23-يونيو-2021

كاريكاتير لـ هايو/ هولندا

في اللحظة التي يمنحنا فيها يومنا دقيقة هدوء واحدة، دقيقة صمت، لا ركضَ فيها ولا لهاث، وخلال أجزاء تلك الدقيقة القليلة التي إن تَذَكرنا فيها أن نتوقف عن العَدِّ هُنا ونحتفل بانتصارنا على الموت كلّ هذه المدّة التي أوصلتنا إلى هذه الأجزاء، حينها فقط سنكون قادرين على أن ندّعي أننا قُمنا بإنجازٍ ما في هذه الحياة.

سنحتفل لأننا لم نقم باختيار تلك الطريق التي ستوصلنا إليه بعد.

حين اكتشف الوقت أننا نخدعه، تحالفَ مع الأيام وصارَ ينتقمُ منّا بإرسال بياض نهاراته ليسرق سوادَ شعرنا

في العلاقة ما بيننا وبين الأيام هُنالك لُبسٌ في تعريف الثابتِ والمتحرك، يتدخل الوقت هُنا في محاولة لحسم هذا الخلاف فيصيرُ زائدًا عن ما نستطيع، وفائضًا عن حاجتنا. نستدعي الليل في منتصف النهار وننامُ لنرى الصباح الجديد سريعًا.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تشكّل الهندسة المعمارية مدننا وحياتنا؟

الوقت، هو الكذبة التي خدعنا الملل فيها، فبقينا أحياء.

والمللُ هُنا هو ثباتُنا أمام الأيام المتعاقبة، هو السرُّ وراء كل ما اخترع الإنسان منذُ سنين، هو دافعه الوحيد نحو الفضول لتجربة جديد ما، فصار هذا الجديد هو العاديُّ، وما سبقه صارَ تَخَلفٌ ورجعي.

حين اكتشف الوقت أننا نخدعه، تحالفَ مع الأيام وصارَ ينتقمُ منّا بإرسال بياض نهاراته ليسرق سوادَ شعرنا، ولأننا كنّا نرغب في تخفيف أثر ذلك علينا وصفناه بالوقار وأنّه حكمة الأيام على رؤوسنا.

*

لو أنَّ كلَّ إنسانٍ مرَّ على هذه الأرض كتب عشرةَ أسطرٍ تختصرُ قصّة وجوده لصارَ لدينا موسوعةُ حياةٍ عظيمة، فيها ما فيها من حكايات، أفضلُ من كل تجاربِ العلومِ الإنسانية التي تدّعي معرفةَ الأسبابَ السلوكية لعالمٍ يزدادُ بشاعةٍ يومًا بعدَ يوم.

نهايتنا ستأتي على شكل مللِ الطبيعة من جشعنا، حينها فقط سنعترفُ بضعفنا.

حين اخترع هذا الإنسان الصواريخ،ظنَّ أنّه أكبر من كل شيء، لكنه نسي تمامًا أنه من الممكنِ لفايروسٍ واحد أن يشلَّ تفاصيل الحياة جميعها، وأن يحبسه خوفًا مما لا يعرف، ولا يرى، ولا يسمع.

لو تركنا الطبيعة تقودنا نحو تطورها الطبيعي دون تدخلٍ منا، لكنّا نعيشُ في عالمٍ أفضل.

نحنُ الذين تدخلنا في تراكيب الخضروات فأفقدناها مذاقها، وسَرّعنا مراحل نضج الفاكهة ففقدت شهيتها، واستبدلنا الأعشاب بالحبوب المصنّعة لنوفّر الوقت لنبني عمارات زجاجية تستقبل الشمس ولا تحترمها، نحنُ الذين فضّلنا هدوء إغلاق النوافذ وهواء المُكيفات على حركة الريح، فحرمناها من سعيٍ كانت مُهياةً له، حواجزنا الزجاجية التي ظنناها ستريحنا كانت سببًا في نَشفانِ الروحِ فينا.

فَرحَنا بهواء التكييف الاصطناعي كذّبته فاتورة الكهرباء، فخسرنا صداقة البيئة، وزمالة حسابنا البنكي.

أنكرنا المعروف الذي قدمته لنا الطبيعة، ولم نعترف بذلك بعد.

*

قُلت؛ لم نتخذ قرار السير في ذلك الطريق حتى اليوم.

لكننا لا نعرف إن كان هو قد اتخذَ قرارًا ليمشي إلينا.

*

ماذا لو؛

وُضعنا على "تريدميل" لحظة ولادتنا، وكانت السرعة لا تتناسبُ مع ضجّة الغُرفة ولم يستمع لشكوانا أحد؟ فهل سُتُحسبُ الأميال التي قطعناها لاهثين نحوَ هدفٍ لا نعلمه؟

وهل يُعدُ الحبو مشيٌ طبيعي لمولودٍ عُلّقت على كتفيه آمالٌ تكفي شعبًا كاملا؟

أو ماذا لو؛

كانت الصحراء هي التي احتوت ولادتنا، ولم نجد غطاءً لنا سوى حرقة الشمس والعطشُ يجرُّ الموت معه نحونا، وحينَ سُئل الطبيبُ عن أسبابِ الوفاة، كتبَ في سجّله "أسباب طبيعية".

و ماذا لو؛

وقعَ حادثٌ قبل أن يتجاوز "الأمبيلانس" التقاطع الأخير، ولم تكفي إسطوانات الأكسجين في منحنا حياة ورقمُ جديد في سجلات مكلفي ضريبة الدخل؟

تدخلنا في تراكيب الخضروات فأفقدناها مذاقها، وسَرّعنا مراحل نضج الفاكهة ففقدت شهيتها، واستبدلنا الأعشاب بالحبوب المصنّعة لنوفّر الوقت لنبني عمارات زجاجية تستقبل الشمس ولا تحترمها

وماذا لو؛

لم تُعجَب البويضة بذلك الحيوانِ المَنوي؟

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة البيئية.. تهديدات مفاجئة من المال والسلطة

وماذا لو؛

أن ذلك الحيوان - المذكور أعلاه - كان نرجسيًا بما يكفي ليقرر أنه لا يليقُ بحياةٍ كالتي سيعيشها، فاختصرَ الحكاية من أولها؟

*

ينقصنا شاهدٌ واحد فقط، شاهدٌ يحكي لنا ما رأى بعد أن تركناه هُناك.

*

سنصيرُ أكثر تقبلًا للموت في اللحظةِ التي سنعرف فيها أنهُ سيتعاملُ مع الذين نحبّهم كما كنّا نعاملهم.

وسنتقبله أكثر أيضًا لو أرسلَ رسالةً قصيرة قبل وصوله لنخدع الوقت فنكون قربهم.

*

دقيقة هدوء واحدة، بثوانيها الستّين، تكفينا لنعترف أننا أخطأنا بكل قرارٍ اتخذناه، وأن هذه الأرض هي في نهاية الأمر مَعنا لا علينا، وستكفينا أيضًا لنتصالح مع خوفنا، فنمشي سويًا مُخترقين عتمةَ المابعد هُنا، فهو –خوفنا- ما سيلازمنا حين يتخلّى عنّا كل شيء.

ودقيقةُ هدوء واحدة أيضًا، بثوانيها الكثيرة، ستكفينا لنرتدي ابتسامةَ المنتصرين حين نراه قادمًا ليأخذنا معه.

هي فقط ما نحتاجُه حين نوقنُ أنهُ هُنا، فنصاحبه،

ونتقبله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هندسة الطبيعة البشرية.. تاريخ وتلاعب

ماذا فعلنا وماذا سنفعل؟