30-يونيو-2021

لوحة لـ تمام عزام/ سوريا

كان الصمت ثقيلًا في أذنيه وعلى صدره. تمنى لو أن زيزًا مخطئًا في حساب الزمن يخرج ليخلخل هذه الوحشة، أو أن سحلية تكسر سباتها لتركض بين قدميه وتناوره بحركاتها الطائشة المضحكة.

ولكن لا أحد، لا شيء، لا صوت.. فقط هو بخطواته المرتعدة وعكازه المتردد يمشي، في هذا اليوم الشباطي، بين أشباح كانت أشجارًا في أيام أخرى، قبل أن يحجرها رعب الحرب بلعنة غامضة.

البومة لا تصنع الخرائب بل فقط تبرع في الاستدلال على مكان وجودها

كان الهواء راكدًا ومضمخًا برائحة البارود، أما طراوة الأرض تحت قدميه فلم تبهجه هذه المرة، ذلك أن وسواسًا جعله يعتقد أن التراب معجون بالدم لا بالمطر.

اقرأ/ي أيضًا: الأخلاقي والسياسي في قضية اغتيال نزار بنات

توقف ونظر خلفه، ثم تابع كأنما تذكر أنه محكوم بهذه الخطوات المؤجلة منذ الأزل، واستيقظت ذاكرته وسط الرعب لتحسب له المسافة: بقي له مئة خطوة قبل أن يستعيد زمام قدره.

تعثر العكاز بخيط غير مرئي فانفجر الكون من حوله، وقفز قلبه إلى حلقه قبل أن يدخل في دهور من السديم البرتقالي بلا حواف ولا حدود.. بآلاف الشموس المتوهجة وآلاف الكواكب المتفجرة بلا صوت.

قبل أربعة وأربعين عامًا، في شباط آخر وإثر حرب أخرى، وقف محمود الطحان أمام خيمة عسكرية مرتجلة على السفح الغربي للتلة الترابية المجاور لقرية المغارة. خرج ضابط أسمر بهيئة ناعسة وشعر شعثه نوم غير مريح، ودون أن ينظر إلى أي من الفلاحين المتحلقين حوله، أشار إلى الأرض المنبسطة أمامه، وقال محدثًا كائنات غير مرئية:

ـ صارت خالية من الألغام.. نظفناها كلها.

وبعد أن هم بدخول الخيمة، استدار على عقبيه ببطء ونظر باتجاه الجبل كأنما ليتأكد أن الحرب انتهت بالفعل، وأن العدو لن يقفز مجددًا من خلف الصخور. أضاف:

ـ على مسؤوليتي.

لكنه بدا غير مقتنع هو نفسه بهذه الإضافة، ربما لأن المعارك اليائسة التي خاضها مؤخرًا قد جعلت منه شكاكًا أبديًا، أو ربما بسبب النعاس الذي حال دون أن يكون قادرًا على تبنٍ جدي لأي مسؤولية.

ومع ذلك، فعندما طلع صباح اليوم التالي، دافئًا وبلا هواء، خرج محمود الطحان ممتطيًا جراره الفورد الأزرق، على رأس مسيرة احتفالية إلى الأرض التي ظلت مهجورة طيلة سنوات الحرب.

لم يفاجأ عندما لعلع الرصاص وسالت الدماء، استخدم بقايا سلطته ودفع بأولاده إلى بحر الهجرة، فأن يموتوا غرقى في بحور بعيدة أفضل من لملمة أشلائهم هنا

وراءه سار بكره ياسر بصدر نفخه اختيال المراهقة، وخطوات غذاها الحرص على تقدم أخواته الثلاثة اللواتي رحن يتقافزن خلفه ويطلقن ضحكة مكتومة إثر كل وشوشة أو غمزة متواطئة. وخلف الجميع، في مؤخرة الموكب، كانت أم ياسر، غزالة، تتمايل فوق حمار كسول تشي مشيته بأنه غير مستعجل في الوصول إلى أي مكان.

اقرأ/ي أيضًا: حديث عابر عن الخوف

شرع الجرار يشق سطح الأرض الجائعة للمسة حنان بشري، فيما تحلق البقية في دائرة قرب الساقية لإعداد الفطور. لم يشعر بالتعب ولم يكن جائعًا، ولكن نظرات ياسر المتلهفة لتسنم مقود الجرار أجبرته على النزول في منتصف الثلم السابع. صعد ياسر مكانه فيما توجه هو إلى حلقة الفطور. غسل يديه في مياه الساقية، وجلس بانشراح احتفالي ليأكل، ولما كانت اللقمة الثالثة لا تزال في فمه (سوف يتذكر ذلك إلى الأبد) ومضت السماء خلف رأسه وانخلعت ضلوعه على وقع انفجار مدو. أغمض عينيه منتظرًا أن تبادر أي من النسوة الأربعة لإعلان مهدئ، كأن تقول إن الانفجار حدث في مكان بعيد، في زمان غير هذا الزمان، أو أنه ببساطة من اختلاق مخيلته المثقلة بأشباح الحرب ووساوسها.

ولكن لم يكن حوله من يبادر إلى أي إعلان، فقد كانت النسوة قد هرعن إلى حيث حطام الحديد وأشلاء اللحم. نهض كأنما في حلم وركض بضع خطوات قبل أن يصيب قدميه خدر سوف يعاودهما كثيرًا على مدى الأربعة والأربعين عامًا التالية. أكمل المسافة حبوًا ولن يعلم إطلاقًا إن كان ذلك الدبيب المسرنم قد أوصله إلى أي مكان، فقد غاب الوجود واختلطت الأصوات والصور في كابوس لا شيء حقيقيا فيه إلا الألم.

في أيام نقاهته رأى الضابط مصادفة، ولمفاجأته فقد تبخر الحقد الذي خبأه لهذه السحنة المشؤومة. كان الضابط ذاهلًا متشبثًا بهيئته الناعسة وشعره المشاكس الحرد. لقد بدا غير عارف بأن له علاقة بمأساة ما، وراح يجرجر خطواته معذبًا ببدلته الكاكي المترهلة وجزمته الفضفاضة. لقد أثار شفقة محمود الطحان الذي غزاه حدس مفاجئ بأن هذه الكائن البائس موعود هو الآخر بلغم يصعب تحاشيه.

أنهى حداده أخيرًا، وحزم إرادته ليستنبت أرضه أشجار تفاح وإجاص ومشمش رعاها بدأب ربة منزل ريفية ترعى نباتات حاكورتها. وكذلك ليستولد امرأته ثلاثة ذكور أسماهم: ياسر ويسار وأيسر، وكان يود المزيد من الياسرات لولا أن رحم غزالة خذله وأوقف طموحاته عند هذا الحد.

ولكن شيئًا لم يستطع أن يدمل الجرح المفتوح في عمق روحه، أو أن يضع حدًا لتأنيب الضمير الذي أثق كاهله. لقد عاش سنوات طويلة بعد ذلك، حتى أنه قفز من قرن إلى آخر، لكنه بقي عاجزًا عن ابتلاع ما عده مخالفة آثمة لسنة الكون: أن يفتدي الابن اليانع أباه الكهل، وإذا كان من حافز لاستمراره في العيش فقد كان التكفير عن بقائه حيًا.

غدا خياله مسرحًا لإعادة تمثيل الحادث، وفي منامه وفي أحلام يقظته انفجر اللغم ألف ألف مرة، وإثر كل انفجار كان ياسر يخرج من وسط الدخان مبتسمًا، ليصل إلى البيت محمولًا على ظهر أبيه سالمًا معافى، إلا من رعشة خوف طفيفة تعالجها غزالة بطاسة الرعبة والفاتحة المهموسة في أذنه.

لم يكن يريد أكثر من أن يموت وهو متيقن أن أولاده على مبعدة بحر شاسع، في أمان الضفة الأخرى

أخمدت السنوات بعضًا من حسراته وقللت عدد الانفجارات في خياله، لكن دوي الانفجار الحقيقي ظل يسكن مكانًا قصيًا في عقله، وعينا ياسر المتلهفتان للموت ظلتا تطاردان أفكاره.

اقرأ/ي أيضًا: كلّنا على هذه الطريق

كفت غزالة عن الاستيقاظ ليلًا للنواح، بعد أن حذرتها جارتها أم محمود من أن هذا يعني جحودًا للرحمة الإلهية التي عوضتها عن الراحل بثلاثة ذكور.

طبخت وغنت وزغردت ورقصت في أعراس أولادها. غسلت أجساد أحفادها بالزيت والريحان، غير أن ألمًا ظل ينخز رحمها فسره الأطباء بأنه نوع من التليف، فيما فسرته هي بأنه حزن رحمها على بكرها.

عندما علت الهتافات الغاضبة، وفيما كان أولاده وأصهاره يشدون خناق بعضهم البعض في نزاع على توصيف ما يحدث إن كان ثورة أم مؤامرة، كان قلب محمود الطحان يردد أصداء طبول حرب وانفجارات وشيكة.

واتهمته غزالة بأنه بومة، فأعجبه رد يسار:

ـ يمكن هو بومة لكن البومة لا تصنع الخرائب بل فقط تبرع في الاستدلال على مكان وجودها.

هكذا لم يفاجأ عندما لعلع الرصاص وسالت الدماء، ولم ينتظر المزيد. حمل عكازه واستخدم بقايا سلطته ودفع بأولاده الواحد تلو الآخر إلى بحر الهجرة، وعندما احتجت غزالة، قال لها:

ـ فليموتوا غرقى في بحور بعيدة أفضل من أن اضطر إلى لملمة أشلائهم هنا.

وما إن دخلت الحرب قرية المغارة حتى كان قد ملأ الكهف الصخري تحت منزله بما استطاع العثور عليه من مونة، وظل مع غزالة خلدين تحت الأرض حتى وصل الرصاص إلى باب كهفهما، فزحفا في ليلة بلا قمر إلى سفوح الجبل، ليبدأا رحلة الهروب من الحرب التي ظلت تطاردهما حتى أوصلتهما إلى ضاحية جنوب العاصمة.

هناك، في مملكة الغبار والطين والبلوك العاري، عاشا دوامة الركض وراء صهاريج المازوت والمياه، والوقوف أمام شباك الفرن وفي طابور مستحقي المعونة.

صاروا خصوم الحكومة بلا اسم، ليس بسبب كثرة فرقهم وغموض انتماءاتهم، بل لأن الإعلام كان قد أطلق عليهم أسماء كثيرة استعصت على ذاكرة الأهالي

تيبست مفاصله فيما صارت غزالة عرجاء. كانت تعيش على أمل أن تنتهي الحرب قريبًا، لتعود إلى المغارة وتلم شمل أولادها، وتزرع حاكورتها بالنعنع والفجل وتربي بقرة يرعاها أحفادها.. أما هو فقد كان يغذيه أمل مختلف: أن يموت وهو متيقن أن أولاده على مبعدة بحر شاسع، في أمان الضفة الأخرى..

اقرأ/ي أيضًا: القضايا حين تتقمص أجسادًا

في كانون الأول دخلت البلاد في شتاء قارس بلا قطرة مطر، أما المغارة فقد دخلت في خضم معركة غزيرة النيران والضحايا، واحتاج جيش الحكومة شهرًا ونيفًا حتى ينتصر على الخصوم الذين صاروا بلا اسم، ليس بسبب كثرة فرقهم وغموض انتماءاتهم، بل لأن الإعلام كان قد أطلق عليهم أسماء كثيرة استعصت على ذاكرة الأهالي.

وما إن حل شباط بشمسه المترددة حتى كان محمود الطحان بين جمع من أقربائه وجيرانه القدامى على تخوم المغارة. استقبلهم عساكر الحاجز ببرود وضجر. صفوهم في رتل كأنما ليسوقوهم إلى الخدمة الإلزامية، وقادوهم في شارع القرية الرئيسي قبل أن يوصلوهم إلى مركز القيادة. خيمة مرتجلة على السفح الغربي لتلة ترابية صغيرة. ضابط أصلع متورد الخدين هو الذي خرج هذه المرة. تحدث بكلمات بدت كحجارة تتدحرج على سطح معدني:

ـ بإمكانكم أن تزرعوا أرضكم.. نظفناها من الألغام، ومع ذلك من يجد لغمًا عليه إبلاغنا فورًا.. ربما لم نكتشف لغمًا أو اثنين..

هذا إذًا ما كان الضابط الأسمر قد نسي قوله منذ أربعة وأربعين عامًا.

أين أو ممن سمع أن الزمن يكرر نفسه في دائرة مغلقة، وأن اليوم أشبه بالأمس؟ لكنه عزف عن هذا الطريق الوعر على عقله العملي غير المغرم بالمحاجات النظرية، واختار عوضًا عن ذلك أن يقول لنفسه إن الله استجاب لأمنياته السرية فأعاد الزمن إلى الوراء، فها هو من جديد يقف أمام خيمة وأمام لغم لم ينفجر بعد، فأي معجزة بإمكانه اجتراحها؟!

كانت الساعة الحادية عشرة صباحًا عندما مشى وحيدًا في بستانه، بين أطلال أشجار وفوق أرض ممزوجة بالدم ووسط هواء مثقل برائحة البارود..

بعد نصف ساعة وجدوه قرب الساقية، متكئًا على حافة صخرة كأنه في قيلولة، وكان نصف وجهه غير المحروق متشبثًا بطيف ابتسامة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنا أونلاين إذًا أنا موجود

نركض لنبقى في أمكنتنا