02-يناير-2024
أحمد قاسم حسين (الترا صوت)

أحمد قاسم حسين (الترا صوت)

مع اقتراب دخول الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة شهرها الثالث، يزداد الحديث ويتصاعد النقاش حول التكلفة البشرية لعملية "طوفان الأقصى"، وجدوى العملية بل والمقاومة برمتها، في إغفال واضح للسياق التاريخي للعملية، ولتاريخ "إسرائيل" وممارساتها بحق الفلسطينيين على مدار 75 عامًا من الاحتلال، ناهيك عن معاناة سكان القطاع الذين يتعرّضون لحرب "إبادة جماعية" واضحة المعالم.

في هذا الحوار، يُجيب الدكتور أحمد قاسم حسين، باحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ومدير تحرير دورية "سياسات عربية" التي يُصدرها المركز؛ عن جملة من التساؤلات عن هذه المسألة، إضافةً إلى أداء المقاومة، وقدرتها على الصمود، والتداعيات المحتملة لعملية "طوفان الأقصى" على المنطقة، وغيرها من المواضيع المتعلقة بالحرب ومساراتها.


  • لنبدأ من تزايد الحديث عن تكاليف عملية "طوفان الأقصى" والطعن المتصاعد في جدوى العملية والمقاومة المسلحة ككل. كيف تفسِّر ذلك؟ ولم يتجدَّد هذا النقاش مع كل مواجهة عسكرية بين الاحتلال والمقاومة في غزة؟ ما الجدوى منه وحرب إبادة ما تزال على أشدّها ضد مدنيين عزّل؟ ما البديل الذي يطرحه هذا الفريق إذًا؟

بادئ ذي بدء، لا بد من التأكيد على موضوع مهم في مجال دراسات الاستعمار، الذي تطرق له عدد من أصحاب الاسهامات النظرية في فهم وتفكيك المستعمر وعلاقته بالشعوب المستعمرة أمثال فرانز فانون، وإدوارد سعيد، وعزمي بشارة، والذي يتجسد في ممارسات المستعمِر (الإذلال، الاقصاء، التهميش، الطرد، القتل) على الشعوب المستعمَرة في مراحل تاريخية مختلفة.

هذه الممارسات التعسفية القائمة في جوهرها على الإذلال، هي ما يدفع الشعوب المستعمَرة في نهاية المطاف إلى مقاومة المستعمِر من أجل حريتها ونيل حقوقها بكافة الوسائل المدنية والعسكرية. وهذا ينسحب على الحركة الوطنية الفلسطينية، فهي ليست استثناء، إذ حمل الفلسطيني السلاح من أجل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي اغتصب أرضه وهجّره منها. ولم يجرد الفلسطيني سلاحه حبًا بالقتل والانتقام، بل من أجل استرداد حقوقه المسلوبة، وهو ما عكسته أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية والبرامج السياسية للقوى والفصائل الفلسطينية على اختلاف أساليبها النضالية في مقاومة الاحتلال.

حسين: يُغفل المتسائلون عن جدوى الفعل المقاوم أن حصار قطاع غزة وتقطيع أوصال الضفة ليس إلا استكمالًا لأهداف المشروع الإحلالي القائم على ضرورة طرد الفلسطينيين

وعليه، فقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، في السابع من أكتوبر 2023، بوصفها فصلًا من فصول مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي الذي تجاوز عقده السبعين. ومع أنها ليست المرة الأولى التي تشن فيها "إسرائيل" حملة انتقام وحشية ضد الفلسطينيين، لكنها الأعنف والأشد قسوة من ناحية استهداف المدنيين من سكان غزة، وامتداد الإجراءات الانتقامية لتطال الضفة الغربية، بل ولم يسلم منها حتى فلسطينو الداخل.

ولم يلتفت أحد لمعاناة قطاع غزة الذي وصفه عزمي بشارة في كتابه "أن تكون عربيًا في أيامنا" بأنه مخيم لاجئين كبير جدًا. والعنف المتفجر داخل القطاع يشبه العنف المتفجر في السجون. والتنافس فيها يشبه التنافس على من يمثِّل السجناء أمام إدارة السجن. والجدير ذكره في هذا السياق أنه عند كل مواجهة بين قوى المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، يدور النقاش حول الكلفة البشرية، ثم يتسلل بعدها السؤال عن الجدوى من الفعل المقاوم ذاته.

وهنا تكمن خطورة هذا النوع من النقاش في الفضاء العام، فهو يمثل تحويرًا وتقعيرًا للمفاهيم الأساسية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وغالبًا ما يعكس تغافلًا، عن قصد أو غير قصد، من أنصار هذا الطرح بأن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي هو تاريخ إبادة ممتد للشعب الفلسطيني، وما حصار غزة وتقطيع أوصال الضفة الغربية إلا استكمالًا لأهداف المشروع الإحلالي القائم على ضرورة طرد الفلسطينيين، السكان الأصلانيين. واللافت أن أنصار هذا الطرح لا يقدِّمون بديلًا نضاليًا وأسلوبًا للوقوف في وجه الاحتلال.

إن التجارب التاريخية تشير إلى أن استرداد الحقوق السياسية للشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار لم يكن فقط بالوسائل السلمية، فقد قاومت الشعوب المحتلة الاستعمار بأساليب واستراتيجيات متنوعة، وتختلف هذه الأساليب باختلاف الظروف الجغرافية، والثقافية، والسياسية لكل شعب. فقد كانت حرب فيتنام التي استمرت من أواخر الخمسينيات حتى عام 1975، واحدة من أكثر النزاعات دمويةً وتدميرًا في القرن العشرين. حيث تُظهر التقديرات المختلفة أن ما بين 966.000 إلى 3.8 مليون شخص فيتنامي (مدنيين وعسكريين) قُتلوا خلال الحرب.

في القارة الأفريقية، برزت مقاومة الجزائر للاحتلال الفرنسي (1830 – 1962) على اعتبار أنها واحدة من المحطات المهمة في تاريخ النضال من أجل الاستقلال في العالم العربي وأفريقيا، إذ تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من مليون جزائري استُشهدوا خلال الثورة، وهو رقم يعبِّر عن حجم الكارثة الإنسانية التي شهدتها الجزائر في تلك الفترة في سبيل استقلالها. فضلًًا عن تجارب نضالية متعددة ومختلفة في كل من جنوب أفريقيا وأفغانستان.

وبناءً على ما تقدَّم، فإن الحالة الفلسطينية ليست حالة فريدة من ناحية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الإحلالي الذي يجمع كل ميزات الاستعمارات السابقة. وبالتالي، فإن الشعب الفلسطيني الذي طُرد وشرِّد من أرضه فَرضَ عليه الواقع أن يحمل السلاح ويقاوم من أجل حقوقه المسلوبة. وقد مر النضال والكفاح الفلسطينيين بمراحل عديدة، كان آخر فصولها عملية "طوفان الأقصى"، والكلفة البشرية العالية التي تعكس توحش الاحتلال الإسرائيلي، إذ ينفطر القلب للمشاهد الدامية التي تنقلها وسائل الإعلام من قتل عمد وجرائم ضد الإنسانية نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي.

  • يصف البعض في سياق طعنهم في جدوى المقاومة ما قامت به "حماس" بأنه "انتحار" بالنظر إلى التدمير الواقع على قطاع غزة وعزم "إسرائيل" ومِن خلفها الولايات المتحدة على القضاء على الحركة كقوّة قادرة على إدارة القطاع وتهديد الاحتلال. كيف ترى مستقبل الحركة ما بعد "طوفان الأقصى"؟

لا شك أن حجم الدمار الذي لحق بقطاع غزة هائل بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، وما قامت به "حماس" يجب أن يخضع للنقاش العام من ناحية التقدير والتقييم وحتى النقد، ولكن ليس من ناحية التشكيك بالفعل المقاوم ذاته، فلكل شعب حقه في مقاومة الاحتلال بمختلف الوسائل، وهو حق كفلته كل القوانين والشرائع.

ففي قضية الرهائن، على سبيل المثال، علت أصوات عديدة ترى في تلك الخطوة ضررًا قد يلحق بنضال الفلسطينيين، وقد تراجعت المقاومة حينها عن تصريحات الناطق العسكري باسمها "أبو عبيدة" فيما يتعلق بموضوع إعدام الرهائن في حال استمرار القصف على قطاع غزة.

حسين: ما قامت به "حركة حماس" يجب أن يخضع للنقاش العام من ناحية التقدير والتقييم وحتى النقد، ولكن ليس من ناحية التشكيك بالفعل المقاوم ذاته

ولكن علينا العودة إلى نقطة البداية التي قادت إلى عملية "طوفان الأقصى" وهو الحصار البري والبحري والجوي الذي جعل من قطاع غزة سجنًا كبيرًا لمليوني فلسطيني لا يمتلكون أدنى مقومات الحياة الإنسانية. وقد ضربت "إسرائيل" مسار المفاوضات عرض الحائط، ولم تعد تقييم وزنًا لمسار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، بل على العكس سعت إلى محاصرة الفلسطينيين عبر توقيع اتفاقيات سلام مع الدول العربية بدعم الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لإنهاء القضية الفلسطينية، بحيث يصبح الفلسطينيون محاصرون بمحيط عربي رسمي مطبّع مع "إسرائيل". لا يمكن فهم عملية "حماس" إلا في هذا السياق.

إضافةً إلى ذلك، فإن الهدف الكبير الذي وضعته الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية بالقضاء على "حماس" فضفاض وكبير. فالحركة، تاريخيًا، مرت بمراحل حرجة جدًا كادت أن تنهي تجربتها السياسية والعسكرية على غرار ما تعرضت له عام 1989، ولاحقًا في نهاية تسعينيات القرن الماضي، فقد أعادت "انتفاضة الأقصى" بعث الحياة في جسمها العسكري من جديد. و"حماس" اليوم جسم بيروقراطي كبير في غزة، كما أن تجربتها التنظيمية أكثر تماسكًا وترابطًا على خلاف الضفة الغربية. وبالتالي، في مثل هذه الحالة، فإن طرح فكرة القضاء على "حماس" تكاد تكون هدفًا طوباويًا غير قابل للتحقيق.

لذلك قد تعمل "إسرائيل" على إنهاء أو التقليل من قدرات الحركة عسكريًا في غزة، في الوقت الذي تعمل على تنظيم قوتها وعناصرها في الضفة الغربية. واللافت في المواجهة الأخيرة دخول أبناء مخيمات لبنان الذي قاتلوا تحت اسم كتائب "عز الدين القسام – لبنان"، مما يعقد المهمة أمام صانع القرار الإسرائيلي في تحقيق هدف القضاء على "حماس".

لا شك أن "حماس" تضررت في قطاع غزة من الناحية المادية. ولكن، في المقابل، ازدادت شعبيتها عربيًا وإسلاميًا، وقد تستثمر القيادة السياسية لـ"حماس" هذا الرصيد المتنافي على اعتبارها القوة السياسية والعسكرية القادرة على مقاومة "إسرائيل"، ومعها فصائل فلسطينية أخرى، في أن تسود المشهد السياسي الفلسطيني مستقبلًا كبديل للخط السياسي السابق الذي مثلته "حركة فتح".

ففي مرحلة محددة، سيطر حملة البنادق بعد هزيمة حزيران 1967 على "منظمة التحرير الفلسطينية"، وكان ذلك بدعم نظم سياسية عربية آنذاك. لكن على الرغم من اختلاف السياق والبيئة الدولية اليوم، إلا أن خيار التفاوض مع "حماس"، بصيغة مباشرة أو غير مباشرة على غرار النموذج الأفغاني، هو الخيار العقلاني أمام جميع الأطراف المتدخلة في الحرب الدائرة في قطاع غزة، أقصد الولايات المتحدة الأمريكية.  

  • رغم مرور شهرين على العدوان، واتساع النقاش حول خلفيات عملية "طوفان الأقصى" وما دفع المقاومة إلى تنفيذها، إلا أنه لا يزال هناك من يصر على عز ل ما يجري عن سياقه، سواء تعلّق الأمر بتجاهل أصل الصراع في فلسطين منذ النكبة، أو التغاضي عن الواقع الذي فرضه الاحتلال من استمرار أنشطة التوسّع الاستيطاني وعمليات التفريغ والإحلال السكّاني في الضفة الغربية والقدس، وما يرافق ذلك من تهجير قسري وقتل وممارسات وحشيّة تصاعدت حدّتها خلال السنوات القليلة الأخيرة، أو محاولات تهميش الكارثة التي يعاني منها الفلسطينيون في قطاع غزّة، عبر التعامل مع الأزمة فيه وكأنّها ولدت عام 2007، وأن المقاومة هي السبب الرئيس وراءها. كيف تُفسِّر هذا الأمر؟

الصراع في فلسطين ليس وليد السابع من أكتوبر، وإنما صراع له جذور تاريخية عميقة ومعقدة، ويمكن تتبع بداياته منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حتى يومنا هذا. والمواجهة العسكرية الأخيرة ما هي إلا واحدة من المواجهات التي تجسِّد نضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حقوقه المشروعة بالتحرر والاستقلال.

وتتطلب كل مواجهة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية الوقوف عند السياقات الإقليمية والدولية لها حتى نفهم محركات الصراع بشكل عقلاني وعلمي. لا يمكن أن نحكم على نضالات الشعب الفلسطيني بعد تأسيس منظمة التحرير، وتأسيس عدد من الفصائل والقوى الفلسطينية المسلحة، دون فهم بنية النظاميين الإقليمي والدولي والتفاعلات التي كانت تجري داخل الساحة الفلسطينية في الضفة وغزة والشتات.

وبالتالي، فإن عملية النقد يجب أن تتوخى الحيطة والحذر في فهم مسار العمل المقاوم المسلح، وهو أمر مشروع ومبرر ومفيد من أجل تقييم التجربة النضالية الفلسطينية، وهو ما ينسحب على المواجهة العسكرية الأخيرة "طوفان الأقصى" التي تحتاج إلى الوقوف عند أسبابها ومآلاتها ونقد التجربة أيضًا، ولكن ليس التشكيك في المقاومة وقدرتها وتحميلها المسؤولية في مشهد أقرب إلى معاقبة الضحية وغض النظر عن الجلاد.

حسين: تكمن خطورة النقاش حول الكلفة البشرية والتساؤل حول جدوى الفعل المقاوم، في كونه يمثّل تحويرًا وتقعيرًا للمفاهيم الأساسية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي

وللأسف، في الآونة الأخيرة، وبعد تهميش القضية الفلسطينية، باتت الحاجة ماسة إلى توضيح ما كان في مرحلة سابقة من البديهيات والمسلّمات لدى النخب في المنطقة العربية فيما يتعلق بموضوع حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال التي تكفلها الشرائع الدولية، وأن العقدة هي الاحتلال وليس مقاومته.

  • بعد مرور شهرين على بداية الحرب، تُطرح تساؤلات كثيرة حول مدى قدرة المقاومة على الصمود ومواجهة قوات الاحتلال المتوغلة داخل القطاع، سيما في ظل التعويل الكبير على صمودها لإحداث تغيير ما في مسار الحرب إلى جانب عوامل أخرى. كيف تنظر إلى هذه المسألة؟ وهل من أفق زمني واضح لصمود المقاومة؟

في البداية، لا بد من التأكيد على مسألة غاية في الأهمية، وهي أن المواجهة العسكرية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وقوى المقاومة الفلسطينية المسلحة، وعلى رأسها "كتائب عز الدين القسام"، هي حرب غير متناظرة. إذ تتميز الحروب اللامتناظرة باستخدام الطرف الأضعف في معادلة الصراع تكتيكات غير تقليدية تقوم على عنصرَي المرونة والتكيّف على نحوٍ يجعله يغيّر من استراتيجياته وفقًا لطبيعة المعركة. ففي حالة الهجوم، يلجأ الطرف الأضعف في معادلة الصراع إلى الاعتماد على الهجمات الانتحارية، والعبوات الناسفة، والصواريخ، والمسيّرات المصنوعة محليًا، واستخدام التكنولوجيا المحدودة والمتاحة.

أما في حالة الدفاع، فيعمل على توظيف معرفته بالبيئة المحلية، والاستفادة من التضاريس والمناطق الجغرافية التي تعزز قدراته الدفاعية، فضلًا عن العمل على التعبئة والتنشئة السياسية والمعنوية بالنسبة إلى المقاتلين.

لقد شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة 2003 – 2023 نحو 33 عملية عسكرية كان فيها قطاع غزة الهدف الرئيس أو الحصري، أبرزها المواجهات العسكرية بين قوى المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي في الأعوام: 2008/2009، و2012، و2014، و2021. وقد كانت ساحتها الأساسية قطاع غزة المحاصر منذ 17 عامًا.

ومع ذلك، لم تستطع "إسرائيل" المتفوقة عسكريًا (من حيث العدد والعدة والمستوى التكنولوجي) والمدعومة دوليًا (سياسيًا وإعلاميًا) في هذه الحروب غير المتكافئة تحقيق نصر عبر حسم المواجهات لمصلحتها، وفشلت في تحقيق الأهداف التي تضعها عند كل مواجهة؛ مثل ضرب البنية التحتية للمقاومة، وإضعاف قدراتها، وردعها عن إطلاق الصواريخ تجاه عمق الأراضي المحتلة. بل إن النتائج جاءت عكسية، فقد ازدادت قوة المقاومة الفلسطينية نسبيًا في قطاع غزة.

كان اندلاع المواجهات العسكرية السابقة، بعد كل عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، يقابله ردٌّ من قوى المقاومة، تعقبه هدنة هشة بوساطة دول إقليمية ودولية، إلا أن معادلة الاشتباك بين "إسرائيل" وقوى المقاومة تغيرت في معركة "سيف القدس"، في أيار/مايو 2021، حين شنّت قوى المقاومة في قطاع غزة ضربات صاروخية ردًا على الاعتداءات الإسرائيلية على مدينة القدس.

وفي معركة "طوفان الأقصى"، تم تفكيك قواعد الاشتباك المعمول بها سابقًا بشكل نهائي. والملفت أنها المواجهة العسكرية البرية الواسعة الأولى بين "كتائب القسام" وجيش الاحتلال الإسرائيلي. وقد حقق مقاتلو "كتائب القسام"، وفق الخطة العملياتية للدفاع والهجوم، صمودًا كبيرًا بالمقاييس العسكرية، وهو ما تعكسه الفيديوهات التي تبثها المقاومة لعمليات الاشتباك مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في أماكن لطالما صرح الناطق العسكري باسم جيش الاحتلال بأنها باتت تحت السيطرة بعد القضاء على جيوب المقاومة فيها. في الوقت ذاته، لا شك أن المقاومة تقدّم التضحيات ولديها خسائر مادية وبشرية، ويبدو أن التحضير والإعداد لهذه المعركة بعد أكثر من شهرين من انطلاقها بالمستوى الجيد سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا.

ولدى المقاومة ورقة مهمة هي ورقة الأسرى من ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي، إضافةً إلى من تبقى من الرهائن من المدنيين، مما يجعلها في موقف أقوى في المرحلة القادمة في ظل تصاعد وتيرة التناقضات داخل الحكومة الإسرائيلية، وبوجه الخصوص داخل مجلس الحرب المصغر في "إسرائيل".

  • ما هي برأيك التداعيات المحتملة لعملية "طوفان الأقصى" على المنطقة؟ وكيف ستؤثر على مسار التطبيع العربي مع "إسرائيل"؟ وعلى تعاطي الأخيرة مع الدول العربية عامةً، وتلك التي طبّعت معها أو تستعد لفعل ذلك خاصةً؟

من أجل فهم معمق لتداعيات معركة "طوفان الأقصى" على المنطقة العربية، وتأثيرها على مسار التطبيع العربي مع "إسرائيل" بشكل خاص لا بد من الوقوف عند توجهات واشنطن "عرّابة التطبيع" من الحرب الدائرة حاليًا. فقد أظهرت الإدارات الأمريكية انحيازًا لـ"إسرائيل" في كل المواجهات العسكرية السابقة.

حسين: ليست عملية "طوفان الأقصى" إلا مواجهة من المواجهات التي تجسِّد نضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حقوقه المشروعة بالتحرر والاستقلال

ولكن انحياز إدارة جو بايدن اتسم بأنه انحياز مطلق لـ"إسرائيل" على اعتبارها القاعدة المتقدّمة التي ترتكز عليها واشنطن في بناء مقاربتها الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص. وقد هدف التدخل الأمريكي المباشر في هذه الحرب للحد من التدهور الأمني والعسكري الذي بدت عليه "إسرائيل" صباح يوم السابع من أكتوبر، وحتى لا يتسع الصراع في المنطقة، وقد ينتج عن ذلك تحسين للأوضاع الاستراتيجية للقوى المنافسة لواشنطن في المنطقة، وعلى رأسها الصين التي ترى فيها إدارة بايدن التحدي الجيوسياسي الرئيس للولايات المتحدة، وتأتي موسكو في المرتبة الثانية بعد بكين.

لذا، فقد سعت إلى تخفيض الالتزامات الأمريكية في الشرق الأوسط، والبناء على مقاربة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في توسيع دائرة التطبيع العربي الإسرائيلي، وذلك بهدف بناء نظام أمني إقليمي للحد من قدرات إيران في المنطقة، والتخفيف من نفوذ الصين المتنامي عبر مبادرة الحزام والطريق.

ولكن عملية "طوفان الأقصى" أصابت هذه المقاربة في مقتل، وأربكت حسابات واشنطن ومن خلفها "إسرائيل" فيما يتعلق بقدرة الأخيرة على أن تكون القاطرة التي تقود الدول العربية في تأسيس نظام أمني إقليمي يراعي مصالح واشنطن في منطقة الشرق الأوسط.

إن الهشاشة الأمنية والعسكرية والسياسية التي ظهرت بها "إسرائيل" صباح السابع من أكتوبر تطرح على الدول العربية التي طبّعت أو التي تسعى إلى التطبيع مع "إسرائيل"، مجموعة من التساؤلات عن جدوى العلاقة مع تل أبيب ومآلاتها وتداعياتها على الأوضاع الأمنية الداخلية في تلك الدول بعد جرائم "إسرائيل" في غزة. إضافةً إلى مدى قدرة "إسرائيل" على أن تقود نظامًا أمنيًا إقليميًا بعد أن انهارت صورة الردع التي كانت تملكها، وتفكّك مقولات الجيش الذي لا يقهر.

  • أثبتت "طوفان الأقصى" أن القضية الفلسطينية غير قابلة للتهميش. مع ذلك، ثمة تساؤلات عديدة وتصوّرات مختلفة حول طبيعة تأثيرها وتداعياتها المحتملة على القضية ومستقبلها. ما هي تصوراتك حول هذه المسألة؟

أعادت معركة "طوفان الأقصى" القضية الفلسطينية إلى الأجندة الدولية من جديد، بعد سنوات من التهميش ومحاولة "إسرائيل"، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، دفع عجلة التطبيع مع الدول العربية ليصبح الفلسطينيون معزولين ويخضعون في نهاية المطاف إلى الإملاءات والشروط الإسرائيلية في ظل الحصار الخانق  لقطاع غزة، الذي جرى تحويله إلى سجن اعتقال كبير يضم أكثر من مليوني فلسطيني محرومين من ظروف الحياة الطبيعية، إضافةً إلى قضم أراضي الضفة الغربية، والتوسع الاستيطاني فيها، وتحويل مدنها إلى جزر معزولة، وجعل سكانها عرضة للإذلال اليومي على حواجز جيش الاحتلال المنتشرة في محيط مدن الضفة الغربية وداخلها.

وفي هذا المقام، يجب التأكيد على مسألة مهمة وهي أن الحرب هي استمرارٌ للسياسة، ولكن بوسائل وأدوات أخرى، بمعنى أن نضال الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية في الحرب الدائرة حاليًا يحمّل كافة القوى السياسية الفلسطينية مسؤولية بناء استراتيجية عمل وطني، وذلك بطي صفحة الانقسام وأن تدخل القوى السياسية الفلسطينية في مساومات فيما بينها من أجل إعادة تنظيم الصف الفلسطيني بعد سنوات من الانقسام والتشرذم الذي ساهم في تهميش القضية الفلسطينية.

  • هل يبدو الحديث عن "اليوم التالي" ما بعد انتهاء الحرب في غزة، و"القضاء على حماس"، واقعيًا؟ سيما في ظل الحديث المتزايد عن خطط وتصورات إسرائيلية وأخرى أمريكية لإدارة القطاع ما بعد انتهاء الحرب؟ وهل من الممكن حقًا تهميش "حماس" أو إقصائها من المرحلة المقبلة؟ هل بوسع السلطة الفلسطينية إدارة القطاع، كما تلمّح واشنطن إلى ذلك، أمّ أنّ خططًا إسرائيلية بإعادة احتلال القطاع قد تنفّذ فعلًا؟ وهل ثمّة تصور عربي بديل يعترض ذلك؟

لقد وضعت "إسرائيل" هدفًا كبيرًا وغير واقعي يتمثل في القضاء على "حماس" منذ بداية العمل العسكري البري. واليوم، بعد أكثر من شهرين من المعارك، ما زالت "حماس" بجناحيها السياسي والعسكري تخوض المعركة على الأرض إلى جانب قوى المقاومة الأخرى، وقد بدأ جيش الاحتلال يناقش مراحل المعركة وضرورة الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية فالثالثة، مما يدلل على حالة من التخبط العسكري وضبابية الرؤية السياسية في ظل فشله في تحرير الرهائن أو أي من الجنود والضباط المحتجزين لدى "حماس" التي خسرت دون أدنى شك جزءًا من قوتها وقدرتها العسكرية في المعارك الدائرة، ولكنها ما زالت تحافظ على تماسكها وإدارتها للمعركة عسكريًا وإعلاميًا على نحو يحرج المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي باتت تجاري فيديوهات "القسام" في موضوع الاشتباكات وسير المعارك على الأرض.

إذا خرجنا من قطاع غزة باتجاه الضفة الغربية وخارج فلسطين فإن "حماس" قد زادت شعبيتها في العالمين العربي والإسلامي، وأثبتت أنها القوة الفلسطينية السياسية والعسكرية القادرة على مقاومة "إسرائيل". وبالتالي، فإن الطرح القائل بالقضاء على "حماس" غير واقعي وغير قابل للتطبيق.

حسين: يعكس النقاش حول الكلفة البشرية للحرب وجدوى الفعل المقاوم تغافلًا عن أن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي هو تاريخ إبادة ممتد للشعب الفلسطيني

وعلى الولايات المتحدة ذات الخبرة والتجربة في أفغانستان، أن تدفع باتجاه التعامل مع "حركة حماس" باعتبارها الطرف الفلسطيني القادر على إحداث تغيير في معادلة الصراع، والانفتاح على قيادتها السياسية. وإقناع الجانب الإسرائيلي بالتفاوض معها سواء فيما يتعلق بموضوع الرهائن والمحتجزين من الضباط والجنود، وكذلك الحصار والحرب المفروضة على القطاع في المرحلة الحالية، ولاحقًا البحث في قضايا الحل النهائي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، خاصًة أن الحركة قد اعتمدت وثيقة مبادئ سياسية في أيار/مايو 2017 وضعت خلالها رؤيتها السياسية للصراع، كما أشار رئيس الحركة في أحد خطاباته إلى استعداد الحركة للتفاوض على وقف الحرب والتحضير لقضايا الحل النهائي.

  • استنتجت دول مختلفة، بما في ذلك عدة دول أوروبية، من عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أنه أصبح من الضروري إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. في المقابل، استنتجت الولايات المتحدة من كل ما جرى ويجري أنه بات من الضروري القضاء على " حركة حماس". لمَ؟ وبعيدًا عن مجرد دعم "إسرائيل"، ما هي مصلحة الولايات المتحدة من القضاء على "حماس"؟

لقد مثّلت سنوات التسعينيات قطيعة تاريخية مع نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية خصوصًا في أوروبا. وشهدت هذه السنوات نقاشات ساخنة حول ضرورة إرساء سياسة خارجية وأمنية أوروبية مشتركة تتماشى وإمكانياتها الاقتصادية الضخمة، وتتخلّص من الحدود التي رُسمت لها أثناء الحرب الباردة، من ناحية تبعيتها المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية. فأوروبا لم تعد تقبل بأداء دور "دبلوماسية البيدق" كما في السابق، وقد تجلى هذا بتبنيها لمواقف تستجيب لمصالحها. فالحاجة الأوروبية الملحة لإيجاد فضاءات اقتصادية جديدة تترجم في إطلاق مسار برشلونة عام 1995 الذي يمكن اعتباره محاولة أوروبية لإعادة التوازن الجيوسياسي لأوروبا في منطقة المتوسط، بمعنى عودة الاتحاد الأوروبي للمنطقة العربية كقوة معيارية.

وقد كانت عملية السلام بين الدول العربية المنخرطة في مسار الشراكة الأورومتوسطية و"إسرائيل" واحدة من القضايا الأساسية الحاضرة في توجه الاتحاد الجديد تجاه المنطقة.

وفي كل مرة كانت فيه عملية السلام تواجه مشاكل متزايدة، كان الاتحاد يطوّر قدراته للتعامل مع مثل هذه الأزمات التي تقع في منطقة ذات أهمية جيوسياسية بالنسبة له، ولطالما كان دعم عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط واحدة من الأولويات التي أكد عليها الاتحاد في كافة مبادراته ومشاريعه تجاه المنطقة، لذا واصل الاتحاد استخدام المبادرات والمساعدات المالية على اعتباره الممول الرئيس لعملية السلام.

في المقابل، يوجد انقسام في مواقف الدول الأوروبية تجاه قضايا المنطقة بما فيها القضية الفلسطينية، خاصةً بعد عملية "طوفان الأقصى". وعليه، لا يمكن النظر إلى الدور الأوروبي في مسار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلا في سياق رؤيته الأورومتوسطية القائمة في جزء منها على منافسة الرؤية الأطلسية "الأمريكية" في المنطقة العربية، من خلال بناء توجه أوروبي مشترك يضع سياسة خارجية مشتركة تقوم على حفظ المصالح للدول الأعضاء في المنطقة.

ولكن هناك عوامل لا يمكن اغفالها في تعاطي الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء مع القضايا الشائكة في المنطقة العربية، وهي العوامل الاقتصادية التي تشكل مستقبلًا المحرك الأساسي لسياسة أوروبية مشتركة تجاه القضية الفلسطينية، خاصةً بعدما ثبت في المسوحات الجيولوجية أن حوض بلاد الشام "ليفانت"، والذي يمتد على مساحة 83000 كلم مربع شرقي المتوسط، وكذلك حوض دلتا النيل؛ يحتويان احتياطات كبيرة من الغاز الطبيعي والنفط السائل.

وجاءت الاكتشافات خلال العقدين الأخيرين ابتداءً من مصر وغزة، ومرورًا بفلسطين المحتلة، ووصولًا إلى قبرص؛ إذ يحوي الحوض على احتياطات قابلة للاستخراج تقدر بنحو 122 ترليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، الأمر الذي يعني أنها يمكن أن تغطي استهلاك المنطقة من الطاقة للعقود الخمسة القادمة، وتخفف من اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الطاقة الروسية من ناحية، وحتى الطاقة القادمة من منطقة الخليج العربي. ومن المفترض أن تشجع تلك الكشوفات الاتحاد الأوروبي على تبني مقاربة جديدة تجاه المنطقة العربية والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

لذا نجده أكثر ميلًا لتبني خطاب معياري قائم على ضرورة حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بالطرق السلمية، والانفتاح على كافة القوى الفلسطينية بما فيها "حماس". وفي المقابل، نجد الولايات المتحدة الأمريكية تتساوق مع مطالب الحكومة الإسرائيلية في موضوع استمرار الحرب والقضاء على "حماس" وحكمها في قطاع غزة.