26-فبراير-2023
الناقد محمد عبيد الله

الشاعر والناقد محمد عبيد الله

محمد عبيد الله شاعر وناقد وأديب وأستاذ جامعي أردني من أصل فلسطيني. ولد في مدينة السلط عام 1969، وحصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأردنية عام 1998، وعلى رتبة الأستاذية عام 2015.

تتوزع اهتماماته على مجموعة واسعة من القضايا والمسائل الأدبية والنقدية والمعجمية والتراثية. كتب الشعر وقدّم العديد من المؤلفات النقدية حول أعمال وتجارب روائية وقصصية وشعرية تراثية وأخرى معاصرة. كما قدّم عدة كتب أسهمت في النقاش الدائر حول المعجم التاريخي للغة العربية.

يعمل عميدًا لكلية الآداب والفنون بجامعة فيلادلفيا. من أعماله الشعرية: "مطعونًا بالغياب" (1993)، و"سحب خرساء" (2005). ومن دراساته: "القصة القصيرة في فلسطين والأردن" (2002)، و"بنية الرواية القصيرة" (2006)، و"أساطير الأولين" (2013)، و"الصناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب" (2019)، و"رواية السيرة الغيرية" (2020)، وغيرها.

هنا حوار معه.


  • لنبدأ من سؤال بديهي نفتتح به حوارنا: متى أردت أن تصبح كاتبًا؟ ما الذي دفعك باتجاه الكتابة؟ أحداث، أشخاص، كتب، أم غير ذلك؟

سؤال البداية مثير للاهتمام ومحرّض للذاكرة على الدوام. يُعيدني إلى بدايات غامضة وشاحبة لفتىً كنته؛ فتح عينيه وتفتّح وعيه في مدارس "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" في سبعينات القرن الماضي في غور الأردن المطل على فلسطين، حيث مآذن القدس ومعالم أريحا.

وجد الفتى شيئًا من سلواه في الدفاتر المسطّرة التي تحمل اختصار شعار هذه الوكالة، "UNRWA"، إلى جانب الكتب التي تملأ مكتبة المدرسة. وهذا شيء تميزت به مدارس السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي كنت فيها على مقاعد الدراسة الأساسية.

محمد عبيد الله: المخيم يحدِّدُ هويتك إلى الأبد، يمنحك تعريفًا أبديًا بالاغتراب والنفي، ويفتح وعيك على الأسئلة الصعبة

بدأت قارئًا وما زلت من عشاق القراءة. أعتقد أن الكتب الأولى التي مثّلت لي رحلة خيالية تنهض بي وتأخذني أبعد من المخيم ومن المزارع والبراري المحيطة به، هي الأساس الذي بدأت منه. وحتى اليوم لا اقرأ كتابًا لآخذ معلومة أو معرفة محددة، وإنما أقرأ كأنني في رحلة موازية ربما تتضمن من الحقائق والمحفزات أكثر بكثير مما في الواقع الفعلي.

ربما أردت تقليد الكتّاب الذين أقرأ لهم، أولئك الذين غدوا أصحابي ورفاقي. لم أكن أضع خطوطًا فاصلة بين الواقع والحلم، بين الممكن والمستحيل، وكانت الكتب نافذتي وسبيلي إلى الواقع البديل الذي أجده مغايرًا للواقع الصعب الذي كنا نعيشه في مخيم حدودي، "مخيم الكرامة"، على مقربة من فلسطين على ضفة نهر الأردن الشرقية.

تعلّمت من الكتب وتعلّمت من التجربة أيضًا. علمتني الكتب مهارات الكتابة وزودتني بمعجمي ولغتي، لكن الواقع والتجربة المباشرة لي وللشعب الذي أنتمي إليه علَّماني أن للكتابة وظيفة، وأنها ليست رصف كلمات ولا زخرفة بلاغية.

من اللحظات الفاصلة التي أستطيع استعادتها من بداياتي أنني تعرّفت إلى كتابات الأديب الشهيد غسان كنفاني، فبدأت أكتب عن فتى يشبهني يخطط لاجتياز الحدود والاشتباك مع الأعداء، كما فعل بعض أبطال كنفاني في قصصه المقاوِمة. ربما أردت أن أصبح كاتبًا مثل غسان كنفاني، ربما وجدت في الكتابة سبيلًا للتسامي على ضعف بنيتي وكثرة أمراضي وأنا صغير. وربما أدركت، مبكرًا، أن للكلمات قوّتها وقدرتها على المجابهة والمقاومة.

أجمل ما قدِّر لي في حياتي هذه التجربة في صحبة الكتب قارئًا وكاتبًا، ولست أريد من الكتابة غير هذه المتعة وتلك السلوى. لا تهمني الأشكال والأنواع قديمة كانت أو حديثة، عربية أو أجنبية، المهم أن تقدّم لي مقدارًا من التجربة والتجوال في آفاق الإنسان وأحلامه وطموحاته. وكل ما أطلبه من الكتابة أن تكون إنسانية وأن تقف مع الحق والعدالة ضد قوى الاحتلال والاضطهاد، أي قوى الشر التي وجِد الأدب كي يحاربها ويكشف زيفها.

  • استئنافًا لما ذكرت عن نشأتك في "مخيم الكرامة" للاجئين الفلسطينيين في الأردن التي هي دون شك نشأة صعبة تحفّها المرارة والأسى؛ ما الدور الذي لعبه المخيم في نشأتك وتكوينك الأدبيين؟

المخيم يحدِّدُ هويتك إلى الأبد، يمنحك تعريفًا أبديًا بالاغتراب والنفي، يفتح وعيك على الأسئلة الصعبة، يسجّل في قلبك أنك إنسان بلا وطن ولا بيت. ومهما امتلكت من بيوت فإن إحساسك سيبقى مقيمًا عند منازلك الأولى التي تعرفها أو لا تعرفها. ما أصعب أن تولد وتعلم أن وطنك قد احتُلّ وأنك ممنوع عنه، أو أنه مُحي عنوةً عن الخريطة.

كنا في طفولتنا البعيدة نقترب من ضفة النهر ونقارن بين ضفّتين غير متباعدتين. نجلس على ضفة النهر الشرقية وعيوننا وقلوبنا تنظر إلى الضفة الأخرى. نرمي الحجارة أحيانًا لتعبر النهر بدلًا منا، ونتساءل: لماذا نحن هنا؟ ولماذا لا نستطيع أن نعبر هناك؟ كان الاحتلال ماثلًا بقوة أمامنا، ولم نكن نفقه في السياسة أو التاريخ تفاصيل كثيرة، ولكننا لم نكن نحتاج إلى كل ذلك لنعرف معنى الاحتلال والظلم، فنحن بعض ضحاياه المباشرين.

تحوّل المخيم في سبعينات وثمانينات القرن العشرين إلى قرية زراعية، وتحول اللاجئون من أعمالهم القديمة إلى مزارعين أشقياء يحاولون أعمالًا ربما لم يعرفها بعضهم قبل هذه التجربة، وكان الأمر قريب الشبه بالمراحل الإقطاعية: ملّاك الأراضي الممتدة يؤجرون مساحات منها للراغبين في زراعتها اعتمادًا على اقتسام غلّة الأرض، وكانت النتائج غالبًا في غير مصلحة صغار المزارعين وهم معظم أهالي المخيم أو القرية التي كانت مخيمًا، ومعنى هذا استمرار الفقر وعدم مساهمة الزراعة في التنمية باستثناء توفير لقمة العيش وضروريات الحياة، خصوصًا وقت القطاف والمواسم. وكانت تجربة الزراعة التي عملت فيها أسرتنا كغيرها من الأسر تجربة أليمة هدرنا فيها طاقاتنا بلا فائدة.

تحّول المخيم بفعل تأثيرات معينة، من بينها شق قناة الغور الشرقية، إلى قرية زراعية لا يخلو محيطها من شبه نظام إقطاعي، حيث يمتلك الأرض قلة من الإقطاعيين، ويعمل فيها بالسخرة بقايا اللاجئين والعمال الفقراء وبعض الرعاة الذين حاصرتهم الحياة الجديدة، ولم يعد بمقدورهم المحافظة على مواشيهم، فتحولوا إلى مزارعين بلا خبرة. كانت أسرتنا واحدة من هذه الأسر التي فقدت هويتها البدوية وتاهت بين أنماط جديدة فرضتها الحياة، وطوحت بها التغيرات، فغدت خليطًا من الأنماط والهويات.

ومع هذا فللمخيم مباهجه الخاصة برغم مرارة العيش فيه قبل نحو أربعة عقود. تعلّمت فيه التحديق في التفاصيل، وتدربت على مهارات متنوعة. اكتسبت كتبي الألوان الخضراء لأني كنت أصحبها معي وأنا أعمل مع أسرتي، أقرأ في كل فراغ متاح، في الطريق، وأثناء الاستراحات القليلة. كان الوقت من ذهب، ولكن الخسارة كانت هي عنوان حياتنا، مع هذا فإن خسارة الوطن وخسارة أن تولد منتميًا إلى وطن حرّ هي أكثر ما آلمني وعانيت منه حتى اليوم.

  • الشائع أن قراءة الأدب تدفع بالقارئ، عادةً، باتجاه الكتابة الأدبية حتى ولو على سبيل المحاولة. لكنها دفعتك باتجاه الكتابة عما قرأت. سؤالنا: ما الذي دفعك نحو النقد الأدبي؟ وكيف بدأ مشروعك في هذا المجال؟

هذا صحيح، وأنا لم أشذّ عن هذا التعميم، إذ بدأت بالكتابة الأدبية، فكتبت قصصًا وقصائد وخواطر في سنيّ كتابتي الأولى، ثم وجدت هويتي الكتابية في الشعر ونشرت ديوانين معروفين ضمن إنتاج شعراء جيل التسعينات، وشاركت في تأسيس جماعة شعرية "جماعة أجراس الشعرية" عام 1992، وهي ما زالت تُذكر في سياق مراحل تطور الشعر الحديث في الأردن.

وبتأثير من دراستي الأكاديمية للأدب العربي يبدو أنني طوّرت مهارة البحث والنقد، خصوصًا أنني تتلمذت في الجامعة الأردنية على يد عدد من الأساتذة الموسوعيين كإحسان عباس وناصر الدين الأسد ومحمود السمرة وعبد الرحمن ياغي وإبراهيم السعافين وغيرهم. فأدركت من ذلك المناخ، إلى جانب توسّع قراءاتي وصداقاتي للبشر والكتب، أن العالم أوسع من القصيدة الغنائية التي أكتبها، والتي كانت تتمحور أساسًا على تجربة الاغتراب الفردي والانتقال أو الهجرة من الريف إلى المدينة. طبعًا الريف عندي لم يكن ريفًا بالمعنى الدقيق وإنما كان مخيمًا فقيرًا تختلط فيه البيئة الرعوية بالزراعة كما أوضحت سابقًا.

  • منذ كتابك الأول وحتى هذه اللحظة، ما هي المراحل التي مر بها مشروعك النقدي؟ ما الذي ظل ثابتًا فيه، وما الذي تغير أيضًا؟ ولماذا؟

أفضّل الحديث عن اهتمامات وانشغالات، ذلك أن المشروع لا يكون فرديًا وإنما له طبيعة جماعية. أهتم بقراءة الأدب العربي في كل مراحله، ولدي تركيز خاص على تجربة النثر العربي والسرد العربي بوجه خاص في دراساتي ومؤلفاتي، وأتطلع إلى إمكانية تطوير قراءة تستند إلى كفاءة القارئ، إلى جانب المنهج. معظم اهتماماتي تتعلق بدائرة السرد العربي، مع عناية خاصة بمسألة الأجناس والأنواع قديمًا وحديثًا، والنفاذ إلى بعض إمكاناتها وتحولاتها.

محمد عبيد الله: مهما امتلكت من بيوت فإن إحساسك سيبقى مقيمًا عند منازلك الأولى التي تعرفها أو لا تعرفها

لدي إيمان بمكانة الأدب والنقد خصوصًا بالنسبة للغة عالمية ممتدة التاريخ كاللغة العربية، وما أقدّمه ويقدّمه غيري من الدارسين والنقاد إسهام بسيط في الكشف عن جماليات أدبها، فالنقد أداة كشف وتبصّر في هذا العالم المتداخل المتشابك.

يتميز حقل الأدب والنقد بأنه حقل أميل إلى الغموض والالتباس، فهو لا يمتلك خريطة واضحة أو قاطعة، وكل ما يمكن أن يقال فيه أقرب إلى الاجتهاد، ولذلك فإنني آخذ بالمنظور النسبي للأفكار، فما من فكرة أو مسألة قاطعة ونهائية، حتى في تجربة القارئ والناقد الواحد، فما يعجبك اليوم لن يعجبك غدًا، ولذلك فإن الاعتدال والابتعاد عن اللغة القاطعة هو أفضل ما يمكن للمرء أن يعتاد عليه.

الأدب يتغير والنقد كذلك يتغير. شهدنا صعود مذاهب ومناهج معينة مثلما شهدنا انسحابها وغيابها، ولذلك فإنني أقدّم كفاءة الناقد والقارئ على كفاءة المنهج، فما من منهج يمتلك كفاءة تامة، وإنما هناك ناقد فذ يمكن أن يقدم لنا استبصارًا جديدًا يفيدنا ويمتّعنا.

  • بعد سنوات طويلة من ممارسته، كيف تنظر إلى النقد الأدبي اليوم؟ وهل تغيرت نظرتك له عما كانت عليه في البداية؟

النقد الأدبي في نظري تتزايد أهميته رغم اتساع تحدياته في ظل عالم جديد يشهد أدوارًا أوسع لوسائل التواصل الاجتماعي، وللإعلام البديل، والنقد البديل، ونحو ذلك. عندما بدأت قبل نحو ثلاثة عقود كانت كما يبدو أواخر مرحلة سلطة النقد، كان للنقاد أصواتهم وتأثيرهم، وكان الكتّاب يأخذون تلك الآراء على محمل الجد. ومع مرور السنين تراجعت سلطة الناقد، واتسعت مساحة القراءة، أي أن الناقد لم يعد بمقدوره إلا أن يكون قارئًا عمدة وحصيفًا، لا حكمًا أو قاضيًا كما كان الحال قديمًا، وعليه أن يقدّم قراءة يجتهد أن تقنع طائفة من القراء دون أن يعتبر ما يقوله حكمًا نهائيًا أو قاطعًا.

أكثر الذين ينتقدون "النقد" اليوم يمارسونه ويعبثون فيه، فهم يرفعون هذا وينزلون ذاك دون أدنى مجهود مما كان جيل كبار النقاد ينهضون به قبل عقود قليلة، فنقّاد مثل: طه حسين، وإحسان عباس، ومحمد مندور، وحسام الخطيب، ولويس عوض، ومحمود محمد شاكر – على سبيل المثال – كانوا يقدّمون دراسات مطولة مفصلة قبل أن يصدروا أحكامهم. أما اليوم، فغالبًا نحن أمام أحكام متهورة تشيعها وسائل الإعلام ووسائل التواصل من دون دراسات أو قراءات نقدية تسندها أو تسمح بها.

اختلط النقد في أيامنا الراهنة بالإعلام، وكثير مما يظنه الناس نقدًا لا يستحق هذه التسمية، وإنما هو من ألوان الترويج والتسويق. النقد يتطلب أن تعكف على الكتاب بدأب، وأن تمتلك خلفية نقدية معمّقة ومعرفة واسعة بالحقل الذي تضع نفسك فيه. طبعًا لا نحجر على الناس آراءهم، ولا نمنعهم من شيء، وأنت اليوم تمتلك كامل الحرية لتقول ما تريد وقتما تريد، ولكن النقد ليس بخير رغم كثرة المنابر وسهولة النشر، فالنقد كما يبدو لي ينشط مع التريث والتأني والتتبع الدقيق للظواهر، وهو ما ليس متاحًا في عالم اليوم.

  • كيف تنظر إلى النقد العربي اليوم؟ وما رأيك بمقولات مثل "موت الناقد"؟ ما الغاية منها ومما سبقها من نعوات مشابهة مثل "موت الرواية"، و"موت القارئ".

هذه مقولات رمزية في الأساس، أفهم أن المقصود منها تأبين حقبة وبدء أخرى، وقد يعني ذلك توقف النقد أو الرواية أو الفلسفة أو غيرها عن التطور وعن التحول، والوقوع في التنميط والتكرار وفقدان الوظيفة. إنه موت رمزي، فقد تبقى الرواية تُكتب ولكن حين تضعف قراءتها وتفقد وظيفتها المعرفية فإنها "تموت". قد تتحول الوظيفة إلى أنواع وأجناس أخرى أدبية أو غير أدبية.

عشنا زمنًا تحت مقولة "موت المؤلف" ذات الطابع "البارتي" نسبة إلى رولان بارت صاحب المقالة الشهيرة التي تحمل هذا العنوان في الحقبة البنيوية، فشهدنا معها صعود النقد النصي الذي حاول أن يبعد الاهتمام عن المؤلف لصالح النص. ومع ذلك لم يمت المؤلف، فهو في نهاية الأمر منشئ النص ومخترعه، ولا يمكنك أن تزيحه جانبًا وتنسى أمره.

إذن هي مقولة فلسفية القصد منها قرع الأجراس وأحيانًا وصف ما يجري بعبارة سحرية من هذا النوع دون الدخول في التفاصيل. وهي من ناحية أخرى سمة من سمات مرحلة "ما بعد الحداثة" في الثقافة الأوروبية، إجراء ضروب من القطع مع مراحل سابقة، والإيحاء بالتحول المرغوب أو المطلوب. ومع ذلك فإن النقد والأدب لا يموت، وإنما يتحول من ناحية الطبيعة والوظيفة.

  • يرى البعض أن دور "النقّاد" انتهى بعد صعود ما يُعرف بـ "المؤثرين" في مواقع التواصل الاجتماعي. ما رأيك بما يقال؟ وكيف تنظر إلى تأثيرهم على راهن المشهد الأدبي العربي ومستقبله؟

لا شك في أن تطور تكنولوجيا الاتصال وما تبعها من انتشار وسائل التواصل الاجتماعي قد لحق بمجالات كثيرة، منها المجال الأدبي والنقدي. مع ذلك فلا نتوقع أن يظهر نقد نوعي ومفيد من خلال هذه الوسائط، ذلك أن طبيعتها المبنية على السرعة والاختصار والتحول لا تسمح بظهور نقد حقيقي، يثري الظواهر والأعمال الأدبية.

أظن أن دور هذه الوسائط والوسائل إعلامي وترويجي أكثر منه أدبيًا أو نقديًا. ربما تلقي بظلالها وتأثيراتها على انتشار بعض الخصائص والأنواع، من مثل تشجيع الأنواع القصيرة والمكثفة في الشعر والقصة على سبيل المثال، وربما تؤثر بعض التأثيرات اللغوية والأسلوبية، ولكنها مع ذلك تظل خارجية التأثير لأن الحياة بتعقيدها وثقافتها وفكرها أوسع بكثير من هذه الوسائل.

  • تشير مؤلفاتك إلى رغبتك في الإفلات من التصنيفات، إذ تتوزع على الرواية والشعر والقصة القصيرة والتراث والتاريخ وصناعة المعاجم، عدا عن أنها تراوح بين الماضي والحاضر، بين أعمال تراثية وأخرى معاصرة. حدّثنا عن هذا التنوع في مشروعك النقدي، والبحثي، إن كان ذلك ممكنًا. غايته وأسبابه.

أنا لست مع التخصص الضيق، خصوصًا في المجال الأدبي والثقافي، ذلك أن ما يربط فروع الأدب وأنواعه أوسع بكثير مما يباعد بينها، وربما كان لنشأتي وتعليمي دور في ذلك، فقد تعلمت لدى أساتذة أقرب إلى الموسوعية، وإلى توسيع مجال التخصص، فوجدت نفسي في كل هذه المجالات، أتابعها بشغف، ولا أقيم وزنًا للمراحل التاريخية، بل أحس أحيانًا أن الشعر قديمًا وحديثًا هو ظاهرة واحدة، إذ كيف تكون شاعرًا حديثًا وأديبًا حديثًا وليس لديك إلمام بالمعلقات وشعر الصعاليك، أو بتجارب أبي تمام والمتنبي والمعري على سبيل المثال؟ وعندما أقرأ لهؤلاء ولغيرهم، يتبيّن لي أن الشعراء الكبار في كل العصور يقاومون العتمة ذاتها.

كذلك الحال في الأنواع السردية، فأنت لا تستطيع أن تتبين الظاهرة الروائية من غير أن تتفهم أصولها وجذورها في السرد العربي القديم، وأنت لا تستطيع نقد القصة القصيرة المعاصرة من غير أن تربطها بقصص الجاحظ والقاضي التنوخي وابن الداية وغيرهم من كبار القصاصين القدماء.

بعض مؤلفاته

أما الاهتمام المعجمي فأراه مكملًا لشغفي باللغة العربية، وبمفاتيحها وألفاظها. فالمعجم يمثل حصيلة اللغة ووعيها ومرآة عطائها، إذ تخبئ الكلمات والتعبيرات المعجمية ثقافة اللغة وحضارة أصحابها، وقد أسهمت في النقاش الدائر حول المعجم التاريخي للغة العربية من خلال كتابي "الصناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب". كما وضعت معجمًا تراثيًا بعنوان "مفاتيح التراث" يهدف إلى إنجاز عمل معجمي يؤرخ لأبرز الألفاظ المفتاحية للثقافة العربية قبل الإسلام، وأصدرت مجلدًا منه في نحو 500 صفحة. هذا النشاط المعجمي متمم للنشاط النقدي والأدبي، فالمعجم بمعناه الثقافي والحضاري عمل مرجعي يرسّخ الأدب ويفيد منه.

  • تقدّم في كتابك الأخير "بلاغة المنفى: تجربة في قراءة القصيدة الدرويشية" قراءة في قصيدة واحدة من قصائد محمود درويش هي: "منفى، نهار الثلاثاء والجو صاف". لماذا وقع اختيارك على هذه القصيدة تحديدًا؟ ما الذي يميزها عن بقية قصائد درويش الأخرى؟ خاصةً تلك التي تتحدث عن المنفى؟

جاء اختيار محمود درويش في هذه الدراسة لاعتبارات متعدّدة، في مقدّمتها مكانة تجربته الشعرية وتطوّرها فيما يزيد على أربعة عقود، شهدت تحوّلات مُركّبة مُتداخلة. وبالرغم من انغماس درويش في الحركة الوطنية والسياسية الفلسطينية، فإنه ظلّ محافظًا على أصالة شعره وعلى تجدّده، وتنبّه إلى حصار الهمّ السياسي وخطر الوظيفة الوطنية التي ألقيت على شعره، فبذل جهدًا غير خفيّ لتحقيق التوازن بين الوظيفة الجمالية ومتطلبات اللحظة السياسية والوطنية، وعبّر شعره تعبيرًا عميقًا عن مشاغل الهويّة الفلسطينية وإشكالاتها، في ظل التهديد الذي تعرّضت له، وغدا أداة من أدوات المقاومة ضدّ المحو وضدّ العدوان على وجود الإنسان وعلى لغته.

أما تسمية الكتاب ببلاغة المنفى، فتعود إلى أهمية موضوع "النفي" و"المنفى" في شعر درويش بعامة، وفي هذا الديوان، وفي القصيدة المختارة للتحليل. وبإضافتها إلى "بلاغة"، نكون قد ربطنا الجمالي بالموضوعي في تركيب واحد دال على تجربة الشاعر وعلى منظور القراءة. وأما العنوان الفرعي، فأردنا منه أن يمثل وعيًا نسبيًا نؤمن به، فقراءة الشعر مثل كتابته "تجربة" تقوم على قواعد وتنظيمات يختارها الشاعر والناقد، ولكنها ليست مسلمات وليست صيغة نهائية تمنع القراءات الأخرى.

محمد عبيد الله: علّمني الواقع والتجربة المباشرة لي وللشعب الذي أنتمي إليه أن الكتابة وظيفة لا رصف كلمات ولا زخرفة بلاغية

وفي سبيل تحقيق هدف الكتاب اخترت قصيدة "منفى: نهار الثلاثاء والجو صاف" التي تتميز بطولها وبمكوناتها الشعرية والسردية المتشعبة، كما تتضمن تناولًا جديدًا لموضوعة النفي التي عُني بها الكتاب. والقصيدة إجمالًا قصيدة ثرية وجميلة تسمح بتقديم تحليل نقدي موسّع، ذي صلة بتحولات شعر درويش وبطبيعة الشعر العربي الحديث نفسه.

تضمن الكتاب سبعة فصول مكثفة إلى جانب المقدمة والخاتمة وقائمة المصادر والمراجع، وتُظهِر هذه الفصول الخريطة النقدية للكتاب، وطبيعة الدراسة الداخلية الفاحصة التي اجتهد فيها المؤلف لتقديم نموذج للدراسة المتعمقة البعيدة عن التناول المضموني أو التاريخي، لصالح قراءة تحاول قدر المستطاع التعمق في النص الشعري وتأمله من منظورات متشعبة، والوصول إلى الدلالة انطلاقا من الدراسة النصية الداخلية.

وخلاصة هذه الدراسة ونتيجتها تتمثل في تأكيد حاجة القصيدة الحديثة للقراءة المتأنية وإلى التحليل العميق، وأن تجربة قراءتها تجربة ممتعة تستحق الصبر والأناة.