19-أبريل-2020

فرانز فانون في بورتريه مستوحى من عنوان كتابه

من المؤسف حقًّا أن الطبعة العربية الوحيدة من كتاب "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" (الفارابي ومنشورات آنيب 2004، ترجمة خليل أحمد خليل) للكاتب والطبيب النفسي فرانز فانون سيئة وغامضة، وتحول دون الوصول إلى أفكار الكتاب بعمق، إلى درجة أن القارئ الذي لا يجيد الفرنسية مضطر إلى القيام بمراجعات للكتاب في ترجمات إلى لغات أخرى، بالإضافة إلى محاولة الإحاطة بالدراسات التي شرحته. ومن المؤسف أكثر أن رجلًا مثل فانون أعطى حياته كاملة للجزائر، ولثورة التحرير الجزائرية، ولا يوجد هناك تقدير جزائري حقيقي يعيد تقديمه مرّة أخرى إلى اللغة العربية.

مثل قصص الكتب العظيمة، لم يجد فانون ناشرًا لكتابه هذا، لكونه مجموعة من المقالات، وغير قابل للتصنيف، لكنّ الحظ أسعفه أخيرًا بالعثور على ناشر غير اعتيادي يهتم مثله بالتحليل النفسي، ومعاد للاستعمار الفرنسي، فصدر عام 1952 عن دار "Le Seuil" أي العتبة.

تطورت العنصرية من خلال ممارسة القوة، ففي الحقيقة لا توجد أية حدود في البيولوجيا بين البشر، وكل الذين يمارسون العنصرية يمارسونها لكي يسيطروا

استعمل فانون التحليل النفسي لفهم العنصرية لأنها غير عقلانية، وكل ما هو غير عقلاني يحتاج إلى استعمال آليات التحليل النفسي لفهمه واستيعابه، ولكون العنصرية تخلق اضطرابات في الشخصية "المُعنصَرة" وتحطم رؤى الشخص عن نفسه. وإنجاز فانون الأكبر هو نقل التحليل النفسي من حيّز الدراسة الفردية إلى أنّ يصبح حقلًا لفهم غياب العدالة الاجتماعية، وإحداث قلب للفهم السيكولوجي التقليدي، القائم على تعميم حاسم لتجربة الرجل الأبيض، بما في دلك اضطراباته النفسية، وطبقات شخصيته.. إلخ.

تطورت العنصرية من خلال ممارسة القوة، ففي الحقيقة لا توجد أية حدود في البيولوجيا بين البشر، وكل الذين يمارسون العنصرية يمارسونها لكي يسيطروا. ولهذا سيأخذ آراء سارتر حول اللاسامية التي صنعت اليهود، أي تلك التي جعلتهم يشعرون بالتمايز، لكي يطبّق ما يماثل ذلك في العنصرية تجاه السود. يكتب: "ثمة خوف من اليهودي بسبب طاقته الامتلاكية. إنهم في كل مكان. تعج بهم المصارف والبورصات والحكم. إنهم يُهيمنون في كل شيء. عما قريب سيكون البلد لهم. إنهم يُقبلون في المباريات قبل الفرنسيين الحقيقيين. عما قريب سيفرضون الشريعة علينا" (ص 169).

اقرأ/ي أيضًا: عنف فرانز فانون.. أسئلة في التحرر ونفي التشيؤ

بناء على هذا، سوف يأخذ فكرة هيغل حول جدلية السيد والعبد ليضعها في السياق الاستعماري، ليصل خلاصته التي تؤكد أنه إذا كان الأسباد يريدون من العبيد تلبية حاجاتهم المادية، فإن العبيد لا يريدون سوى أن يصبحوا سادة. من هنا جعل الاستعمار المستَعْمَرين يتمنون أن يكونوا مستَعمِرين، أو مثل المستَعمِرين، ما خلق في داخلهم اغترابًا راح يتحول إلى احتقار للذات، وبالطبع قضى على مفهوم التضامن فيما بينهم.

في هذا السياق، يقوم باستعادة النقاش الذي دار بين الشاعر إيميه سيزير والفيلسوف الفرنسي أوكتاف مانوني، حين رأى الأول أن الحضارة الأوروبية مسؤولة عن الاستعمار العنصري، فيما رفض مانوني ذلك ولم يعتبر الأوروبيين مذنبين. فانون الذي وقف مع رأي سيزير قال إن أوروبا كلها مبنية على أساس عنصري، قاصدًا تفكيرها بذاته وتصوراتها عن العالم، واحتكارها التاريخ ونكران أدوار الثقافات والشعوب الأخرى.

يركّز فانون على اللغة بوصفها تعبيرًا عن الممارسة والتفكير العنصريين، فاللغة ليست محايدة، بل تفعل الكثير على صعيد رسم معالم الهوية في المجال الاستعماري. اللغة الفرنسية تعامل السود والعرب معاملة الأطفال حين تستعمل في مخاطبتهم المخصصة للصغار. ومن المشاهد الدالة سرده مجريات معاينة طبيب فرنسي لمريض عربي أخذ يحادثه كما لو أنه طفل. بهذه الطريقة، تقول اللغة إنّ الشعوب المستَعمَرة قاصرة.

في المنحى نفسه، يقوم أبناء الكاريبي الذين تعلّموا الفرنسية بتجاهل لغتهم الأم إلا من هم أدنى اجتماعيًّا. إلى جانب ذلك، يحصل أبناء المستعمرات العائدون من المراكز إلى أمكنتهم الأولى على معاملة خاصة، تجعلهم يبدون أفضل من سواهم، فيصابون بالنرجسية كما لو أنهم صاروا بيضًا.

على الصعيد الجنسي، لدينا قسمان في الكتاب: "المرأة المُلوّنة والأبيض" و"الإنسان الملوّن والمرأة البيضاء". ففي القسم المخصص للمرأة، يناقش فانون كتابًا لامرأة سوداء تريد الزواج من رجل أبيض، رغم أنها تدرك تمامًا أنه ينظر إليها بدونية. الكتاب الشهير في وقته بدا خطيرًا عند فانون، لأنه يريد أن يقول لقارئه إنك جميل لأنك أبيض، وإن حصول سوداء على رجل أبيض يعني أنها صارت مثله، امتلكت البياض.

أما في علاقة الأسود بالبيضاء فيناقش كتابًا آخر لرجل أسود يعتبر أنه سوف يصبح أبيض حين يتزوج من بيضاء. وفي الكتاب تصل إلى هذا الرجل رسالة من المرأة المحلومة تعلن فيها عن حبّها، فيسأل صديقه الأبيض الذي يشجعه قائلًا صحيح إنك تبدو أسود لكنك تفكر كأوروبي، ولهذا تحبّ مثل الأوروبيين.

ربما بدا الصديق الأبيض جيدًا في عيون العاشق الأسود، لكنّ نظرة عميقة إلى هذا الحوار ترينا أن ما أراد الأبيض قوله هو ما لم يقله: أنت تستحقها لأنك لست نفسك!

بسبب فوقية الرجل الأبيض اختُلقت أمنية الحصول على البياض عند سواهم، فمنذ وضعوا أنفسهم في مكان أعلى من الآخرين أوهموا الجميع بأن الإنجاز أن يكونوا مثلهم. ولهذا سنرى الاستلاب أمام عقد التسلط البيضاء في السرد الشاعري لمنامات يجمعها من العيادة لسود يعانون اضطرابات نفسية، يظنون أن حل مأزقهم الوجودي كامن في أن يصبحوا بيضًا. البياض هو المستقبل، والبياض هو الحل.

لم يكن المستَعمَرون يعانون من كونهم أدنى، كما يريد أنصار الاستعمار أن يؤكدوا، إلا أن عقدة الدونية صُنعت صنعًا من المستعمِر العنصري الذي اعتبر وصوله إلى أرض الآخرين وملاقاته الترحاب فيها نوعًا من انتظار المحليين للسيد الأبيض. سيزير ردّ على هذا الادعاء ساخرًا من أنهم لو امتلكوا ذكاءً حقيقيًّا لاعتبروا ذلك حسن ضيافة وتشريفًا للغريب نابعًا من "لياقة الحضارات القديمة المهذبة" (ص 105).

لم يكن المستَعمَرون يعانون من كونهم أدنى، كما يريد أنصار الاستعمار أن يؤكدوا، إلا أن عقدة الدونية صُنعت صنعًا 

تبقى الفكرة الأكثر إيلامًا تكمن في فقدان الجذور لدى السود في شمال أمريكا، وفي جزر الأنتيل، فهؤلاء الذين جلبوا بسبب تجارة الرق التي أفقدتهم الانتماء إلى مكان أو جماعة، سيكرهون السود الأفارقة لاحقًا، بسبب عقد احتقار الذات التي زرعها فيهم الاستعمار.

إنه مصير مأساوي حقًّا أن تشعر "البشرة السوداء" أنها مغطاة بـ"أقنعة بيضاء"، وبسبب هذا الشعور الزائف تنظر إلى مصيرها هذا بوصفه امتيازًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دور البطاقات البريدية الاستعمارية والنساء في صناعة الحرب

باختصار.. ما هي "دراسات ما بعد الاستعمار"؟