21-سبتمبر-2023
جاسم الأسدي، الجفاف في العراق، والعطش في العراق

يسعى الحوار إلى استكشاف واقع المياه والجفاف في العراق وتأثيرات ذلك على مستقبله (الترا صوت)

في عام 2040 قد يفقد "بلاد الرافدين"، ما تبقى من ماء في دجلة والفرات، فيما يعايش العراق هذه الأيام أزمة مائية غير مسبوقة، إذ تتراجع حصة الفرد العراقي من المياه، وكذا مخزونات الدولة، مع انخفاض فعلي في حجم المياه التي تتدفق إلى نهري دجلة والفرات، من تركيا وإيران، ضمن سياق شائك ومعقد من ناحية سياسية وتخطيطية، تجعل العراق عاجزًا أمام "عطشه".

والتقديرات تشير إلى أن العراق، سيواجه في مستقبله القريب، أزمة مائية من الأصعب في العالم، والتي قد تهدد الحياة في عدة بقع منه، بالإضافة إلى التنوع الحيوي، وإرث ثقافي عميق، في مناطق مثل الأهوار العراقية.

وللوقوف أكثر عند جوانب الجفاف في العراق، والمسار الذي أوصلنا إلى حالة عطش العراق القائمة حاليًا، يحاور "الترا صوت"، الناشط البيئي جاسم الأسدي، وهو أحد مؤسسي ورئيس منظمة طبيعة العراق، المدافعة عن البيئة والتي تعمل على استعادة والحفاظ على البيئة الطبيعية في العراق، وينشط الأسدي في منطقة الأهوار العراقية بشكلٍ كبير، ويُعدّ أحد المصادر الموثوقة في مجال الحديث عن الواقع البيئي والمائي في العراق والأهوار العراقية، يصدر له العام المقبل كتاب "أشباح أهوار العراق: تاريخ، صراع، مأساة، والاستعادة" (كتاب مشترك). تعرض الأسدي للاختطاف بسبب نشاطه البيئي في شباط/ فبراير من العام الجاري.

جاسم الأسدي: الحقيقة، العراق يواجه شحًا مائيًا، وليس إجهادًا مائيًا فقط، فقد عبرنا الإجهاد المائي


  •  لنبدأ بهذا السؤال العام، وبالرغم من كونه بلاد الرافدين، يتم تصنيف العراق خلال السنوات الأخيرة كأحد البلدان المهددة بإجهاد مائي حاد. إلى ماذا ترجعون هذا الوضع؟ وإذا أمكنكم أن تقدموا لنا تصورًا عامًا حول أزمة المياه في العراق؟

الحقيقة، العراق يواجه شحًا مائيًا، وليس إجهادًا مائيًا فقط، فقد عبرنا الإجهاد المائي، والمشكلة في المياه العراقية، أنها في الغالب كانت وافرة، والعراق كان مهددًا بالفيضانات وارتفاع مناسيب دجلة والفرات، والتاريخ شاهد على فيضانات كبيرة اجتاحت المدن العراقية الكبرى، مثل بغداد والناصرية وحتى مناطق الفرات الأوسط، وكان آخر فيضان كبير في عام 1988، الفيضان الذي شهده الفرات بشكلٍ كبير، حتى أن أجزاءً من مدينة الناصرية ومدينة الفهود ومدينة الشبيشات غرقت بالكامل، ولم يكن آنذاك سدود كبيرة في تركيا وإيران، وكانت السنوات المطيرية، مناسبةً للفيضانات.

ومثلما نعرف، العراق يعتمد في مياهه على دول الإقليم، أي تركيا وإيران بشكلٍ كامل، فنهر الفرات 85% من مياهه تأتي من تركيا، وأقصد الفرات داخل العراق، و12% من سوريا، و3% من البادية الغربية للعراق. ولكنّ، سنة بعد أخرى كانت السدود تقام هناك، ومشاريع ري كبيرة، وحجز للمياه، وإنشاء أنفاق لتحويل المياه.

وباعتقادي، الجرس الخطير الذي دق مشكلة المياه في العراق، كان في عام 1975 عندما بدأت تركيا بتخزين المياه في سد كيبان على الفرات، مع تزامن قيام سوريا بتخزين المياه في سد الطبقة، فكان هنالك بحدود 42 مليار متر مكعب من المياه، التي خزنت ابتداءً من عام 1975 في هذين السدين وحدهما علمًا أن لدى تركيا حاليًا 22 سدًا على دجلة والفرات مما أثر على الفرات بشكلٍ كبير. وهكذا وصلنا بالنتيجة إلى مراحل متقدمة، وكان آخر سد تركي ضخم، هو إليسو على نهر دجلة، وسعته أكثر من 11.70 مليار متر مكعب، وهو سد طاقة، وكما تنوي تركيا العمل على إنشاء سد جديد للري (الجزرة)، بالقرب من الحدود السورية، وسيقضي على ما تبقى من المياه في نهر دجلة.

نحن منذ عام 2021، كان هنالك جفاف حاد، وبدأت كميات المياه المخزونة في السدود العراقية الكبيرة مثل سد الموصل وحديثة ودوكان وبحيرة الثرثار، بالتناقص بشكلٍ مستمر، نتيجة قلة المياه الواردة وزيادة كمية المياه المطلقة، للزراعة والأنشطة البيئية وللأهوار العراقية، بالإضافة إلى التبخر الحاد نتيجة ارتفاع درجات الحرارة.

وإذا أردنا تلخيص الأسباب الكبيرة، فهي سياسة دول الجوار، تركيا وإيران، تجاه المياه. والناحية الثانية، التغير المناخي وما جلبه من ويلات قلة الأمطار والثلوج، وبالتالي ندرة كميات المياه المتاحة للعراق. ناهيك عن أن الثقافة العامة في العراق، سواء ثقافة المواطن أو المزارع، هي ثقافة وفرة المياه، والهدر وعدم النظر إلى الأمام، وهذا ما وقع فيه صانع القرار، الذي كان يفترض به منذ عام 2003، بناء خططه على أساس، القلة في المياه الواردة، ويقوم بإجراء مباحثات وبروتوكولات واتفاقيات ثنائية ملزمة، مع تركيا وإيران، على أساس المصالح المشتركة، وفي نفس الوقت العمل على التغيير من استراتيجية الري السيحي والسومري، الذي يتطلب كميات هائلة من المياه في قنوات مفتوحة ومضخات عالية التصريف، إلى الري بالتنقيط والرش ووسائل الري الحديثة، التي تقلل من استخدام المياه بمقدار كبيرة جدًا. 

getty

  •  ما هي اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها أزمة المياه في العراق، بهذا الشكل الذي نشهده حاليًا؟

أنا أعيش في منطقة الأهوار العراقية، حياتي وعملي هنا وهدفي الحفاظ على هذه المنطقة والإرث الحضاري الكبير فيها، الذي أدخل على لائحة التراث العالمي في اليونسكو عام 2016، وكان لي شرف المساهمة بذلك. نحن في الأهوار، جابهنا تجفيفًا مريعًا ومخططًا ومدروسًا بشكلٍ سياسي في تسعينات القرن الماضي، وحتى عام 1995 أصبحت الأهوار جزءًا من الصحراء العراقية، وجففت بالكامل وهجر السكان المنطقة، لأن غالبيتهم من مربي الجاموس أو يعملون في صيد الأسماك، لكن في عام 2003 بعد سقوط النظام، قام أهالي المنطقة بتفح السدود ودخلت المياه. ولكن في عام 2009، واجهنا جفافًا حادًا، وتكرر ذلك في عام 2015 ومن ثم 2018، وفي كل سنة جفاف تليها سنة مائية بسيطة، ولكنها تكفي إلى إعادة غمر المنطقة بالمياه والزراعة.

أمّا الجفاف الحاد، جاء في عام 2021، وباعتقادي اللحظة القوية للجفاف، والتي تحكمت بمرافق المياه الكلية، وأقصد الاستخدامات الزراعية، خاصةً أن استخدام المياه في الزراعة يبلغ 70-85% من كمية المياه الواردة للعراق.

ونستطيع القول، إن الأزمة الحالية  منذ 2021، سبقتها الأزمة الملموسة عام 2009، وهو العام المؤشر للجفاف. والفاصل الكبير للنظر للأهوار والمياه العراقية بأنها تحت التهديد، هو كما قلت سابقًا، منذ عام 1975، وفي تلك السنة كان المواطن العراقي يخوض في مدينة عانة أو مدينة حديثة، نهر الفرات ماشيًا وليس سباحة، من ضفة إلى ضفة أخرى. وما أريد أن أقوله من ذلك، إن السياسيين في العراق، في أربعينات القرن الماضي، نظروا بشكل متقدم للمستقبل أكثر من سياسيين اليوم. ففي عام 1946، عقد نوري السعيد اتفاقية تعاون بين العراق وتركيا، وكان مع الاتفاق بروتوكول مائي، يتيح للعراق إنشاء سدود وإداراتها في تركيا، أي خارج حدود العراق، لكن للأسف الشديد لاحقًا تم إهمال هذا الموضوع، إلى حين "وقوع الفأس بالرأس" كما تقول العرب، وأصبح الجفاف حتميًا، حتى أن الخطة الصيفية للزراعة، في العراق قد ألغيت. وانخفضت الأراضي الزراعية في هذا العام المخصصة للذرة والأرز، أما في الموسم الشتوي الماضي،فقد انخفضت الأراضي الزراعية  إلى أكثر من 40%، وخرجت أراضٍ زراعية كثيرة عن الخدمة، وأدى ذلك إلى التملح والتصحر.

نحن في الأهوار، فقدنا الكثير من الأراضي، وخسرنا تقريبا 90-92% من مجمل الأراضي المغمورة.

اقرأ/ي: مراجعة أزمة الجفاف بالأرقام.. كم فقد الفرد العراقي من حصته المائية خلال 4 سنوات؟

الإعلان عن جفاف هور في ميسان بالكامل

أزمة نفوق الأسماك تذكر بتحذيرات العطش: العراق قد يشتري مياه الشرب مستقبلًا

  •  كيف تؤثر هذه الأزمة على التنوع الإحيائي العراقي؟ وكيف تؤثر على المجتمعات المحلية -مثل مجتمع الأهوار- ونشاطاتها؟

التنوع الإحيائي كبير في العراق، وصدر كتاب عن منظمة طبيعة العراق "Key Biodiversity Areas in Iraq"، ويتحدث عن كل التنوع الإحيائي في العراق، وعن 84 موقعًا يمكن أن تكون محميات متنوعة، كما أن دخول الأهوار العراقية إلى لائحة التراث العالمي، جاء نتيجة التنوع الإحيائي الهائل، ناهيك عن الكثير من الطيور والثدييات الموجودة على القائمة الحمراء، وهي منطقة مهمة للتنوع ليس للعراق والمنطقة، بل للعالم أجمع.

المياه هي الحياة، وانحسار المياه، عن الأهوار العراقية ومناطق أخرى كثيرة في العراق لأنها تصحرت، ترك تأثيرًا كبيرًا على التنوع الإحيائي الهائل، خاصةً بما يتعلق بالتنوع المعتمد على المياه، مثل الطيور والبرمائيات، وكائنات ومخلوقات كثيرة، كما أن الصحراء العراقية أجدبت كثيرًا.

يشار إلى أن درجات الحرارة ارتفعت في أكثر من 13 محافظة عراقية، خلال هذه السنة، إلى أكثر من 50 درجة مئوية، اليوم (6 أيلول/ سبتمبر) أتحدث معك، من منطقة وصلت فيها درجة الحرارة إلى 51 درجة مئوية. وعدم وجود مياه في هكذا طقس، يترك تأثيره الكبير على التنوع الإحيائي. على سبيل المثال، من الصعوبة اليوم، أن تجد طيور هازجة قصب البصرة، والذي يُعدّ من الطيور المهمة والموجودة على القائمة الحمراء، وتأتي صيفًا من جنوب أفريقيا، ثم تعود إليها. اليوم أيضًا مهدد بشكلٍ كبير كليب الماء ذو الفراء الناعم (ماكسول)، وهو حيوان اكتشفه عالم بريطاني، في أهوار جنوب العراق عام 1956 وحينها اكتشف عدم تسجيله في العالم. والكثير من الحيوانات والطيور مهددة بالخطر، بالإضافة إلى الحيوانات المهمة اقتصاديًا، مثل دجاج الماء والخضيري والحذاف، وتربية الجواميس، التي فقد مربيها 30-35% من قطعانهم نتيجة قلة المراعي الخضراء، وأجبر الكثير منهم للهجرة إلى خارج حدود الأهوار العراقية.

ونمط الحياة يتغير، إذ أن المناطق التي تعتمد على المياه، سواء كانت مناطق ريفية زراعية أو مناطق الأهوار، يهاجر منها السكان إلى مراكز المدن، للبحث عن أعمال في أمور بعيدة عن أنماط حياتهم، لكن متطلبات الحياة تجبرهم على الهجرة. كما تخلق المزيد من المشاكل في تقاسم المياه بين المحافظات في العراق، إذ يعاني من يقع مسكنه أو عمله أسفل (downstream) النهرين، أمّا في بداية النهرين داخل العراق، فالمياه ما تزال جارية. وبذلك، سيكون هناك تغير ديمغرافي كبير، بالإضافة إلى تأثيرات على الثقافة، وباعتقادي أن الثقافة المحلية لعرب الأهوار، مثلما كتب عنهم في الكتاب الشهير "المعدان عرب الأهوار" لويلفرد ثيسكر، والثقافة السومرية والأكادية والآرامية وطقوس وعادات وحتى لهجات والكثير من مفردات اللغة، وأعتقد هذا كله سيقع تحت طائلة التهديد، في حال استمرار الجفاف، وهجرة السكان للمدن الكبرى للعمل داخل المدن في القطاع الصناعي أو الإنشائي، أو بحثًا عن الأنهار ليجدوا فيها ما تبقى من حياة مع قطعان الجواميس.

أزمة الجفاف

  •  ما هي انعكاسات أزمة المياه والمخاطر على الحياة في العراق؟ هل يمكن أن تتحول مناطق في العراق إلى بقع غير قابلة للحياة؟

تعرف أن العراق بلد زراعي، وشهد هجرات كبيرة من الجزيرة العربية في تاريخه الطويل، والقبائل العراقية هي قبائل قادمة من الجزيرة العربية واليمن، لأن العراق كان غنيًا بالماء، وتسمى أرضه أرض السواد نتيجة كثرة مزارع النخيل، والزراعة تعتمد على المياه، وقلة المياه، تعني تدهورها بشكلٍ كبير، وبالأخص في نهاية النهرين، والجنوب بشكلٍ عام مثل البصرة والمثنى وميسان وذي قار. وهذا سيؤثر كثيرًا على اقتصاديات الناس ومستقبلهم، وسيخلق مشاكل كبيرة، ويقلل من الغلة الزراعية، وبالنتيجة نصبح بلدًا أكثر اعتمادًا على النفط، بالطبع أكثر من 94% من الميزانية في العراق بناءً على اقتصاديات نفط، لكن سيزداد التدهور، كما كان الأمل هو تطوير الزراعة خلال هذه السنوات. لكن يبدو الأمور تذهب إلى اتجاه سيء، وهذا مؤشر خطير على أن  مناطق كانت مأهولة، ستفقد الكثير من عناصرها البشرية، وتخسر نشاطها الاقتصادي، وتفقد ثقافاتها المحلية.

  • كيف يتقاطع خطر الجفاف مع الأزمات الأخرى في العراق؟

الجفاف يتقاطع مع كافة الأزمات الأخرى، يقال العراق بلد استقر إلى حدِّ ما، لكنه بلد غير مستقر مائيًا واقتصاده ريعي وأحادي، ولازال الوضع السياسي غير طبيعي، وهناك الكثير من العصابات، ومجموعات سلاح غير شرعية ومتطرفة، أنا المتحدث إليك خطفت لأنني ناشط بيئي في شهر شباط/ فبراير هذا العام، وكدت أفقد حياتي لأني ناشط وأدافع عن المياه.

تتقاطع أزمة الجفاف مع الأزمات الأخرى، تخلق وضعًا نافرًا وغريبًا، وباعتقادي ما يحصل سيلقي بظلاله على المستقبل بشكلٍ أسوأ، إن لم يتحسن الوضع. وبالطبع ليس صعبًا محاولة عمل ذلك، مع إيران وتركيا، لا سيما أن تجارتنا مع تركيا تفوق 15 مليار دولار سنويًا، ومع إيران تفوق 10 مليارات دولار سنويًا، وهناك جملة من الأمور الجيوسياسية والطاقة، بالإضافة للمياه. كما يجب العمل للتوجه إلى الري بالتنقيط، بدلًا من الري السومري والسيحي والقنوات المفتوحة والمضخات ذات القدرات عالية التدفق. وتغيير نمط الزراعة في العراق، أمر ليس صعبًا، فمن غير الممكن الاستمرار في زراعة الأرز، في موسم صيف قاتل، نصرف عليه أكثر من 9 مليارات متر مكعب، كما حصل عام 2021.

على العراق أن يضع خطة زراعية، تطلب مياهًا أقل، والاعتماد على الزراعة التي تحتاج إلى البصمة المائية القليلة.

أزمة جفاف

  •  مؤخرًا أغلقت إيران مياه نهر الزاب الأكبر عن العراق، ما تأثير ذلك على الموارد المائية العراقية؟

لا أريد أن أقلل من تأثير ما حصل، لكن هي قامت بإقامة نفق لنقل المياه لمسافة أكثر من 10 كم عند الزاب لكن باعتقادي تأثير تركيا على المياه أكثر من إيران، رغم أن تأثيرات إيران كبيرة، لأن إيران في فترة أغلقت نهر الكارون بالكامل، وهو نهر مهم لشط العرب، كما قامت بإنشاء 3 سدود على نهر الكرخة، وهو من الأنهار الهامة والمغذية لهور الحويزة داخل العراق، كما أغلقت أكثر من 43  نهرًا يغذي نهر ديالى، كما قللت المياه القادمة إلى نهر سيروان، المغذي إلى بحيرة دربندخان.

لكن، ما أريد أن أقوله، تركيا وإيران يؤثران بشكلٍ كبير على المياه في العراق، وتأثير تركيا الأكبر يحصل على تدفق المياه في الفرات والدجلة، وإيران مهمة على تدفق المياه باتجاه دجلة وشط العرب، والحقيقة المرة أن العراق دخل منذ عام 2007 في معاهدة رامسار، وهي اتفاقية أخذت اسمها من مدينة رامسار الإيرانية، والبند الثالث من الاتفاقية يقول إنه لا يمكن لأي بلد متشاطئ مع الآخر على المياه، أن يقوم بإنشاء أي سد أو منشئ خرساني أو ترابي، إلّا بعد التشاور مع الدولة الأخرى، ولكن للأسف إيران تقوم بذلك دون التفاهم مع العراق، وكذا تفعل تركيا.

باعتقادي أن الموضوع لا يتطلب فقط تقسيم المياه أو جدولة المياه، بين تركيا والعراق وإيران والعراق، وإنما إدارة المياه المشتركة بشكلٍ مشترك، كما هو الحال في أوروبا.

  • مؤخرًا، زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان العراق، والتقى بعدد من المسؤولين العراقيين على رأسهم وزير الخارجية، وبطبيعة الحال كان ملف المياه حاضرًا بقوة على طاولة المباحثات. ما الذي تطلبه تركيا من العراق كي تفك عنها الحصار المائي؟

خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى تركيا، طلب من الجانب التركي زيادة كمية العراق من المياه، ووعد بزيادة الكمية لمدة شهر واحد ولنهر دجلة فقط، وفعلًا حصل ذلك، قبل أن يعاود الانخفاض. ولكن المشكلة أن نهر الفرات بقي كسيحًا، وما يصله لا يتجاوز 123 مترًا مكعبًا في الثانية والمفترض أن يزيد عن 300 متر مكعب في الثانية.

ماذا تريد تركيا؟ تريد المزيد من السدود، وحتى نكون في الصورة، تركيا لديها اليوم 580 سدًا على مجمل الأنهار والروافد، أمّا على دجلة والفرات لديها 22 سدًا، وهي مستمرة في ذلك، إذ تخطط لإنشاء سد جزرة على بعد 35 كم من الحدود السورية، وهو سد خطير على العراق.

باعتقادي، ربما تريد تركيا الاتفاق على أسعار تفضيلية للحصول على نفط العراق، مثلما يحصل بين العراق والأردن ولبنان، أي الحصول على أسعار أقل من الأسعار العالمية، وربما في ذهن تركيا أمور أخرى، مثلما نعرف هناك 4 قضايا أساسية طرحت خلال زيارة وزير الخارجية التركية، وهي حزب العمال الكردستاني والذي ينطلق في عمله من العراق، وخط نقل النفط العراقي التركي المعروف باسم "كركوك جيهان"، وموضوع التجارة والأمن العام، بالإضافة للمياه.

هذه القضايا تشغل بال الأتراك، باستثناء المياه التي تشغل بالنا نحن، ومن المفترض أن تكون المياه هي جزء من أي مباحثات حول أي من هذه القضايا الاقتصادية، وأعتقد أن تركيا قد تطلب التنازل في بعض القضايا، مثل حزب العمال الكردستاني، وخط أنبوب النفط، الذي حصل العراق على حكم محكمة دولية تطالب من خلاله تركيا بتعويض العراق، ولذلك علينا أن نركز على المياه، ولكن هي أمور كثيرة يمكن تناولها في سلة مباحثات واحدة.

أزمة الجفاف

  •  بشكل أعم، وعلمًا أن جل منابع الأنهار العراقية، بما فيها دجلة والفرات، تقع خارج التراب العراقي. بالتالي، ما تقاطعات أزمة المياه، التي يشهدها العراق اليوم، مع الواقع الجيوسياسي للبلاد؟ كيف سمحت الحكومة العراقية بأن يتم ابتزازها بورقة المياه؟

الحكومة العراقية ليس لديها الحل، العراق هو مصب النهر، وتركيا هي بلد المنشأ، فما الذي تفعله الحكومة العراقية. الحقيقة، مشكلة العراق المائية، ليست مشكلة الحكومة العراقية الموجودة اليوم، كما أنت قلت، المسألة معقدة وقديمة، وكان يفترض منذ عام 1975 أن تتخذ الحكومات المتعاقبة إجراءات للحد من الجفاف القادم، على الرغم من وفرة المياه.

بالمناسبة، منحنى الحاجة للمياه ومنحنى المياه المتوفرة، تقاطع لأول مرة في كانون الأول/ ديسمبر 2015، أي قبل ذاك العام المياه كانت متوفرة أكثر من حاجة العراق، وبعد 2015 أصبح الطلب على المياه أكثر من توفرها، وتحدثنا في البداية عن الشح والإجهاد المائي، فهو بلغ 3.7 من 5، وفق مؤشر الإجهاد المائي العالمي. ومن المتوقع في عام 2040، أن يصبح العراق بلد الرافدين، بلا أنهار، ويعني ذلك أن دجلة والفرات لن يستطيعا إيصال المياه إلى شط العرب، ومن المتوقع أن تتحول مياه شط العرب إلى مياه بحر، أي تزداد ملوحة شط العرب بشكلٍ كبير، وتصل درجة الملوحة إلى أكثر من 30 ألف جزء بالمليون. ناهيك أننا عبرنا الإجهاد المائي، والذي يعني ندرة المياه العذبة وقدرتها على تلبية احتياجات السكان، وحسب المقاييس العالمية، فإن الإجهاد المائي يكون عند حدود 1700 متر مكعب سنويًا للفرد الواحد، ونحن الآن تحت 1000 متر مكعب لكل فرد سنويًا ويعني ذلك وصولنا إلى مرحلة الندرة المائية، وإذا هبطنا إلى أقل من 500 متر مكعب سنويًا، سنكون في مرحلة الندرة المائية المطلقة، وأعتقد في حال بقاء الوضع كما هو، سوف نصل إلى وضع الندرة المائية المطلقة، وستحصل مأساة، مأساة كبيرة.

  • ما تقييمكم لعمل الحكومات العراقية  في مواجهة كل هذه الضغوطات؟

باعتقادي الحكومات المتعاقبة من 2003 إلى اليوم، لم تأخذ بالحسبان أن العراق يسير إلى قلة المياه، مما يؤدي به الحال إلى الإجهاد المائي والجفاف الكبير، وكان من الواجب على الحكومات أن تعمل بكل جهدها، عبر خطط خمسية لتغيير استراتيجية الري والزراعة في العراق. وكان من المفترض الدخول في مباحثات عبر فريق متخصص مع كل من تركيا وإيران، وعقد مباحثات وبروتوكولات.

وللأسف الشديد لم تقم الحكومات المتعاقبة بواجبها، الذي تمليه عليها الظروف والتوقعات للمستقبل، وباعتقادي كانت الحكومة تهتم بتصريف أعمالها، خلال أربعة أعوام، ومن ثم تخلفها حكومة أخرى، وكان الوزير المعني يفكر في أربعة أعوام، ولا يفكر في مستقبل العراق، ولا يفكر ماذا سنفعل بعد 10 أعوام أو 20 عامًا وماذا يجب فعله، وهذا المفترض أن تقوم به الحكومات العراقية. والحكومات ركزت على قضايا اعتبرتها هي أولوياتها، مثل الأمن وداعش، حيث سيطر الأخير على مساحات كبيرة ومناطق واسعة، من بينها مدن مثل الموصل وصلاح الدين والأنبار التي وقعت ضحية لداعش، وفي هذه المدن تم تخريب منشآت الري وفي مراكز المدن دمرت تمامًا، مثل سدة الفلوجة وسامراء، ونواظم بحيرة الثرثار.

والحكومة العراقية، لم تعتبر حتى الآن المياه تحديًا كبيرًا لها، وباعتقادي يجب أن تعتبر الماء تحديًا كبيرًا وتضعه على رأس الاهتمامات، رغم وجود أزمات مثل المليشيات وعدم الأمان الكافي، والاقتصاد الأحادي، أي اقتصاد النفط والريع. وباختصار، الحكومة العراقية قصرت كثيرًا في موضوعة المياه منذ عام 2003 وإلى اليوم.

أزمة الجفاف

  •  ما هي النشاطات التي تقومون بها من أجل مواجهة الجفاف والعطش في العراق؟

الحقيقة نشطاء المجتمع المدني، مدافعون ومكافحون من أجل البيئة والمياه بشكلٍ كبير، مثل منظمات طبيعة العراق وحماة دجلة والمناخ الأخضر وغيرها، ولكن الوضع العام في البلاد يقيد حركتهم، مثلما قلت لك، أنا تم اختطافي ونشطاء كُثر تم اختطافهم أو غيبوا عن الحياة.

ونشاطنا يتعلق في مواجهة الجفاف ومعاناة السكان المحليين ورفع أصواتهم لأصحاب القرار في الحكومات المحلية والمركزية، وإنشاء حملات مدافعة عن المياه سواء على صعيد العراق أو على الصعيد العالمي، والتواصل مع المنظمات الدولية، والبحث عن سبل تخفيف الأزمة، أي بما يتعلق بالتخفيف والتكيف، وهي قضايا مهمة يجب أن تعمل عليها الحكومة العراقية خاصةً في مجال الأهوار، من خلال تخفيف ما يمر به سكان الأهوار من محنة الجفاف، وتوفير الشروط اللازمة للتكيف مع هذا الجفاف، من إنشاء حويصلات مائية وحفر مسالك للمياه. بالإضافة إلى ما سبق، نعمل على إنتاج الدراسات والمراقبة والبحوث، وهذا ما نقوم به في سياق الدفاع عن الأهوار والبيئة العراقية في العموم، في ظل ظرف أمني صعب ومشاكل كثيرة في البلد، مشكلة الجفاف هي واحدة منها.

  • تعرضت للاختطاف قبل عدة أشهر من قبل ميليشيات مسلحة، وجاء ذلك على خلفية نشاطك البيئي، هل تحكي لنا كيف تمت الحادثة؟ وما الذي كانت ترغب به المجموعة المختطفة؟ أو ما هي مصلحتهم؟

أنشط في مجال الأهوار العراقية منذ عام 2003، أي منذ سقوط النظام، ولست الناشط الوحيد، وكما تعرف أن نشاطي يتطلب السفر المتواصل باتجاه العاصمة ومدن أخرى مثل البصرة وميسان وذي قار، وكنت مسافرًا على الطريق السريع بين الحلة وبغداد، وقبل أن أصل إلى بغداد، في جنوب العاصمة أوقفتني مركبات مع إشهار السلاح في وجهي، ثم قاموا باختطاف وتقييدي وتعصيبي، وقادوا لمدة ساعة من الزمن، على طرق معبدة وأخرى ترابية، وبداية من اليوم الثاني للاختطاف، وضعت في غرفة مقيد اليدين ومعصوب العينين، وبدأ تعذيبي واستخدموا ضدي كل أنواع التعذيب، من الصعق بالكهرباء، إلى الرفع بالسلاسل إلى سطح المبنى، والركل والسحل واللكم والحرق، والإيهام بالغرق، والخنق بالأكياس البلاستيكية، لم يبقى موضع في جسدي لم يمسه التعذيب.

الأسباب، هي نتيجة نشاطي وصوتي العالي، وهم يعتقدون أني أوهمت الحكومة في تسجيل الأهوار العراقية على لائحة التراث العالمية، وأوهمت الحكومة العراقية في أن الأهوار مهمة، تخيل هذه الاتهامات!

كما اتهمت بإثارة الشغب في إيران، والمطالبة بالحصول على المزيد من المياه. الجهة التي قامت باختطافي بالتأكيد ميليشيا مسلحة غير خاضعة للقانون، لكن أي من هذه المليشيات؟ لا أعرف، بالعراق هناك العديد من الميليشيات المسلحة خارج القانون، ومن الممكن أن تكون واحدة منها ولكنني لا أعرف، ولم أعلم أيضًا مكان الاختطاف.

جاسم الأسدي: الحقيقة نشطاء المجتمع المدني، مدافعون ومكافحون من أجل البيئة والمياه بشكلٍ كبير، مثل منظمات طبيعة العراق وحماة دجلة والمناخ الأخضر وغيرها، ولكن الوضع العام في البلاد يقيد حركتهم

أمّا بخصوص الإفراج عني، بعد الضغط الجماهيري والأصوات الشعبية والعالمية، ومعرفة أهلي برقم المركبة التي قامت باختطافي، أجبروا على إطلاق سراحي، وتم إطلاق سراحي مغمض العينين، ولا أعرف الطريق التي خرجنا منها، حتى إطلاق سراحي بالكرادة في بغداد. لكن، هذا لن يثني عزيمتي عن مواصلة العمل وبكل تأكيد، بعد عودتي وشفائي والعلاج، عدت للعمل مرةً أخرى في منطقة الأهوار العراقية، اليوم تحاورني عبر الواتساب وأنا في منطقة أهوار الجبايش.

يبدو لي، أن هذه الوسائل أصبحت عقيمةً، ورغم نجاحها في إبعاد بعض النشطاء من العراق بعد اختطافهم وإطلاق سراحهم أو التنكيل بهم، لأنه من الصعب العمل في مكان لا تستطيع الدولة أن تحميك. أنا اختطفت وماذا فعلت الدولة إزاء من اختطفني؟ هل بحثت عنهم؟ هل تعرف من هم؟ أنا أشك أن الدولة لا تعرف، ولكنني على ثقة أنها لم تفعل أي شيء للذين قاموا باختطافي.

مع هذا، نحن نعمل تحت التهديد، أنا عدت وأعرف أنني أعمل تحت التهديد، وأعرف أن الذين قاموا باختطافي، إن كنت لا زلت في رؤوسهم، مرةً أخرى لن يخطفوني، سيقتلونني، بطلقة واحدة في رأسي.

  •  نتمنى لك السلامة أستاذ جاسم

شكرًا جزيلًا


ساهم في الإعداد، سفيان البالي وأحمد الشيخ ماجد