27-يونيو-2021

كاريكاتير لـ بيت كرينر/ أستراليا

نبيلٌ للغاية أن نموت من أجل فكرة. سأرتقي لذلك، فقط اعثروا لي على واحدة تستحق.

تتشارك كل الأفكار الجديرة بالاستحقاق (من بين تلك التي قابلتها حتى الآن)، في نقطة مركزية، وهي أنها تحمل في داخلها ـ بكل نبل ـ إمكانية إثبات أنها خاطئة، وهذا يجعلها تتشارك أيضًا مجموعة من الملامح الظاهرية مثل الإعلاء من شأن الحياة، وهجاء الموت بأقذع درجات الهجاء، حتى أن بعضها لا يرى سببًا كافيًا للموت سوى الضجر. أقدمها على الإطلاق مما وصلنا، أسماه زهير بن أبي سلمى: السأم من تكاليف الحياة.

مهما صنعنا من رموز، ومهما رسّخنا هذه الرموز وأحطناها بهالات القداسة، تبقى الأيديولوجيا فكرة خطرت لإنسان

فمن بين ما قابلت من أفكار كانت تلك التي أقنعتي أنها تستحق أن أموت من أجلها، كانت ـ للأسف ـ تريد لي أن أعيش، بل وتوغل في ذلك، وتريد لي أن أعيش سعيدًا، وأكثرها لطفًا كانت تهمس قائلة: انغمس فيما تحب، وبمن تحب، فهناك طريقة واحدة لإصلاح العالم، وهي أن تصلح بقعتك منه.

اقرأ/ي أيضًا: شاهدٌ واحد فقط

مهما صنعنا من رموز، ومهما رسّخنا هذه الرموز وأحطناها بهالات القداسة، تبقى الأيديولوجيا فكرة خطرت لإنسان، ومهما عظمت، هو ـمحض إنسان، عاش محكومًا بزمنه وبيئته، والثقافة التي يتيحها كلاهما، أعجب بفكرته بضعٌ آخرون، وتحولوا ـ لسبب أو لآخر ـ إلى مبشرين ودعاة وحواريين، أو أيًا كان اسمهم.

لا يقلل من شأنها أن تكون خطرت له في الحمام، أو أثناء مراقبة الحملان، أو في مغارة، أو نتيجة مناكفة مع أحد، ولا يزيد من شأنها أن يتبعها مليون أو مليار، فهي مؤقتة مثلنا جميعًا: أفرادًا وأشجارًا وأممًا وقارات.

تشيح الأيديولوجيا بوجهها عن الزمن، فهو عنصر مزعج لمن يريد أن يرى في نفسه صفة الأبد، ومزعج أكثر لمن يحب ربط نفسه بالأزل، وهذه نقطة ضعفها الأساسية، فما من أيديولوجيا إلا وتظن بنفسها السرمدية، وتعامل العالم على هذا الأساس.

لقد غفر العلم ذات مرة لأينشتاين خطأ اعتقاده أن الكون ثابت، ولكني أرجّح أن ذلك كان عفوًا خاصًا لن يتكرر. ولن يكون بإمكان أصحاب الايديولوجيات أن يحاججوا بقولة الثبات، دون أن يصرخ بوجههم أي طالب فيزياء: لقد كان ذلك خطأً لمرة واحدة، أما زلتم هناك؟

من عيوب الأيديولوجيا البنيوية أنها تحتاج عدوًا، ولا يستقيم وجودها دون وجود ذاك العدو، وهذا يجعلها مضطرة لإتيان أفعال ساذجة وتلفيق صفات وأحداث وتصورات، مرةً تعلي من شأن عدوها، وتنسب إليه قدرات أسطورية، لتبرر نفسها، ومرة أخرى تضطر أن تستبدل به صديقاً سابقاً، وتشيطنه.

تقوم إحدى أقدم السير الشعبية العربية (الزير سالم) على فكرة الحاجة لعدو، فطيلة أربعين عامًا تجنب الزير قتل عدوه، لأن موت جسّاس كان يعني موت قضية الزير، وفقدان معنى حياته، ورغم أننا بعد ستة عشر قرنًا على تأليف تلك الحكاية بتنا قادرين على النظر إليها بتعقل وتفهّم، لكننا مع ذلك ما زلنا ندور حول جسّاسنا، محاذرين أن نصيبه بأذى، كي لا نفقد "قضيتنا"، وبلاغة تلك الأشعار التي نكتبها لدم كليب.

أصحاب الأيديولوجيات وورثتهم، يحتاجون بعضهم بعضًا، ويشكلون فيما بينهم تحالفًا غير مقوننٍ وغير معلن، فهم يرون أنها جدران العالم التي ترسم المسافات والحدود بين البشر، وهم ذات البشر الذين ولدوا اول ما ولدوا طلقين عراةً مشّاءين، وولدوا مفطورين على الضجر.

وهم يرون كذلك أن عيوننا البشرية الصغيرة غير قادرة على رؤية العالم بشكل صحيح، وهي معرّضة (كما يمكن ان تسمع في أي عيادة عيون) لانحراف وقصر ومدّ ومدّ شيخي وكسل وقذى وخدش... وأن الأيديولوجيا هي النظارات التي تحسّن رؤيتنا وتصوبها.

لا بأس ــ ولا بدّ كذلك ـ من أن يضع واحدنا نظارات الأيديولوجيا على عينيه وهو ينظر إلى العالم، وحتى نحن ـ المتهتكين أعداء الأيديولوجيا ـ نفعل ذلك أحيانًا ونتفهمه دائمًا، لكن ما نريده هو حقنا بتغيير نظاراتنا كلما شعرنا بأن النظارات التي نلبسها تتعب عيوننا أو حتى كلما نزل "موديل جديد". وأن لا يستتبع ذلك تهم عظمى من قبيل: المرتد، العميل، الخائن، الصعلوك الخائن لطبقته.. 

تقدم لنا الأيديولوجيا شعورين رائعين:

ـ أنا متميز جدًا، لدي فردوس سأصل إليه، حتى أنني لن أكتفي بالجلوس بانتظار موعد الذهاب لهناك، أنا أناضل لأجل ذلك، وأناضل لآخذ معي أكبر قدر ممكن من البسطاء المساكين.

ـ لا أريد الاعتراف بذلك، ولكن في الحقيقة أنا مجرد كائن في الطبيعة، وأنا ضعيف، ولست واثقًا من قدرتي على الذهاب منفردًا، الطريق موحش ومظلم ومجهول، سأمضي مع كل هؤلاء، فإذا تبين أني مخطئ، فسنكون جميعًا مخطئين، وأصلّي أن لا نكون جميعًا مخطئين.

طيلة أربعين عامًا تجنب الزير سالم قتل عدوه، لأن موت جسّاس كان يعني موت قضية الزير، وفقدان معنى حياته

لو اتفقنا أن القانون ليس أيديولوجيا، فلن يكون "الآخرون هم الجحيم"، ولو اتفقنا أن الآخر قد (وربما، ولعلّ، وقليلًا وشيئًا ما، و.....) يحمل بعض الصواب في رأيه "الفاسد" فستبدأ الحدود الأجنبية في منطقة أبعد قليلًا، ولن تكون هنا عند نهاية الجلد.

اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة اجتماعات نضالية على جبل وسفحين

أخبروني عن شيء في هذا الكوكب سوى الأيديولوجيا قادر على تحقيق تلك المعجزة، أن يشكل نقطة التقاطع بين نقيصتين بشريتين بهذا التناقض: الغرور والقطيعية. عندها سيصبح النقاش مع سدنة الأيديولوجيات ذي معنى، ولن يبقى نوعًا من أنواع التمارين الذهنية، بانتظار عامل الزمن وحده لتبريده أو لإنزاله إلى مكانه الطبيعي في قبو العقل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سعداء ذات صورة

أبطال بلا موهبة