22-أغسطس-2022

المؤرخ والباحث الفرنسي دومينيك فيدال (تويتر)

كانت هبة أيار/ مايو 2021، لحظة حاسمة في تاريخ النضال الفلسطيني من أجل الحرية وإنهاء الاستعمار. حيث اتسعت دائرة التلاحم الشعبي ضدّ المحتل، لتشمل الفلسطينيين كلهم، على تفرقهم واختلاف أماكن تواجدهم والإدارات الاستعمارية التي يخضعون لها، كما ساهم الحدث في توحيد جهود المجموعات الشعبية لمناصرة القضية الفلسطينية في أوروبا والعالم. بعد أسابيع من الهبة، حاور "الترا صوت" المؤرِّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، وأحد الناقدين المعروفين لإسرائيل، السيد دومينيك فيدال.

بعد أسابيع من هبة أيار/مايو 2021، حاور "الترا صوت" المؤرِّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، وأحد الناقدين المعروفين لإسرائيل، السيد دومينيك فيدال

  • سيد فيدال، ما قراءتكم لهذه اللحظات المفصلية التي تعيشها القضيَّة الفلسطينيَّة؟

يجب أن نقرأ التصعيد الحاصل في مستويات مختلفة، وإلا لن نفهم منه شيئًا. أولًا، وإذا ما اضطلعت على ما تبثُّه وسائل الإعلام الفرنسيَّة، ستجد أن هنالك مشاكل كبيرة، ليس فقط في الأغراض التي وظفت من أجلها  الأحداث أو البروباغندا الصهيونية التي روَّجت لها، بل في كسلها المعرفي، أي أنها استفاقت فقط عند اللحظة التي أطلق فيها أول صاروخ لحركة حماس وسقط في القدس.

بالمقابل، ودعني أوضح لك الأمر بهذا الشكل، إذا ما ذهبنا للسينما، ولم نلحق من الفيلم إلا دقائقه الأخيرة، هل سنكون قادرين على فهم ما وقع في الساعة ونصف التي سبقت؟ بطبيعة الحال لا، فالأمر مشابه لهذه الحالة؛ يمكننا أن نتحدث عن صواريخ حماس وعن الرد الإسرائيلي وعن تصاعد العنف، لكن قبل هذا، فإن التأصيل من البداية ضروري، ولن أقول من 1948 أو من 1967، بل على الأقل البداية من اللحظة التي خسر فيها نتنياهو  محاولته الانتخابيَّة الرابعة لتحصيل أغلبية حكومية مريحة؛ كي يهرب من قضاء دولته التي تتابعه بتهم فساد وخيانة الأمانة، كما الاستمرار في رئاسة الحكومة. وما يحدث الآن ليس فقط مسألة شخصيَّة بالنسبة له بل امتداد لسياساته الراديكالية التي يتبعها منذ 2015 في حكومته التي تمثل الكتل اليمينية، اليمينية المتطرفة واليهودية المتطرِّفة.

فنتنياهو تيقَّن من أنه خسر تلك الانتخابات ولن يستطيع تشكيل حكومة قوية، بل وأنه فشل حتى في تمرير رهانه الأخير بإقحام كل من إسلاميي "الحركة الإسلامية الجنوبية" وفاشيي "حزب القوة اليهودية" ورثة مائيير كاهانا – الذي هو حزب محظور بقرار من الكنيست سنة 1994 لاعتباره منظَّمة إرهابية وبالتالي لدينا إشكال قانوني هنا - في أغلبية حكومية. عندها فقد أعصابه، وقرر أن يقوم  بما يقوم به المجانين عادة؛ إشعال الحرائق.  النار الأولى كانت الهجوم على الناقلات الإيرانية وبعدها هجمتين على منشأة نطنز النووية. أما النار الثانية، فعندما أطلق العنان لأحداث العنف العرقية بالقدس، والتي تكفَّلت بتنظيمها وقيادتها "القوة اليهوديَّة" ومليشيات إتمار بن غفير بمعيَّة مجموعات أخرى متطرفة عنيفة. أعمال العنف هذه امتدَّت وصولًا إلى توطين أتباع بن غفير في حي الشيخ جراح لتسريع مصادرة 13 بيتًا تأوي أزيد من 300 فلسطيني. واستمرت بحماية من الشرطة التي تواطأت مع الجماعات الفاشيَّة، بل ووفَّرت لها الحماية الكاملة.

ولم يكتف بذلك، بل انتقل بعدها إلى اقتحام المسجد الأقصى -الذي يعد ثالث بقعة مقدَّسة عند المسلمين- من قبل الجيش الإسرائيلي، حيث تم استعمال العنف المفرط والتنكيل الشرس بالمصلين. وهنا الخطأ الذي ارتكبه نتنياهو، أنه وثق بسيطرته الكاملة على  الشباب الفلسطيني وظن أن لا أحد منهم سيحرك ساكنًا، لكن ما وقع كان العكس تمامًا؛ انتفض عليه شباب فلسطين، خاصة شباب القدس، وأفشل كلَّ مخططاته.

ليس إلا انطلاقًا من هنا، يمكننا الآن فهم الفيلم. بمعنى أن نتانياهو عندما رآى أن كل هذه السلسلة من التصعيد والاستفزاز لم تكف لتمكينه من تشكيل حكومته، قرر التصعيد ضد غزة. هذا العدوان اتسم بربريَّة دموية لا مثيل لها، لدرجة أن بعضًا من طلابي الشباب الذين أعرف بأنهم بعيدون تمامًا عن السياسة، تظاهروا في المسيرة التضامنية الممنوعة،حينها أتوني مذعورين يقولون: "سيد فيدال ! إنها غيرنيكا ! إنها وارسو! إنها دريسدن!".

  • أشرتم إلى "انتحار السلطة الفلسطينية"، هل هذا الانتحار حسب تعبيركم يعود إلى لحظة توقيع اتفاقية أوسلو؟

كما تعلمون فأنا مؤرخ، أكثر من شغلي كصحافي، وبالتالي أقول لكم إنه من الصعب تحليل كيف أدى توقيع اتفاقية أوسلو إلى هذا الوضع الكارثي. لكن من الصحيح القول إن هناك تأثير كبير للاتفاق على ما بلغته الأمور، ومن الصحيح أن أوسلو لم تأت باتفاق سلام بل باتفاق احتلال، وأن إسرائيل استغلت كل الأخطاء التي ارتكبت خلال الاتفاق لصالحها، بما فيها تلك التي ارتكبها ياسر عرفات. فمن العبثي أن توقع اتفاقًا لا يحمل ولو بندًا واحدًا  يمنع الاستمرار في بناء المستوطنات، وهذا كان أقل ما يجب فعله، لأنه لا يمكن أن نتفاوض حول اتفاق سلام دون إيقاف ما يمنع قيام هذا السلام. وبالتالي هناك كما قلت مسؤولية لأوسلو فيما يقع الآن، لكن في نفس الوقت دعني أطرح عليك هذا السؤال: لنتخيَّل مثلًا أنهم لم يغتالوا إسحاق ربين، وأنهم لم يسمموا ياسر عرفات – لأنني أومن بأن عرفات مات مسممًا- لنتخيَّل أن هذين الرجلين الذين كان على الأقل لهما رغبة مشتركة في الخروج من الانسداد الذي تعرفه القضية منذ 1948، لم يقتلا؟ كيف كانت ستكون الحالة الآن؟ لذا أقول إنه لا يجب أن نحملَ أوسلو أكثرَ مما يحتمل.

  • ما الذي قلب الأمور بعدها؟

بالنسبة للوضعية الحالية ففي نظري هي وضعيَّة متأرجحة –وسأخبرك بهذه الفكرة التي تشغل بالي حاليًا وتشغل نقاشاتي مع عدد من الباحثين والمهتمين بالقضيَّة – لدينا الآن وضعية مثيرة للانتباه: لو عدنا إلى الهدف الأول الذي وضعته الصهيونية لنفسها سنقول إنه كان بناء دولة لليهود بأغلبية ديموغرافية يهودية، من أجل السماح لهم بالعيش في بلد لن يعانوا فيه من معاداة السامية أو الاضطهاد أو معسكرات الاعتقال.. لنرى الآن ما تقوم به السياسات المتطرِّفة لنتنياهو، منذ 2015، سنجدها لم تحقق تلك الدولة اليهودية المنشودة، بل خلقت دولة ثنائية المواطنة بأغلبية ديموغرافية محتملة للفلسطينيين. إذًا فهو يقوم بعكس ما رصده المشروع الصهيوني من أهداف.

وبالتالي ما يمكن أن نفهمه – وهذه هي الفكرة المهمة التي حدَّثتك عنها– أن هناك بعدين متناقضين فيما يحصل الآن: من ناحية هناك استعراض للقوة العسكرية الإسرائيلية، ولقدرات أسلحتها الفتَّاكة، وقد رأينا في غضون أيام الدموية الهائلة والدمار الذي أحدثته. وبالمقابل، هناك تصريح بالفشل الذريع، لأن الشباب الفلسطيني قاوم بصمود، ولأنها المرة الأولى في التاريخ التي رأينا فيها صواريخ حماس تضرب القدس وتل أبيب، ولأنه وفي المدن المختلطة قامت مواجهات – وأقول مواجهات وليس حربًا أهلية ومن يقول بأنها حرب لا يعي حقيقة ماهية الحرب الأهلية – حيث تم استجلاب مجموعات من المستوطنين المتطرفين الكاهانيين من الخليل ليقوموا بـ "بوغروم" فعلي وعمليات اصطياد للفلسطينيين تحت حماية من الشرطة الإسرائيلية. ضف على ذلك، أنه بطبيعة الحال كان هنالك قتلى في غزة، لكن الشعب الغزَّاوي صمدَ في وجه العدوان، ولم نراهم يحملون حقائبهم فارين عبر البحر، كما حدث في يافا 1948.

  • ألم يكن كافيًا بالنسبة للرأي العام الإسرائيلي أنه نجح في ضمان تطبيع خمس دول عربية؟

هذا كذلك جزء من الفشل الذي لم ننته بعد من استعراضه؛ فكل الزعماء العرب الذين هرولوا لأخذ إسرائيل بالأحضان موقعين ما سمي باتفاقيات السلام – كيف يكون هنالك سلام والإمارات أو البحرين أو المغرب لم يكونوا نهائيًا في حرب مع إسرائيل؟ - يواجهون رفضًا شعبيًا كبيرًا. يُضاف ذلك إلى حقيقة أن الرأي العام الدولي، ممتعض أساسًا من إسرائيل لكل الحروب والمجازر الدمويَّة التي قامت بها. كدليل على هذا سأعطيك ثلاثة أرقام  من المرجح أنك لا تعرفها لأن الإعلام عتَّم عليها: في سنة 2018 وتزامنًا مع الذكرى 70 لقيام إسرائيل، أتت "اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا" الفكرة الغريبة بإجراء استطلاع رأي حول "كيف يرى الفرنسيون إسرائيل؟"، والنتائج لم تكن نهائيًا كما انتظروها: 57% من الفرنسيين قالوا إن لديهم صورة سيئة عن إسرائيل، 69% من الفرنسيين قالوا إن لديهم صورة سيئة عن الصهيونية، و71% - أكثر من الثلثين– قالوا إن إسرائيل هي المسؤولة عن الانسداد الذي تعرفه القضيَّة الفلسطينيَّة. إذًا تخيَّل معي ما سيقوله هؤلاء الفرنسيون الآن بعد كل هذه الأحداث الدَّمويَّة!

  • بالحديث عن الرأي العام الدولي، لاحظنا مع صعود الهبة الأخيرة تزايدًا مستمرًا في التضامن الدولي مع فلسطين. ورأينا كذلك كيف أنها كانت سابقة في خروج قسم، ليس بالهين، من الديموقراطيين الأمريكيين  بخطاب مناقض لما يتبناه حزبهم بخصوص القضية الفلسطينية، محرجين الرئيس بايدن إزاء موقفه المتماهي مع الآلة العسكريّة الصهيونية. كما شاهدنا عددًا من المسيرات التضامنية الكبيرة تجوب عواصم العالم بأسره. في نظركم هل يمكننا الحديث عن تحوًّل في الرأي العام الدولي من القضية الفلسطينيَّة؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر  هذا التضامن على الوضع؟

قبل أن أجيبك على هذا السؤال، أود أن أذكِّرك بحديثنا السابق، عندما تم توقيع صفقة القرن، وقتها كان الكل يهلل بأن المسألة الفلسطينية انتهت، وأن إسرائيل قادرة عل توقيع اتفاقيات سلام مع العرب دون أن يتحصل الفلسطينون على أي من مطالبهم، وترامب ونتنياهو يقبلان بعضهما فرحًا بأن القضية الفلسطينية ماتت. لكن ها نحن بعيد ذلك بأشهر قليلة، ماذا حصل؟ الفلسطينيون يقاومون في غزة، يقاومون في الضفة، يقاومون في القدس وفي أراضي 48، وفي كل شبر من فلسطين حيث يوجد الاحتلال اندلعت مقاومة؛ فمثلًا الصدامات التي حدثت في المدن المختلطة لم يسبق لها مثيل من قبل. وفي خضمِّ هذا يمكن أن نقول بأن نتنياهو قد أعاد إسرائيل إلى مرحلة ما قبل 1948، مع تهديد محدق باندلاع حرب في الداخل، ليس فقط في الأراضي المحتلة بعد 67 بل حرب في الداخل.

إذًا، وعودة إلى السؤال الذي طرحته، يجب ألا نوهم أنفسنا، فالرأي العام الدولي ومع ازدياد حدة انتقاده لإسرائيل لازال يفتقر إلى الثقل الكافي لتحريك الحكومات، لكننا مع ذلك نلاحظ أثره من الآن؛ فبايدن أصبح محرجًا أكثر فأكثر، وماكرون كلَّل نفسه بالعار، والسلطات الألمانية تتخبَّط. مع أن تخبُّط الألمان مفهوم، لأنهم في النهاية هم من أبادوا 6 ملايين يهودي ومن الصعب عليهم الآن انتقاد إسرائيل، مع أنني أعتبر ذلك خطأ، فبالضبط لأنهم تحمَّلوا المسؤوليَّة التاريخية للمجزرة النازية –لأنه لم يكن ضحيتها اليهود فقط- والهولوكوست،  لديهم الحق أن يقولوا لحلافائهم في تل أبيب بأن لا يقوموا بنفس الكارثة في حق الشعب الفلسطيني.

أساس مصطلح "شووا" العبري الذي نرمز به للمحرقة يعني الكارثة أو المصيبة، و"النكبة" بالعربيَّة تعني تقريبًا نفس الشيء، إذًا هناك حضور دائم لهذا المفهوم الكارثي في عمق الصراع الفلسيطيني الإسرائيلي. لكنني أظن أن ما تغير في الرأي العام الدولي خلال هذه الهبة الأخيرة، إذا كان هذا ما تدفعني للتطرق إليه، هو أن التضامن مع الفسطنيين لم يعد مقتصرًا على دوائر المناضلين السياسيين، وعلى التطور الحاصل فيها، والدليل على ذلك النجاح الواسع الذي بلغته حركة المقاطعة BDS، التي لم تعد فقط أداة مقاومة بل رمزًا عالميًا لمناهضة الاحتلال الإسرائيلي. فنحن الآن أمام تضامن تخطى تلك الدوائر التقليدية، لأنه إذا صحت الأرقام التي أشرت لها سابقًا في فرنسا، فبالتالي هي صحيحة على العموم في أوروبا الغربية كلَّها. وهذه إشارة مهمة بأن الرأي العام عرف انقلابًا كبيرً لصالح فلسطين هناك. وأقول الغربيَّة وليس أوروبا الشرقية؛ لأنه كما تعلم الوضع هناك صعب بعض الشيء، حيث يوجد حكام يمينيون شعبويون عنصريون، معادون للمسلمين وللسامية في شكلها الأعم: يهودًا كانوا أو عرب. إذًا في الغرب، وكي لا أكون مبالغًا في استعمال المصطلحات، هناك نوع من الامتعاض من السياسات الإسرائيليَّة، ونتنياهو أصبحَ رمزا لحدث مريع في التاريخ. وهنا سأقول أمرًا في غاية الأهمية. هناك مؤرخ ومفكر يهودي كبير اسمه يشعياهو ليبوفيتش قال:" أن تكون يهوديًا هذا لا يحيمك من أن تصاب بعدوى الفاشيَّة"، وقال إنه "لدينا في إسرائيل يهود نازيين". وبطبيعة الحال من يقصد  بحديثه هم أمثال مايير كاهانا، أمثال باروخ غولدشتاين سفاح مدينة الخليلة في 94، أمثال إتمار بنغفير هذا  الذي طلع مؤخرًا من قبعة نتنياهو والذي نظَّم كل هذه الاستفزازات الجارية الآن سواء في القدس أو في المدن المختلطة. إذن هناك شيء ما صادم في نتنياهو الذي أصبح الآن يقلب العالم، مثل ميلوزوفيتش أو  أمين دادا، أو غيرهما من الأسماء الدمويَّة التي صدمت العالم، وبالتالي تحوَّلت إلى رمز للشَرِّ.

  • بالحديث عن هذه العلاقة التي تجمع نتنياهو باليمبن المتطرف الأوروبي والنازيين الجدد هناك. نجد أن هناك شيئًا فريدًا في النسق الأيديولوجي لهؤلاء؛ فمن ناحية هم يكرهون اليهود لكنهم يحبون ويدافعون عن إسرائيل،  وعلى نفس الشاكلة، يتبنون خطابًا عنصريًا تجاه المسلمين لكن يتحدثون بإعجاب عن ابن سلمان والإمارات. من وجهة نظركم كمؤرِّخ، كيف يمكن تفسير هذه المواقف المتناقضة؟ وكيف ترتبط بالسياسات التي يقودها تيار نتنياهو في إسرائيل وعلاقاته بقادة تلك الدول العربية؟  

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وقع هو الآخر تحت صدمة   11 سبتمبر، فبعد الأحداث الإرهابيَّة تولد خط سياسي جديد، تجمعت داخله كل القوى الإسلاموفوبيَّة، والتي انطلاقًا من الأعمال الوحشيَّة التي تقوم بها تنظيمات القاعدة وداعش، لا يهاجمون الجهاديين بل يتوَّجهون بالهجوم للإسلام. الأمر يشبه لو أخذنا الجرائم التي قام بها أنصار الاستعلاء العرقي في  النرويج، نيوزيلاندا أو الولايات المتحدة، وقلنا: إن المسيحيَّة هي المسؤولة عن ما حدث. لكن في الحقيقة أن عنصريين متطرفين هم من قاموا بتلك الأفعال الوحشية باسم المسيحية، وهو الحال نفسه بالنسبة للإسلام. هم مجرمون جهاديون ينسبون للإسلام جرائمهم، كما لا يمكن أن نحمل لليهود مسؤولية ما يقوم به الكاهانيون الفاشيون الآن! بينما كل هذا  الخط السياسي الجديد، في نظري، هو نوع من تسطيح وتبسيط القضايا، كي يعيد رسم خارطة التحالفات السياسية. 

ولكي أكون في غاية الصراحة معكم، البارحة دعيت لنقاش على التليفيزيون الجزائري والانطباع الذي احتفظت به كان؛ أنه عندما نريد أن نبسط الأمور كثيرًا ينتهي بنا الحال إلى عدم فهم حقيقتها... فبطبيعة الحال إذا أردنا أن نحصل على تعريف واقعي سياسي لما يقوم به نتنياهو مع قادة أوروبا الشرقية والوسطى، سيكون سهلًا أن نقول بأنه: يعمل على تفكيك أوروبا لكي لا تتدخل في ردع الممارسات الإجرامية العنصرية التي يمارسها في بحق الفلسطينيين. وبالتالي فقد بحث عن تحالفات مع هؤلاء القادة لدول أصبحت الآن عضوة في الاتحاد الأوروبي، من أجل خلق كتلة داعمة لإسرائيل داخل هياكل الاتحاد، كي تجمد أي ردة فعل أوروبية – على ضعفها في السنوات الأخيرة – يمكن أن تتخذ ضد إسرائيل.

لكن الأمر الصادم بالنسبة إلي، كشخص من أصول يهوديَّة، وكشخص فقد عددًا كبيرًا من أفراد عائلته خلال المحرقة النازيَّة – على الجدار التذكاري لضحايا المحرقة هناك 13 اسمًا من أفراد عائلتي-   هو أن نتنياهو لم يقف فقط عند بناء تحالفات مع هؤلاء المعادين للسامية والمنكرين للمحرقة، بل سمح لهم بالاستمرار في تعبيرهم عن تلك النزعة. فعند لقائه سنة 2017 بفكتور أوربان في بودابيست، كان الأخير قد ألقى قبل أسابيع فقط من تلك الزيارة خطابًا يبرر فيه سياسات ميكلوش هورتي، الذي كان وصيًا للعرش المجري بين 1920-1944، والذي أقر القوانين التي أرسلت أزيد من مليون ونصف يهودي مجري إلى مراكز الاعتقال النازي. المتوقع هنا أنه، كرئيس حكومة إسرائيلي يهودي، إذا ما زار من يقوم بتبرير المسؤولين عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبت بحق الشعب اليهودي، رغم كل الهواجس الاستراتيجية والتكتيكية، أن يقول مثلًا: انتظر يمكن أن نعمل معًا لكننا نرفض أي خطاب ينفي المجازر التي ارتكبت في حق اليهود أو التبرير لمسؤوليتكم فيما حصل.

ذهب كذلك لبولونيا، ليتغزَّل في حكومة بولونيا اليمينية المتطرَّفة، بقيادة حزب ليك كاشينسكي، التي صوِّتت في البرلمان على قانون يمنع الحديث عن التعاون البولوني، رغم أن الحقائق التاريخية تؤكد أن بولونيا كانت المتعاون الأكبر مع النازية بين كل البلدان الأوروبيَّة، ولم يقتصر دورها فقط على التعاون المنظم، بل كان الجيران والأصدقاء يبلغون عن جيرانهم وأصدقائهم اليهود، بهدف مصادرة منازلهم وسرقة ممتلكاتهم بعد أن تحملهم السلطات النازية إلى مراكز الاعتقال. كان من الممكن على نتنياهو أن يشترط تحالفه معهم مقابل سحب ذلك القانون، باعتباره خيانة للذاكرة اليهودية وخيانة للحقائق التاريخية التي تقول بأن المجازر بحق اليهود استمرَّت إلى حدود 1949، أي حتى بعد سقوط النازية. لكن ما قام به في الأخير هو تقديم إعلان مشترك مع رئيس الحكومة البولوني، قال عنه المسؤول عن ذاكرة المحرقة: "هذا الإعلان المشترك بين نتنياهو ومورافييتسكي، هو خيانة غبية وجاهلة، وتناقض بشكل تام لحقيقة التعاون البولوني مع النازيين".

 لو كنت رئيس حكومة دولة تقدم نفسها على أنها "الدولة اليهودية"، وأحابي منكري المحرقة البولونيين، ويخاطبني أهم مؤرخ للمحرقة بأنني جاهل وغبي وكذاب، كنت حتمًا سأقدم استقالتي. لكن لا شيء من هذا حدث، بل وأكمل نتنياهو في نفس سياساته المحابية لليمين الشعبوي ومنكري المحرقة، وقام بذلك مجددًا عندما زار دول البلطيق... وهنا سأخبركم بشيء لم يعد سرًا، أن نفس الشيء يحدث بالنسبة لبعض الوجوه الدينية المسلمة في فرنسا الذين أصبحوا من أكبر مروجي البروباغندا الإسرائيلية. لدينا هذه الظاهرة، ما يعني أن تفسخ بعض الوجوه السياسية والدينية أصبح واقع عالم اليوم.

  • بمناسبة ذكر فرنسا، هناك سؤالان أخيران بخصوصها، ولنبدأ بما قام به وزير الداخلية جيرالد دارمنان من منع للتضاهرات التضامنية مع فلسطين: كيف يمكننا ربط هذا المنع بكل الحرب العنصرية التي تقودها وزارته بالخصوص، والحكومة الفرنسية،  ضد المسلمين كما ضد اليسار باتهامه بـ "اليسارية الإسلاميَّة"؟

عذرًا عمن تتحدث؟ عن كاتب تلك المطويَّة حول نابوليون واليهود؟ إنها مطوية معادية للسامية لا أعلم إن كان هو فعلًا كاتبها لكنها موقعة باسم "جيرالد دارمانا"، ولو لم يكن وزيرًا للداخليَّة لكان الآن جالسًا على كرسي المحكم ! لقد أعاد اجترار كل المواقف المعادية للسامية التي تعود إلى حقبة نابوليون، ويأتي الآن ليتحدَّث عن مناهضة معاداة السامية، إنه فعلًا مشكلة حقيقية تلك التي يخلقها وجود شخصية مثله. لكن قبلَ هذا هناك خبرٌ جيِّد، أنه تقرَّر بأن المنع لن يطال أي مظاهرة تضامنية قادمة، ما يعني أن ماكرون ووزير داخليَّته قد ندموا على القرار الذي اتخذوه سابقًا. فيما كلَّ المضاهرات مرَّت في ظروف جدية، سوى تلك التي قمعوها فعلًا بباريس، وبالتالي تبيَّن للرأي العام أنه إذا كان هناك شخص مسؤول عن نشر الفوضى فهو وزير الداخلية جيرالد دارمنان. 

عمومًا، ما تطرحونه ينقسم لسؤالين أساسيَّين: الأول يهم السياسات الشرق أوسطيَّة لفرنسا، والثاني هو حول التنافس السياسي الذي دخله ماكرون مع أتباع لوبان وحزبها. ولا يمكننا أن نمزج بين الإثنين، مع أنهما عمليًا يمتزجان في عقل هؤلاء المسؤولين الفرنسيين. 

  • تطرَّقتم في كتابكم "مناهضة الصهيونية = معاداة السامية؟" إلى رهانات الرؤساء الفرنسيين بخصوص القضية الفلسطينية، من دوغول إلى جيسكار ديستان. هلا وضحت لنا بعجالة تطور هذه الرهانات؟ كما أي رهان للرئيس الحالي في  القضية؟ 

الأمر في غاية البساطة، ففرنسا انطلاقًا من 1948 أصبحت الصديق الحميم لإسرائيل، وبشكل أدق كان الزعماء الاشتراكيون الديموقراطيون على الجانبين على وفاق تام. ولن أطيل عليكم في سرد التاريخ كلِّه، مرورًا بمنح القنبلة لإسرائيل في بداية من سنوات 56، أو حرب قناة السويس ضد ناصر التي كانت حدثًا ساخنًا.. 

لكن الأمر تغير بداية من 67 ودوغول، الذي منذ وصوله إلى السلطة في 59 أعاد تأطير الدعم السياسي الفرنسي لإسرائيل، والذي اغتنم أيضًا الفرصة منذ نهاية حرب الجزائر لتبني علاقة منفتحة على العالم العربي. عندما أخبر إسرائيل بأنه لن يسمح لها بأخذ المبادرة في إعلان الحرب، كان في غاية الصرامة وقتها، ووضع نموذجًا جديدًا للعلاقة الفرنسية الإسرائيلية ترهن حق إسرائيل في الوجود والأمن بضمان حق الشعوب العربية – لأن اسم فلسطين لم يكن دارجًا بعدُ في الخطاب السياسي– في ذلك أيضًا. 

بعد دوغول، تبع كل الرؤساء الفرنسيين نفس النهج بل وطوروه، وصولًا إلى جيسكار ديستان وميتيران حيث تمَّ تصعيد الخطاب وأصبحنا نسمعهم يتحدَّثون عن حق قيام الدولة الفلسطينية. على سبيل المثال ميتيران، عندكا تمَّ انتخابه رئيسًا في 81، زار إسرائيل وأعلنها داخل الكنيست: الفلسطينيون لهم الحق في أن تكون لهم دولة. كما أن ميتيران نفسه كان قد أنقذ ياسر عرفات في مرَّتين متتاليتين؛ الأولى عندما بعث له بالبواخر لإنقاذ الفدائيين عندما كانوا محاصرين من قبل إسرائيل في 82، وعندما حاصرتهم القوات السوريَّة في 83. 

كلُّ هذا استمرَّ كذلك وصولًا إلى الرئيس شيراك – ولنقُل النسخة الأولى من شيراك– الذي رأيناه مثلًا يقف ضدَّ الحرب في العراق، أو كما تتذكرون صور زيارته للقدس عندما خاطب الشرطة الإسرائيلية بلكنته الإنجليزية المضحكة: "أتريدني أن أحمل حقائبي رجوعًا إلى باريس؟" إذًا إلى حدود تلك اللحظة كانت فرنسا في هذه النقطة تسير على نفس سياسة دوغول، ولنقل أنها كانت سياسة معتدلة؛ تحافظ على الصداقة مع إسرائيل بالمقابل الأخذ بعين الاعتبار قيام الدولة الفلسطينية وأن حقوق العرب تبقى مكفولة.

لكن الأمور بدأت تحيد عن هذا المسار بعد ذلك، بداية من  فترة حكم ساركوزي، وبشكل أسوh في فترة هولاند، الذي يذكر أنه مرة عندما كان في حفل عشاء في مقر الإقامة الخاصة لنتنياهو رفع نخبه قائلًا:"سيكون  لدي دائمًا حقولٌ من الحب تجاه إسرائيل وقادتها!". وذلك كان سابقة، أي أن يتلفَّظ رئيس فرنسي بتلك الكلمات. وإلى الحقبة الراهنة، الظاهر أن إمانويل ماكرون لا ينوي تغيير هذا النهج الذي أعتبره بغيضًا؛ بغيض ليس فقط لأن الفلسطينيين لهم حقوق وأنه لن يكون هناك سلام مادام لم يتنعَّم الفلسطينيون بهذه الحقوق. لكن كذلك لأن هذا يسيء لفرنسا التي مكنتها في السابق سياسية دوغول من تحقيق انفتاح على الدول العربية ودول العالم الثالث، وخدم ذلك مصلحتها بالنسبة للدور المنوط بدولة كفرنسا أن تلعبه على المستوى الدولي، أكثر استقلالًا عن الولايات المتَّحدة وعن القوى العالمية الأخرى، خاصة  في عالم الآن حيث تتعدد الأقطاب وعليها أن تلعب دورًا تشاركيًا أكثر. وللأسف نحن الآن أمام نوع من الانزياح عن هذه المقاربة التي أسس لها سابقًا الجنرال دوغول. 

  • وهل ترتبط حالة الانزياح هذه بالخطاب المعادي للمسلمين في فرنسا؟

نعم، فما نشهده هو ظاهرة سياسية واسعة، حيث الإسلاموفوبيا، العنصرية ضد العرب ومعاداة اليهود هي الخطاب الانتخابي المعتمد من طرف السياسين اليمينيين في غالبيَّتهم. وبالتالي نحن أمام ظاهرة فريدة من نوعها، ولست محللًا سياسي للشأن الفرنسي، لكن يمكنني أن أقول بأننا نعيش مرحلة أحقر طبقة سياسية عرفتها فرنسا طوال تاريخها! وهذا لم يأت بمحض الصدفة، بل لأن إيمانويل ماكرون أنشأ حزبًا لا إطار أيديولوجيًا له، لا مبدأ ولا فكرة جامعة، وبالتالي مثَّل مرتعًا لكل الانتهازيين من كل التيارات السياسية التي هبَّت إليه ناشدة قطعتها من الكعكة السياسية.

لكن ما لا يفهمه هؤلاء هو وجود قانون مهم يحكم العملية السياسية الفرنسية، أول من أطلقه – وأعتذر عن ذكر اسمه– هو جان ماري لوبان الذي قال:" الناخب الفرنسي دائمًا ما يفضِّل النسخة الأصلية عن المزوَّرة". وهذا يصب في عمق ما تقوم به طغمة ماكرون ودارمنان ومن لفَّ لفَّهم، بمعنى؛ أننا إذا أردنا أن نمارس السياسة اللوبانيَة دون مارين لوبان، سينتهي الأمر بانتخابها رئيسة للجمهورية. وهذا انتحار سياسي تقوده كل هذه الأحزاب، سواء حزب ماكرون أو الحزب الجمهوري الذي يعرف الآن انقسامات كبيرة، كلَّما قلدوا لوبان أكثر؛ باعتماد المقاربة الأمنية، محاربة الهجرة، الإسلاموفوبيا وقضايا الحجاب.. لن يخدموا إلا مصلحة لوبان وحزبها، ويزودونها بأصوات أكثر.

دومنيك فيدال: الرأي العام الدولي ومع ازدياد حدة انتقاده لإسرائيل لازال يفتقر إلى الثقل الكافي لتحريك الحكومات، لكننا مع ذلك نلاحظ أثره من الآن

إذن نحن أمام طبقة سياسية، أو جزء منها (ماكرون والجمهوريون)، يركوضون فعليًا نحو الانتحار السياسي. مع أني لم أصدق يومًا بإمكانية حصول مارين لوبان على كرسي الرئاسة، وأثق أنه سيكون هناك سد جماعي أمام صعودها، لكن هذا لا ينفي كوني قلقًا من أن يؤدي انحراف الأغلبية الحاكمة إلى ذلك.