30-أكتوبر-2023
تغطية الاعلام الامريكي مهّدت للمجزرة

تغطية الإعلام الأمريكي أعطت غطاء للمجزرة الإسرائيلية في غزّة (Getty)

يفرض الحديث عن الحرب وأهوالها سؤالًا مباشرًا عن التغطية الصحفية والإعلامية التي تزامنها أو تمهّد لها، أو في أحسن الأحوال تنقدها وتفضحها وتسعى لوقفها. وإن كانت هذه الملاحظة تنطبق على الحروب التقليدية التي شهدها العالم الحديث منذ مطلع القرن العشرين، فإنها تنطبق وعلى نحو أشدّ مأساويّة على الحرب غير المتكافئة التي يشنّها جيش متطوّر صاحب عقيدة إباديّة تطهيريّة، على قطاع محاصرٍ، قُرَن أهله جميعًا بـ"الإرهاب"، كوسم هويّاتيّ اعتباطي يلزم استخدامه للتغطية على جريمة شاملة. ولم يكن لهذا الوسم، المفروض دائمًا، والتصنيفيّ دائمًا، أن يحظى بهذه القوّة التسويغيّة إلا بالاعتماد على الإعلام السائد المتواطئ مع السلطة التي تحتكر في المقابل "العداوة للإرهاب"، أو "اللاإرهاب"، بحسب ما يرى جوزيف مسعد في كتابه الهامّ "ديمومة المسألة الفلسطينية". 

في هذا المقتطف المترجم من حوار طويل مع المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي، نشر على صفحات مجلة "ذا دريفت"، تعليقٌ حول الانزلاقات المتوقّعة للإعلام الأمريكي في تغطية الحرب على غزّة، والتي ترقى في نظره إلى أن تكون "بروباغاندا حرب تقليدية"، بدت فيها وسائل إعلام أمريكية كبرى مجرّد أبواق للإدارة الأمريكية تستدخل في خطابها التحالف المطلق والمعلن مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. 


 

  • وصفت الأحداث الأخيرة في خطاب وسائل الإعلام السائدة بأنها "غير مسبوقة"، وأنّها تشكّل نقطة انقطاعٍ عن الماضي. إلى أي مدى يتّفق هذا التوصيف مع الواقع، علمًا أنكّ قد أشرت في مقال نشر في سبتمبر الماضي في مجلة الدراسات الفلسطينية، أن العام 2023 قد كان حتى تلك اللحظة، العام الأكثر دمويّة للفلسطينيين في الضفة الغربيّة منذ زهاء عقدين. فهل ما نعايشه اليوم هو نار حتميّة اندلعت في هذا الهشيم؟

لا أظنّ أن أحدًا كان يسعه توقّع ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية. ما أقصده هو أن إسرائيل- بجيشها المحسوب بين أكبر جيوش العالم، وجهازها الاستخباري المعدود بين الأفضل في التاريخ- لم تكن لديها أية فكرة عمّا دهمها. ولسوف تعقد لبحث هذا الفشل الاستخباري لجانُ تحقيق، وسيخضع ما جرى للدراسة والتمحيص في المعاهد العسكرية والكليّات، فإنه في نطاقه ومستواه كان عصيًا على التوقّع، وإن أحدًا سوى من نفذوا هذا الهجوم كان على علم مسبق به. في الوقت ذاته، فإن أي مطّلعٍ على المشهد العام في الأراضي المحتلة، وفي داخل إسرائيل، لم يكن ليستبعد حصول انفجار من نوع ما عاجلًا أو آجلًا. فحماس ليست حركة تنشط في غزّة ومن أجلها وحسب، بل منظمة ترى أن عموم فلسطين هي أرضها، ولطالما كانت شديدة الاهتمام، خاصة مع تشكيل الحكومة الجديدة في إسرائيل، وحتى في الأعوام التي سبقت ذلك، من واقع القتل المتزايد بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتكرار اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى.

4000 طفل في غزة
بلغ عدد الأطفال الشهداء في العدوان على غزّة زهاء 4000 طفل، أي حوالي نصف عدد الشهداء منذ 7 أكتوبر 2023 (Getty)

إن التطهير العرقيّ في فلسطين لم يتوقّف، وإن ظلّ يُنجَز بوتيرة هادئة للغاية، وعلى نحو يتيح المضيّ به دون لفت انتباه العالم إليه. وفي تلك الأثناء، جرى تجاهل القضية الفلسطينية، وسُدّ كلّ أفق ممكن أمام الفلسطينيين، وقد بدا ذلك هدفًا أساسيًا لإسرائيل نفسها أولًا، وللدول الغربية، ولبعض الأنظمة العربية الحليفة لإسرائيل. لقد شكّل ذلك للإسرائيليين حالة مثاليّة على كافّة الأصعدة، لاسيما حين بدأ الحديث عن مشاريع سكك حديدية تربط بين مكّة وحيفا، وعن حفلات إسرائيلية في الصحراء السعودية، في حالة متخيّلة من المحبّة والصداقة، والأمن والترتيبات التي تستمرّ بلا انقطاع. وكان يراد لكل ذلك أن يحصل والفلسطينيون خاضعون لغطرسة لا حدود لها من قبل الاحتلال الإسرائيلي. لقد نما إلى وعي وملاحظة الفلسطينيين جميعًا أن الوضع يتزايد بؤسًا، وأن مصالحهم وحقوقهم لم تعد تعني شيئًا لأي طرف، ليس لإسرائيل وحسب أو الولايات المتحدة أو الدول الحلفاء/الوكلاء في الغرب، بل وللدول العربية أيضًا.

  • بوسع أي متابع لشبكة "سي أن أن" أن يشاهد عبر شاشاتها جنرالات إسرائيليين يدّعون بأريحيّة كاملة بأن إسرائيل تتجنّب إلحاق الأذى بالمدنيين (أو أنها تمنح الفلسطينيين الفرصة للإخلاء، انطلاقًا من "الواجب الإنساني" تجاههم)، وذلك بالتزامن مع مشاهد لقصف المباني السكنية والجامعات وقوافل النازحين في غزّة. كما نقرأ أيضًا في نيويورك تايمز، أن "إسرائيل تشنّ حربًا للدفاع عن مجتمع يقدّر قيمة الحياة وسيادة القانون"، وذلك في مقال بتوقيع هيئة التحرير لا يبعد سوى فقرات معدودة عن تقارير تفيد بأن إسرائيل قد أوعزت بقتل آلاف الناس، خلافًا لمقتضيات القانون الدولي. هذه الروايات التي نلحظها في وسائل الإعلام السائدة متناقضة على نحو ظاهر للعيان، وتخلق حالة عميقة من الغرابة عند النظر إلى قدرتها على وصف ما تقوم به إسرائيل بنزاهة. كيف لك أن تفسّر طريقة تعاطي هذه الوسائل الإعلامية للحرب على غزّة؟

لعلك تعلم أنني كتبت في السابق عن سياسات الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، في فترة لم يتوفّر لدينا من المصادر الصحفية سوى ما كان ينشر في صحف سوفيتية مثل "برافدا"* وأخواتها. واليوم يراودني شعورٌ بأن الزمن قد عاد بنا إلى تلك الأيام، أيام الحرب الباردة، وأنني أقرأ "نيويورك برافدا تايمز"، أو "واشنطن إزفيستيا* تايمز"، وكأنّها أبواق إعلامية لإدارة بايدن وحليفها و"توأم روحها" إسرائيل. إنني لا أرى في وسائل الإعلام السائدة هذه سوى بروباغاندا حربٍ تقليدية.

إننا إزاء حيّز يبدو مفرّغًا من الذاكرة ومن التاريخ ومن الحقائق، وهو ما يتيح للإعلام مثلًا أن يتجاهل حقيقة أن القائد السابق للجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوت، والذي انضمّ مؤخرًا إلى حكومة الطوارئ، قد كان هو نفسه قائد إدارة العمليات في الجيش الإسرائيلي الذي دمّر لبنان، وهو نفسه الذي وضع ما يعرف باسم "نهج الضاحية"، والذي يعبّر عن عقيدة إسرائيل التدميرية ضدّ حيّ "الضاحية الجنوبية" والذي جرت تسويته بالأرض في حرب لبنان الثانية صيف 2006. إنه ذات الرجل الذي قال: "سنفعّل ضد أي قرية يتم منها إطلاق النار على إسرائيل، قوّة غير متكافئة، وسنلحق بها أضرارًا هائلة ودمارًا بالغًا، فهذه الأحياء من ناحيتنا نحت، هي قواعد عسكرية، لا قرى مدنيّة". هذا الرجل قد بات وزيرًا اليوم، وهو أحد العقول المدبّرة لهذه الحرب الدائرة الآن فوق رؤوس السكّان في غزّة. لقد عبّر أيزنكوت عن عقيدته: إنه لا يحترم القانون الدوليّ. لقد وضعت مقالًا في مجلة الدراسات الفلسطينية حول ذلك، ولكن هل من الحصيف توقّع اطّلاع صحفيّ عادي على مضامين مجلّة تعنى بالدراسات الفلسطينية؟ الجواب مع الأسف هو لا. وحتّى من يعرفون بعض هذه الحقائق، فليس في مقدورهم الكتابة عنها في قصصهم الصحفية، فأنا أتواصل مع الصحفيين كثيرًا، وأعرف طبيعة التكليفات التي تصلهم من المحررين المسؤولين، وبين فينة وأخرى نجد أن فئة قليلة تبدي بعض الممانعة.  

يراودني شعورٌ بأن الزمن قد عاد بنا إلى تلك الأيام، أيام الحرب الباردة، وأنني أقرأ "نيويورك برافدا تايمز"، أو "واشنطن إزفيستيا* تايمز"، وكأنّها أبواق إعلامية لإدارة بايدن وحليفها و"توأم روحها" إسرائيل. إنني لا أرى في وسائل الإعلام السائدة هذه سوى بروباغاندا حربٍ تقليدية

يحدث ذلك على مستوى الإعلام، كما يحدث على مستوى الحكومات أيضًا، حيث نجد بعض الموظفين الرسميين، في وزارة الخارجية وسواها، مستاءين من الموقف الذي تتبناه الحكومة الأمريكية. يحدث ذلك أيضًا عبر الجامعات المختلفة، حيث يتلقى الأساتذة توجيهات من العمادة العليا، إضافة إلى الشركات التي تقرّر أن تعلن عن موقف إزاء ما يجري. ما يتبدّى لنا في هذه الفترة يشعرنا وكأنّ الولايات المتحدة هي التي تخوض الحرب، وأننا جميعًا علينا واجب الالتزام والتكاتف صفًا واحدًا مع إسرائيل، التي يسير الرئيس خلفها.

 

 


*صحيفة برافدا هي صحيفة سوفيتية شهيرة لعبت دورًا دعائيًا محوريًا منذ بدايات القرن العشرين وظلت حتى نهاية الثمانينات بوقًا رئيسيًا للنظام السوفيتي، إلى جانب صحف أخرى بارزة من تلك الفترة مثل إزفيستيا وكرازنايا سيفزدا (المترجم).