما بعد عثمان بين معاوية وعلي بن أبي طالب. لكن رغم تلك النزاعات والحروب، تمكن الأمويون من فرض سيطرتهم على الدولة الوليدة، مُعلنين أولى الخلافات العضود بالسيف تارةً، وباعتمادهم على مذهب جبرية الإنسان كتوطيد فلسفي لحكمهم، إلى جانب قدسية مسمياتهم بين عموم المسلمين كخلفاء لرسول الله في الأرض، ورغم بشاعة بعض مصائبهم في أهل الإسلام كاستباحة دماء آل البيت، ومن بعدهم الكعبة برميها بالمجانيق، وبالطبع توطيد حكمهم بدماء المسلمين وغيرهم، لكن ظلت دولتهم الأفتى والأكثر اتساعًا بين من حُسب على قائمة الخلافات الإسلامية.

اقرأ/ي أيضًا: سلطة الأزمنة السابقة

منذ انتزاع العرب متوحدين، لأول مرة، براية الدين التوحيدي الإسلام، لولايتي الشام ومصر في عهد الخلافة الراشدة، شكل عهد الدولة الأموية التهديد الأكبر لأوروبا، أو ما يمكن تسميته بالعالم الغربي أو المسيحي، وإن حوى تجاهلًا لباقي الطوائف المسيحية كالنساطرة والسريان والأقباط، وغيرهم من مسيحيي الشرق. فاستمر تدفق جيوش الإمبراطورية الوليدة في انتزاع باقي أقاليم جنوب المتوسط، حتى تتابعها شمالًا إلى جنوب فرنسا، فكان المسلمون قد بسطوا سيطرتهم على إقليم سبتمانيا منذ سنة 101 هـ، وأصبحَ منذ ذلك الوقت مركزًا لهم للإغارة على مدينتي برغاندي وأقيتانية في جنوب فرنسا الحالية، وقد انتصرَ عليهم دوق أقيتانية، غير أن المسلمين استأنفوا القتال بعدَ تعيين عبد الرحمن الغافقي واليًا جديدًا للأندلس، الذي قادهم على رأس جيش من 8,000 جندي (730 م)، فنهبوا بونة وفرضوا الجزية على سان وفتحوا أفينيون. وقد تابع المسلمون تقدمهم، فانطلق عبد الرحمن على رأس جيش سنة 112 هـ، وفتح بوردو فأقيتانيا وبرديل وغيرها 115 هـ، وفي النهاية خاض معركة بلاط الشهداء سنة 114 هـ (732 م)، ووصلت بذلك فتوحات الأمويين في المغرب أقصاها في عهد هشام، وظلَّ المسلمون محتفظين بحدودهم هذه بجنوب فرنسا (عندَ سفوح جبال البرانس الشمالية) حتى سنة 181 هـ.

نظرة أوروبا إلى الإسلام

لكن يبقى اللغز الأكبر هو نظرة الأوروبيين، أو عالم مسيحيي شمال المتوسط، إلى الدين الوليد ودولته التي صارت تمحو تراث إمبراطورياتهم الرومانية، بشقيها الغربي والشرقي. فوفقًا للرؤى الأوروبية للإسلام في العصور الوسطى، كان الحس الأوروبي المسيحي مشبعًا بقرب يوم القيامة، وبين نذر العهد القديم ورؤيا يوحنا، رأى اللاهوتيون، منذ القرن التاسع، بأن النبي محمد والإسلام يدخلان فيه، فتم النظر بصورة مبكرة إلى النبي محمد بكونه المسيح الدجال، يدعم هذا التصور ما وصفوه بانتصاراته الدنيوية لضلال أهل الإيمان، في الوقت ذاته، كانت توصف بالفتوحات الجهادية لبلاد الكفر لإعلاء كلمة الله في الأرض من قبل المسلمين.

ولعل أقرب التصورات هو اعتقاد كثير من اللاهوتيين بأن النبي محمد ما هو إلا مطران، أو بطريق في الأصل، منشق عن كنيسة القسطنطينة، وتلك الأقاويل هي الأكثر استمرارًا إلى الآن من قبل مهاجمي الإسلام في البلدان الغربية، أما أغرب التصورات فكانت تصورًا شعبيًا مُغرقًا في الخيال، اعتمد على الكهنة المتجولين وبعض العائدين من الحلمات الصليبية، يتحدث عن أن الدين الإسلامي دين وثني، بقوام ثلاثين إلها من بينهم محمد وأبولو، ولعل هذه أطرف التصورات، وإن دلت على شيء فلا تدل إلا على تقوقع العالم المسيحي الأوروبي، رغم الصولات والجولات بينهم وبين دول ودويلات العالم الإسلامي.

الضغط الإسلامي على العالم المسيحي

أعظم الضغوطات الإسلامية على بلدان أوروبا، بعيدًا عن التمدد والوصول إلى جنوب فرنسا بحكم شبه الجزيرة الإيبيرية – الأندلس، كان يتمثل في الضغط المتواصل ومحاولات المسلمين المستميتة في فتح القسطنطينة، عملًا على تحقيق نبوءة الحديث النبوي في فتحها، حتى تتوجت تلك المحاولات على يد محمد الفاتح في القرن الخامس عشر، وضغط المسلمون على أملاك الدولة البابوية في إيطاليا، حتى غزو روما على يد دولة الأغالبة في القرن التاسع، وإن كان بغرض الغنائم وإضعاف نفوذ البابوية في البر الطويل، كما سمى الأغالبة إيطاليا.

أعظم الضغوطات الإسلامية على أوروبا، تمثلت في محاولات المسلمين فتح القسطنطينة

رغم تحول موقف الأوروبيين من الدفاع إلى الغزو، وإن كان لأسباب دنيوية في الحملات الصليبية، إلا أنه لا يمكن إغفال دور الفاتيكان والبابا في الحثّ على الجهاد المقدس في مواجهة المسلمين، وانتزاع القدس من سلطتهم. ورغم النهاية المُحبطة باسترجاع صلاح الدين الأيوبي للقدس، تواصلت الحملات الصليبية بلا جدوى على أمل فتح بلدان المسلمين، والأكثر إيضاحًا لحالة الإحباط المسيحي الغربي هو ما كتبه البابا لمطران أوروبا وسياسيها بأنباء الحملة الصليبية الخامسة وآماله فيها، وقد بقيت الرسالة التي وجهها إلى أسقف ترير في 13 آذار/مارس عام 1221، نقتطف منها: "إن العلي الأعلى يقف إلى جانبنا، ويريد أن ينصر دينه. فقد عانى شعبه الكثير وما زال يعاني. وقد سمع سبحانه دعاء الضعفاء واستغاثاتهم. فكما أخبرنا أخونا المحترم بلاغيوس، أسقف البانو ووكيل الكرسي الرسولي، فقد أسرع الملك داوود المعروف بالكاهن يوحنا -وهو كاثوليكي يخشى الله- على رأس جيش ضخم إلى بلاد فارس فهزم سلطانها في معركة حامية، ثم استمر في زحفه بقلب البلاد عشرين يومًا، فاستولى عليها كلها، وقد سقطت في قبضته مدن كثيرة وقلاع، وهو الآن على مبعدة عشرة أيام عن بغداد مدينة الإسلام، ودار الخليفة الذي يعتبره العرب أسقفهم الأعلى".

اقرأ/ي أيضًا: هكذا لم يظهر جيل صلاح الدين!

حقيقة الأمر لم يكن الملك المسيحي داوود الورع هذا سوى جنكيز خان، وبالفعل استطاعت جيوشه الجرارة سحق الدول الإسلامية، وصولًا إلى تدمير بغداد، لكن كان على اللاهوتيين والرهبان في عزلتهم الهادئة في أوروبا فيما بعد أن يعيشوا عقودًا من الرعب والدم، في مواجهة هؤلاء المغول الذين ظنوهم مسيحيين أتقياء.

وأغرب ما يمكن للتاريخ سرده من بعد تلك الرسالة ما لحقها من أحداث دموية، هو إرسال البابا إنوسنت الرابع، الراهب الفرنسيسكاني فولهلم فن روبرك في رحلة إلى بلاد المغول مؤملًا أن يعين المغول أوروبا ضد المسلمين، وهناك في عاصمة المغول قراقروم، نظم الخان الأكبر منظارة تاريخية ضخمة بين أهل الأديان، اشترك فيها ممثل عن المسيحية اللاتينية الراهب فولهلم وآباء نساطرة عن المسيحية الشرقية، ورهبان بوذيون، وكان المسلمون فئتهم الرابعة، فيما استمرت المناظرة يومًا كاملًا. بدأت بتوحد ممثلي الإسلام والمسيحية بشقيها كجبهة واحدة في مواجهة البوذيين. فكان الحديث عن طبيعة الألوهية والوحدانية والشرك، أضاع فيه البوذيون الوقت في الحديث عن سلاسل النسب التي تربط الآلهة المختلفين بين الأرض والسماء، وتحت الإلحاح اضطروا للقول إنه ليس هناك بين الإلهة واحدًا أقدر من واحد، فحسم الأمر لصالح جبهة المسلمين والمسيحيين، وهنا تعالت ضحكات السامعين من المسلمين، ففقد النساطرة صبرهم وهيؤوا أنفسهم لمعركة مع المسلمين، فرفض المسلمون الجدال مع النساطرة قائلين: "إننا نؤمن بالتوراة والإنجيل ولا نريد التخاصم معكم"، ثم أكدوا أن التصور الإسلامي عن الموت وما بعده، لا يختلف عن التصور المسيحي، وهكذا انتهت المناظرة بفوز مشترك للمسيحيين والمسلميين على البوذيين، وأقبلوا جميعًا على الاحتفال بذلك.

يبدو أن الصراع بين الإسلام والمسيحية، وإن هدأت ملامحه، إلا أنه مستمر ومتأصل

مصداقية سرد تلك الحادثة ودرامية نهايتها السعيدة، تعتمد بشكل تام على الراهب فولهلم في إخباره للبابا بتفاصيلها، لكن هنا يبقى الملاحظ تحول الزيارة إلى ائتلاف مع المسلمين في المناظرة الدينية، رغم عدائية الغرض من الزيارة، ولعل نهايتها الدرامية لا تختلف كثيرًا عن نهاية الصراع القروسطي بفتح المسلمين للقسطنطينية، أعقبها سقوط غرناطة في أيدي الإسبان الكاثوليك.

ومن واقع الأحداث يبدو أن الصراع، وإن هدأت ملامحه، إلا أنه مستمر ومتأصل في كلا الثقافتين، فبين مقولة الجنرال اللنبي "الآن انتهت الحروب الصليبية" واطئا أقدامه لترابها، وبين وعيد التنظيمات الجهادية كداعش بفتح روما. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هل نقرأ التاريخ؟

هل هناك رسائل مشفّرة على جدران قصر الحمراء؟